لقد أوقعتنا التكنولوجيا في فخ كبير ألا وهو ما يسمي بالواقع الافتراضي، أو مواقع التواصل الاجتماعي وهو على عكس ذلك فهو لص كبير يسرق منا جميع الأوقات السعيدة واللحظات المبهجة ويوقظنا على عزلة مميتة فهو كالمخدر في بأدي الأمر يُعطيك الشعور بالسعادة ثم يبدأ تدريجياً بسلب كل شئ. أصبحنا في عالم غريب ومريب لا نتواصل مع بعضنا البعض إلا من خلاله حتى أصبحنا لا نطمئن على بعضنا البعض ما دامنا نرى الشخص أمامه علامة أون لاين أذاً هو بخير حتى أفراد الأسرة الواحدة أصبحُوا لا يتحدثون بعضهم لبعض ويفضلون المكوث أمام مواقع التواصل الاجتماعي يأخذني العجب حينما أرى أفراد الأسرة الواحدة الجالسون في نفس ذات المنزل لا يتواصلون مع بعضهم إلا من خلال واتساب. أين ذهبت الزيارات العائلية وأين اختفت المناقشات والحوارات الأسرية؟ أصبحنا نستثمر أوقاتنا في وهم اللاشيئ مع من تتحدثون وإلى من تستمعون وبمن تتفاخرون أنه لص كبير يسرق منا أمتع اللحظات تتبع ذاتك حينما تكون في نزهة مع الأصدقاء والأهل تحترص على التقاط الصور بكثرة وبأكثر من وضع أكثر من حرصك على قضاء الوقت بسعادة معهم وجل هذا من أجل إرسالها للسوشيال ميديا في حين إذا التقطت صورة أو اثنين من أجل الذكرى واستمتعت بوقتك مع من تتنزه معهم فهذا هو الاستثمار الحقيقي حينما تستثمر وقتك مع الأهل والأصدقاء المخلصين يكون أفضل من هذه العزلة. بماذا عادت لك هذه الشاشة التي تراقبها طوال الوقت؟ هل أضافت لك عملا صالحا ينفعك بعد مماتك هل أضافت لك أشخاصا حقيقيين يدعون لك ولا ينسوك بعد مماتك لا ؟؟ لماذا أصبح الإنسان إلى هذا الحد الرخيص لا يقيم ذاته إلا بعدد الإعجاب والتعليق وعدد المتابعين وأصدقاء الوهم مع أنه أثمن شيء خلقه الله، أنه وهم يسرق منا أمتع اللحظات ويحرمنا ذوينا ونندم عند وفاتهم ونكتشف بأن لا ذكرى لنا معهم ويبتلى الأطفال بمرض التوحد من كثرة استخدام الهواتف وهناك من تسوء أخلاقهم من خلال قناع يُدعى تواصل اجتماعي مستتر خلفه عزلة افتراضية غير محدودة، أحسنوا استخدامه وأفيقوا من غفلتكم فهو ما إلا وهم وعزلة افتراضية ونحن قدوة لأبنائنا إذا تخلينا عن هواتفنا تخلت أبنائنا عنها .
يمكن القول بالجزم واليقين إنّ الإسلام هو الدين الحنيف، وهو أيضاً دين الفطرة للناس جميعاً، والدين القيم للإنسان كلهم، كما ورد في القرآن الكريم: “…فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم”[i]. وإنه مصدر من مصادر القيم الإنسانية، وتصور معين للحياة تنبثق منه القيم الإنسانية العظمي التي تستغرق البشر كلهم، وتستوعب كل شؤون حياته. وإنه رصيد قوي يهب أصحابه بصيرةً نافذةً، ويعطهم مبادئ القيم البشرية كالطهارة والنبل والشجاعة ٍوإلى ذلك، ويعصمهم من التهافت والتردي والسقوط وإلى ذلك.
ومن المهم أنه دين آدم ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، كما جاء في القرآن: “آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله…”[ii]. فهو في الحقيقة دين كل رسل الله الذين أتوا في العالم، لابل أنه دين كل مولد يولد، كما جاء في الحديث: “ما من مولد إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسّون فيها من جدعاء”.[iii]
ويقول بعض العلماء أنه بمثابة البوتقة، تصهر فيها الشخصية الإنسانية، كما تصهر المعادن الثمينة، فينفي خبثها، وتنضج خصائصها، وتصقل مواهبها، فتصبح خلقاً أخراً ذا جاذبية ونضارة. فلم يكن يري في دين الفطرة سوي خير للإنسان والإنسانية، وتاريخه البشري حافل بالقيم الإيجابية الصالحة، فيوجب على كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي نشر قيم الخير والسلام بين أفراد المجتمع الإنساني، ليرتقي المجتمع بأفراده.
كثيرا ما نسمع ونقرأ عن التعصب الطائفي والمذهبي والديني الذي ساد في العالم، خاصة في الهند، تنتهك به كل الحرمات، وتذبح كل القيم، وتستباح الشخصية الإنسانية استباحة كبري، فيعتدي على كرامتها، وتداس خصائصها، ولكن الإسلام حيث يحث المجتمع الإنساني على التخلق بالقيم الإيجابية الصالحة يصلح بها المجتمع، ويحرضه علي ترك كل القيم الجاهلية العصبية، والغربية الخبيثة، وعلى التنزه عنها.
ومن البديهي أن القيم الإنسانية توجد في كل الشرائع والأديان والمباحث الفلسفية، بأنها قواعد راسخة توفر الحد الأدنى الكافي لحياة تحت غطاء الأمن والسلام، وذلك منذ فجر التاريخ البشري، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها، وبأنها يحتاجها الإنسان جميعاً للحفاظ علي حق الحياة والحرية والأمن لكل فرد من أفراد المجتمع، وهي فرض عين على الجميع فرداً فرداً.
وأيضاً هذا من الثابت أن الإنسان هو أشرف المخلوقات بأنه صاحب العقل والقيم الإنسانية، فيلتفت إليها دين الفطرة بتعليمه عن القيم الإنسانية مثلاً: العدل والمساواة والحرية والصدق وإلى ذلك. فاخترنا لنا بحثاً عنوانه “القيم الإنسانية في دين الفطرة”، وقبل أن نخوض في صلب الموضوع، لابد أولاً أن نعرف ما المراد بكلمة “القيم”؟ هي جمع لكلمة القيمة التي تعني بها صفات، أو مثل، أو قواعد تقام عليها الحياة الإنسانية، فتكوّن بها حياة إنسانية، وتعاير بها النظم والأفعال، لتعرف قيمتها الإنسانية من خلال ما تتمثله منها.
تعريف القيمة:
القيمة لغةً: “واحد القيم، وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء. والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم”.[iv]
عرف كثير من علماء الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس القيم. ومن تلك التعريفات:
1 . القيم بأنها “موجهات السلوك وضوابطه. وهي حراس الأنظمة، حامية البناء الاجتماعي.[v]
2 . بأنها عبارة عن نظام معقد يتضمن أحكاماً تقويمية، إيجابية أو سلبية تبدأ من القبول إلى الرفض، ذات طابع فكري، ومزاجي، نحو الأشياء وموضوعات الحياة المختلفة، بل نحو الأشخاص، وتعكس القيم أهدافنا واهتمامنا وحاجاتنا والنظام الاجتماعي والثقافي التي تنشأ فيها بما تتضمنه من نواحي دينية واقتصادية وعلمية.[vi]
3 . القيم هي المبادئ والمقاييس التي نعتبرها هامةً لنا ولغيرنا، ونطالب بتحقيقها كالصدق والأمانة والعفة، والمفردات الأخلاقية الأخرى.[vii]
ويمكن القول بالاطمئنان في تعريف القيم بأنها قوالب للتفكير والعمل الإنساني، تساعد الإنسان على الحكم علي الأشياء، وعلى المرغوب وغير المرغوب من السلوك. وتأتي قيمنا ومعاييرنا من خبراتنا وتجاربنا، متأثرةً بانتمائنا للمجتمع الذي نعيش فيه، ومتأثرةً بالثقافة التي تسود حياتنا. ونحن نستمدها من الأبوين، والأقارب، والأصدقاء، والمعلمين، والمربين، ووسائل الإعلام، والتوجه.
أما من ناحية دين الفطرة، فيمكن أن نعرف القيم الإنسانية الإسلامية بأنها هي “الأحكام التي يصدرها المرء على أي شيء مهتدياً في ذلك بقواعد ومبادئ مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومصادر التشريع الإسلامي الأخرى، وتكون موجهة إلى الناس عامة ليتخذوها معايير الحكم على كل قول وفعل، ولها في نفس الوقت قوة وتأثير عليهم”.[viii]
القيم الإنسانية في دين الفطرة:
لا يصح أن ينسي أحد في هذا المقام أن الإسلام أنقذ الإنسان والإنسانية من الاضطهاد، والاستبداد، والهوان، ونهي عن الفرق بين الحاكم والمحكوم، وبين الغني والفقير، وعن الظلم على النساء والبنات والغلمة، وأنه حضّ الإنسان على احترام نفس الإنسان، سواء كان من أيّ قبيلة من العالم، ومن أيّ لون من الألوان. وأقام المساواة بينهم، وكسر أصنام كبرياء الرئاسة والشيخوخة، وأزال الفوارق الطبقية، ومحي مراسم الجاهلية الخبيثة كلها، وأعطاهم الحقوق والحرية والاحترام جميعاً.
لا يمكن الرفض لأحد، ولو كان عدو الإسلام، إلاّ أن يقرّ بأن الإسلام قد جاء بها، وحثّ كل من أعتنق بالإسلام على الأخذ منها، وعلى الممارسة عليها حتى يصبح إنساناً كاملاً يحبه الله ورسوله وسائر الناس المنصفين الذين يعيش فيهم. فيقوم بأداء الحقوق لسائر الناس، سواءً كان يعرفهم أم لم يعرفهم، سواءً كانوا من أمته المسلمة أم من أمة غير المسلمة.
وفي الواقع أن الإسلام يدعو الإنسان إلي العدل بكل معانيه، والعدل مع كل أحد، ويدعوه إلى الرحمة حتى مع الحيوان، والحلم، والصدق، واحترام النفس البشرية، والأمانة، والشجاعة، والتواضع، والوفاء، والأمن، وحسن الحديث، كما يدعوه أيضاً إلي حسن إدارة الوقت، وتحمل المسئولية، وكسب الحلال الطيب، والاجتناب من الحرام، والفواحش، والمنكرات.
ولا شك في أنه يدعوه إلى إقامة مجتمع مبني على احترام النفس البشرية، وحسن الخلق، يسوده الحب والود. فما أحوج البشرية اليوم على اختلاف أديانهم وأجناسهم، ليعيشوا هذه القيم البشرية، والحقوق في عالم الواقع ليسعدوا. فلدينا هنا قيم إنسانية، نبينّها واحدةً واحدةً، منها:
1 . احترام النفس الإنسانية:
إنّ الله جعل الإنسان من أشرف مخلوقاته، وكرّمه وفضّله على سائرها، فقال تعالي: “ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً”[ix]. ومن دلائل احترام الإسلام للنفس الإنسانية، ها هو نبي الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، له عمل يدلّ على احترام النفس الإنسانية، قد مرت به جنازة، وكان قاعداً، فوقف، فقالوا: يا رسول الله إنه يهودي، فقال: “أليست نفساً”.[x]
يشير هذا العمل إلى تكريم النبي صلي الله عليه وسلم للنفس الإنسانية، مهما كان دينها وانتماؤها وتصرفاتها في الدنيا. وقد نهي النبي صلي الله عليه وسلم عن سب الأموات، وعن امتهان جثة الميت أو العبث بها. فقال: “كسر عظم الميت ككسره حياً”[xi]. ونهي النبي أيضاً عن تعذيب الناس فقال: “إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا”[xii]. وقال: “صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها”.[xiii]
2. الرحمة:
إن قيمة الرحمة من أهم القيم الإنسانية، لها آثار عظيمة من العفو والجود والتعاون مع الآخرين، ومدّ يد العون، وإغاثة الملهوف وغير ذلك. وهي من أخص صفات النبي صلي الله عليه وسلم، والله جعله رحمةً للكائنات وما فيها، وأرسله رحمةً للعالمين، فقال تعالي: “وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين”[xiv]. فهي تضم جميع شعوب الأرض، وتتسع أفق البشر، وتزيد تراحمهم.
وقال تعالي في شأن حبيبه، ذاكراً أوصافه الجميلة: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم”[xv]. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: “إني لم أبعث لعاناً، إنما بعثت رحمةً”[xvi]. وقال: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”[xvii]. وقال: “من لا يرحم لا يرحم”[xviii]. وقد سادت رحمة النبي صلي الله عليه وسلم كل شيء حتى الحيوان، فقد قال رجلٌ له: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: “والشاة إن رحمتها رحمك الله”.[xix]
3 . التواضع:
لا نبالغ في أن الإسلام قد حضّ الإنسان على التحلي بقيمة التواضع، وبينّ أن الأنسان كلما تواضع كلما زادت منزلته عند الله ورسوله، وعند الناس كلهم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: “وما تواضع أحد لله إلاّ رفعه الله عزّ وجلّ”[xx]. وقال: “إن الله أوحي إليّ أن تواضعوا حتي لايفخر أحد علي أحد، ولايبغي أحد علي أحد”[xxi]. وكان يقوم أمور بيته كخصف نعله، ورقع ثوبه، وحلب شاته لأهله، وعلف البعير، وهو يأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي في حوائج الأرامل واليتامي، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلي أيسر شئ.
كان النبي صلي الله عليه وسلم يحب التواضع، وهو من أهم صفاته، انه كان لايمر علي الصبيان إلاّ يسلم عليهم، وكان الداخل إلي المسجد النبوي لايعرفه من بين أصحابه وذلك لعدم تميزّه عنهم فى شئ من اللباس، أو الوسائد، أو الأماكن، أو غير ذلك. ورجل أتي النبي صلي الله عليه وسلم، فأصابته من هيبته رعدة، فقال له: “هون عليك نفسك فإني لست بملك، إنما أنا أبن إمرأة كانت تأكل القديد”[xxii]. وخرج علي أصحابه ذات يوم فقاموا له إجلالاً وأحتراماً، فقال: “لاتقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً”.[xxiii]
فى الحقيقة أن النبي صلي الله عليه وسلم ليس بملك، بل هو بشر كامل، وليس بشراً كبشر، بل هو أفضل الخلق والبشر، وهو كائن نوراني مع بشريته، خلق الجميع ما فى العالم بسببه، ومن نوره. وكان يعظّم أصحابه أشدّ التعظيم، حتي شربوا من وضوئه ودمه تبريكاً وتعظيماً وإجلالاً. وكل ما ذكرنا فى أعلي يشير إلي أن النبي صلي الله عليه وسلم متواضع جداً، مع أنه حبيب الله، وسيد الأنبياء والرسل وسائر الخلق، ومع أن أوصافه لاتعد ولاتحصي، فيجب للجميع أن يحب التواضع، ويتخلق به لتكامل الشخصية البشرية.
4 . الأمن:
يعترف الجميع بقيمة الأمن فى حياة البشر، فبدونه تتعطل مصالح الناس، وتسود الفوضي، ويكثر التعذيب والإضطهاد، وتعمّ جرائم القتل والسلب والنهب، وتملؤ قلوب الناس بخوف المجرمين ورعبهم. فقال النبي عليه أفضل الصلاة والتسليمات مبيناً قيمة الأمن، وجاعله من أعظم النعم التي يتمتع بها الإنسان فى الدينا: “من أصبح منكم آمناً فى سربه، معافيً فى جسده، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدينا”.[xxiv]
عندما يفتش الباحث عن قيمة الأمن فى الإسلام، يجد أمثلته بالكثرة مثلاً: أمر النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة من مكة إلي الحبشة، لماّ افتقدوا الأمن فى بلدهم، حماية أفراد المسلمين من التعذيب والإضطهاد، ثم هاجر بنفس السبب، وللبحث عن مكان جديد حافل بالأمن، يدعو فيه الناس إلي الخير والأمن والسلام، وبما أنزله الله عليه من القيم الإنسانية والعبادات.
وقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم من كل ما يزعزع الأمن، ويقوض أركانه، وحرّم جرائم القتل والسرقة وإنتهاك الأعراض وغيرها، يفتقد بها الأمن، فقال: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا، فى شهركم هذا”.[xxv]
5 . العدل:
ذلك العدل توجد فيه سعادة البشر جميعاً، فكان النبي صلي الله عليه وسلم يحبه، وألزمه علي سائر المسلمين، وله مجالات كثيرة لاتحصر، منها: العدل فى الولاية، و فى القضاء، وفى تطبيق الحدود، والعدل فى المعاملات بين الناس، وفى الإصلاح بين الناس، والعدل مع الأعداء، والأصدقاء، والعدل مع الأولاد، وبين الزوجات، وغير ذلك. فكان النبي صلي الله عليه وسلم أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ولايقبل الشفاعة فى حدّ من حدود الله.
وقال يذكر سبب هلاكة الذين من قبل الأمة المسلمة، وهو عدم وجوب العدل مع الجميع، ويحث على نفاذه فى كل الأحوال، ومع الجميع بذكر قطعة كبده وسيدتنا السيدة فاطمة سيدة نساء أهل الجنة للتحذير والإنذار، فقال: “إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”[xxvi]. وقال مبشراً: “…عن المقسطين عند الله علي منابر من نور، الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولّوا”[xxvii]. وقال منذراً: “إن الله لايقدّس أمة لايأخذ الضعيف حقه من القوي، وهو غير متعتع”.[xxviii]
وكذلك يأكد الله علي أخذ العدل، والإعراض عن الجور، ويأمر بالعدل في القول والحكم، فقوله تعالي: “وإذا قلتم فأعدلوا ولوكان ذا قربي”[xxix]. وقال: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”[xxx]، بل يأمر بالعدل حتي مع العدو الهدّام، ويحذر من أن تكون العداوة سبباً فى ظلم الآخرين، والتعدي علي حقوقهم، فقال تعالي: “ياأيها الذين أمنوا قومين لله شهداء بالقسط، ولايجرمنكم شنان قوم علي ألّا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوي، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون”.[xxxi]
6 . الشجاعة:
كثيراً ما نذمّ شخصاّ ما فنحن نقول: إنه متلون، لارائ له، لامبدأ له، لاهوية له، ولم يكن النبي صلي الله عليه وسلم كذلك لامع أصحابه، ولامع أعدائه، وكان أشراف قومه يودّونه أن يتنازل عن بعض مبادئه، فلم يظفروا بذلك، بل قال كلمته الشهيرة: “يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمني والقمر فى يساري علي أن أترك هذا الأمر-أي الدعوة إلي الإسلام- ما تركته حتي يظهره الله أو أهلك دونه”[xxxii]. وردت الإشارة عن هذا فى القرآن: “ودّوا لو تدهن فيدهنون”.[xxxiii]
وجدير بالذكر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: “تجدون الناس معادن، خيارهم فى الجاهلية، خيارهم فى الإسلام، إذا فقهوا. وتجدون خيار الناس فى هذا الشأن أشدهم له كراهة، وتجدون شرّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه”[xxxiv]. وعن محمد بن زيد أن أناساً قالوا لجدّه عبد الله بن عمر: إنا ندخل علي سلطاننا فنقول بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم؟ فقال: كنا نعد هذا نفاقاً علي عهد رسول الله[xxxv]. وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: “إذا رأيتم أمتى تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تودّع منهم”.[xxxvi]
7 . الحلم:
قدبلغ النبي صلي الله عليه وسلم الذروة فى مجال الحلم، وكظم الغيظ، وشدة الإحتمال، قال أنس بن مالك: كنت أمشي مع رسول الله صلي الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، حتي نظرت إلي صفحة عاتق النبي صلي الله عليه وسلم، قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وضحك، ثم أمر له بعطاء.[xxxvii]
هكذا أظهر النبي صلي الله عليه وسلم حلمه، وكظم غيظه بعد هذا التصرف السيّئ من هذا الأعرابي الجافي، ولم يعاتبه وإنما تبسم فى وجهه وأعطاه ما يريد. وكان نائماً فى ظل شجرة، فجاء أعرابي، وقال بعد أخذ السيف: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: “الله”. فاضطرب الأعرابي، ووقع السيف من يده، فأخذ النبي صلي الله عليه وسلم السيف، وعفا عنه، وأجلسه بجواره.[xxxviii]
8 . الأمانة:
تعد قيمة الأمانة من أهم القيم الإنسانية، وهي أحتلت مكانةً مرموقةً فى الإسلام، فقال تعالي: “إنا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان”[xxxix]. وكان النبي صلي الله عليه وسلم يعرف فى قومه بالأمين، وقد تزوجت خديجة، وهي المرأة الشريفة الثرية، لأمانته وكريم أخلاقه، حيث كان يشرف علي تجارتها بالشام.
كان أهل قريش يضعون أموالهم عنده أمانةً، حينما هاجر النبي إلي المدينة، ترك علياً بمكة لردّ الأمانات إلى أهلها، مع أنهم آذوه وعادوه وكذّبوه وصادروا أموال أصحابه، إلاّ أنه لم يأخذ أموالهم عوضاً عن ذلك، بل ردها إليهم لأنها أمانة، وهو خير من يحفظ الأمانة. وعدّ النبي صلي الله عليه وسلم تضيع الأمانة من صفات أهل النفاق، فقال: “آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان”.[xl]
قد تحدثنا عن بعض هذه القيم الإنسانية بالإجمال. فالإسلام يعلّم الإنسان أن يتمسك بها في كل أحوال حياته وحوائجه، وأن يكون أميناً، ولو قادت أمانته إلى تعقد الأمور، ثم أن يقول الحق، ولو على نفسه، أو على أقرب الناس إليه، وأن يبدي عطفاً على مستحقه. وكذلك أوجب علينا الإسلام أن نصبر في أشد أيام المحن، وأن نحسن إلى من أساء إلينا.
الخاتمة:
نحن نقول أخيراً أن القيم الإنسانية تدعي في الإسلام بالأخلاق، وإنها تعدّ من القيم الخلقية، وكان نطاقها متسعاً اتساع الإنسانية نفسها. فإنها تتعلق بواجبات الإنسان نحو أخيه الإنسان، وهي قائمة على مثل سامية ضرورية بلا ريب لرقي الإنسان. هذه القيم تتناول جميع أطراف الجهود الإنسانية، وتتطلب الرقي في جميع قوي الإنسان. فمن يريد فلاحه وسعادته وسعادة بني نوعه جميعاً، فهو حري بأن يتأمل آيات القرآن، وأقوال الرسول صلي الله عليه وسلم، يدرك أنها ترمي إلى غرض واحد هو طهارة النفس البشرية، وكمالها الإنساني، ويؤكد هذا كل ما ذكرناه في هذا البحث. فاليوم أن الإنسان في أشد حاجة إلى الإسلام وتعاليمه ليرتقي المجتمع بأفراده، ويعم فيه الخير الاجتماعي بأنواعه، ويوجد في الإسلام الحث البالغ على تلك القيم الإنسانية المذكورة لفلاح العالم كله، ونجاح البشر كلهم. وكل الناس في العالم محتاجين إليه منذ البداية حتى اليوم لمعالجة الإصلاح. ومن البديهي أن الإسلام دين عالمي بمعنى أنه لم يأت لقوم أو للعرب فقط، بل جاء لهم ولغيرهم أيضا، ولا هو مذهب طائفة بعينها، ولكن فيه خصائص شاملة تجعله يصلح لكل قوم في كل عصر ومصر. والغاية من هذا السعي الحقير، هو التثبيت، والترسيخ في قلوب كل الناس، أن الإسلام هو دين الرحمة والأمن، ولا يوجد فيه التطرف، ولا الإرهاب، كما يدسون أعداء الإسلام ضده كتابةً ونطقاً، ويكذبون بأن الإسلام هو دين الإرهاب. والغاية الأخرى هو الإخبار عن الإسلام إنما هو الدين الحنيف المستقيم القيم المنقذ البشرية كلها من الهلاك والسقوط والتردي.
(الدكتور محمد إعجاز، استاذ مساعد فى كلية كونية بكيرالا، الهند)
المصادر والمراجع:
القرآن الكريم
كتب الأحاديث
الشيخ عبد العزيز شاويش، الإسلام دين الفطرة، مصر
مولانا محمد علي، الإسلام دين الإنسانية، المكتبة الأهلية، بيروت، ط: 1946م
أحمد أمين، كتاب الأخلاق، مكتبة دار الكتب المصرية، القاهرة، ج: 3، ط: 1931م
سعيد علي وهب القحطاني، الخلق الحسن، مكتبة الملك الفهد الوطنية، الرياض، ط:2010م
على الرغم من عنوانها الطويل وغير اللافت؛ إلا أنها تعدواحدة من الروايات الهامة المحتشدة بأفكار الإصلاح والعدل الاجتماعي في فترة مبكرة من تاريخ الرواية العربية، ولا يعيبها في ذلك صغر حجمها، وقلة عدد صفحاتها، وقد كتبها “فرح أنطون” ونشرها عام 1903م.
كانت شهرة “جورجي زيدان” في تلك الفترة تجوب الآفاق لما لجأ إلى التاريخ العربي والإسلامي مستلهماً من قصصه الكثيرة ما يصلح لأن يكون مادة روائية لعصر إحياء جديد، ونشر تلك الروايات في مجلة “الهلال” التي كان يصدرها ويتولى أمرها، وينتظرها قراؤها بما تحمله من مادة ثرية تشير إلى ماض تليد وشعوب عريقة، وواقع حافل بالأحداث، ومستقبل يرنو إليه الجميع بأمل امتلاك أدواته، إلا أن كاتبنا عرف عنه أنه كان على النقيض من مجايله، وبدا للناس كزعيم ثائر من أشد الداعين إلى الأخذ بكل أسباب العلم سعياً إلى مجتمع متسامح لا أثر فيه لتعصب، ولا وجود فيه لاضطهاد ونفي، وفي سبيل تحقيق العدل الاجتماعي آمن بالاشتراكية، واعتبر أنها تحمل الخلاص للإنسانية مما هي فيه من سوءات وعوار!، ولما كانت كتابة المقالات بها من الجفاف ما يمكن أن يصرف القارئ عن مادتها، فقد وجد فرح أنطون أن الفن الروائي هو الأنسب لتوصيل الأفكار إلى القراء لأنه يستحوذ على عقل ومشاعر القارئ بما تحمله الرواية من سحر وصور وتشبيهات.
فرح أنطون
“فرح بن أنطون بن الياس أنطون” (1861-1922م)، أو (1874- 1922م) هو صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي. ولد وتعلم في مدينة “طرابلس” بلبنان، ثم انتقل عام 1897م إلى الإسكندرية بمصر هرباً من الاضطهاد العثماني، وسرعان ما تفاعل مع أوساطها السياسية والثقافية وأصدر فيها مجلة الجامعة مجلة الجامعة التي صدر عددها الأول في الخامس عشر من مارس عام 1899م الموافق للثالث من ذي القعدة عام 1316ه، كما تولى تحرير “صدى الأهرام”، وأنشأ لشقيقته “روز أنطون” مجلة “السيدات”، وقد كان يكتب فيها هي الأخرى بتواقيع مستعارة. وقد استمر على هذا الحال حتى رحل من مصر إلى أمريكا سنة 1907م، وهناك أصدر مجلة وجريدة باسم “الجامعة”. غير أن إقامته لم تطل في أمريكا، فعاد من جديد إلى مصر متفاعلاً مع زخمها الثقافي والسياسي، فشارك في تحرير عدة جرائد ومجلات، وكتب عدة روايات، ثم عاود إصدار مجلته “صوت الجامعة”، وقد استمر بمصر متفاعلاً ومتوهجاً بأفكار الإصلاح، وآليات التقدم إلى أن توفي في القاهرة عام 1922م.
كان “فرح أنطون” واحداً من أبرز المثقفين السياسيين والاجتماعيين اللّبنانيّين في الدولة العثمانية التي كانت تهيمن على العالم العربي تقريباً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كما كان رائداً من رواد حركة التنوير. وتأثّر بأفكار المصلحين الأوروبيينأمثال جان جاك “روسو”، و”فولتير”، و”مونتسكيو” وغيرهم، وكان من الدعاة البارزين للتسامح الديني والسياسي والاجتماعي بين المسيحيين والمسلمين. ومثلما تأثر بكتاب ومفكرين من الغرب؛ تأثّر كذلك بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال “ابن رشد”، و”ابن طفيل”، و”الغزالي”، والشاعر الفيلسوف “عمر الخيام”، وآخرين، وعلى هذا فهو يعد من أعلام النهضة العلمانيّة العربية، وقد عكست ثقافته الواسعة انحيازه للإنسان بغض النظر عن دينه، أو لونه، أو عرقه، وأراد بسعي حثيث ومثابرة أن ينشر في المشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية والاجتماعية التي هزّت الغرب وأطلقته في الآفاق الواسعة الجديدة من التقدم، لعله هو الآخر ينتفض ويخطو خطوات واسعة وجريئة في طريق التحرر الفكري والرقي الاجتماعي والعلمي.
أثارت كتابات فرح أنطون الجريئة، وأفكاره التنويرية التي تدعو إلى التسامح ونبذ التعصب، واحترام عقول الناس، عدداً من الكتاب السلفيين ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، فكتبوا منتقدين فكره، واتهموه بالإلحاد والعلمانية.
ترك فرح أنطون للمكتبة العربية مجموعة كبيرة من الإبداعات الفكرية والأدبية وقد أنجز حوالي خمس وعشرين رواية من أبرزها روايات “الدين والعلم والمال”، “الكوخ الهندي”، “الوحش”، “بولس وفرجيني”، “أورشليم الجديدة”، “الحب حتى الموت”، الدين والعلم والمال، مريم قبل التوبة. ومن الكتب الفكرية: كتاب ابن رشد وفلسفته، وكتاب “تاريخ المسيح” (مترجم عن الفرنسية)، وتعد رواية “الدين والعلم والمال” من أجمل رواياته حيث صوّر فيها عدة جوانب من المجتمعات، وصور أيضا أضرار التفرقة والتعصب وما يمكن أن تؤدي إليه من تهلكة وفناء.
آثر كلمة “التساهل” في تصوره للدولة المدنية بدلاً من كلمة “التسامح” كترجمة اجتهادية للمقابل الأجنبي tolerance حيث يتجمل المرء في التعامل مع كل مالا يوافق عليه ليتقبل حضوره بوصفه مظهراً من مظاهر الطبيعة التي يقوم عليها معنى المواطنة في الدولة المدنية التي من الممكن أن تكون بداية التجسيد للإنسانية الجديدة، وأكد الكاتب أن التطبيق العملي لمبدأ التساهل يعني أن الإنسان لا يجب عليه أن يدين أخاه الإنسان على أساس من المعتقد الديني لأن الدين علاقة مخصوصة بين الخالق والمخلوق، والتسامح لا يوجد إلا في الدولة المدنية التي تنظر إلى مواطنيها نظرة المساواة، ولا تفرق بينهم حسب المعتقد أو الثروة أو الأصل والعرق، فالإنسانية التي تؤكد حق الاختلاف هي الإنسانية التي تتقدم صوب حلم العصر الذهبي والأمة التي تكفل حق الاختلاف بين أبنائها هي التي تبقى وتزهر وتقوى ولا تندثر،
المال والعلم والدين
كان فن الرواية ما يزال في بواكيره في ديار العرب، وقد رأى فيه كاتبنا منبراً جديداً ومهماً للوصول إلى القراء والمهتمين، وهي نبوءة مبكرة بما سيصبح عليه شأن الرواية في المستقبل إلى الدرجة التي دفعت واحداً من كبار النقاد أن يطلق مصطلح “عصر الرواية” مع ميلاد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كما رأى في فن الرواية فناً صاعداً متميزاً لإشاعة مناخ لأفكار النهضة ومعنى الدولة المدنية، كما وعى أن من الروايات ما كان يكتب من أجل التسلية، ومنها ما ينشأ من أجل الإفادة ونشر المبادئ والأفكار، وضرب مثلاً بالغرب الذي استطاع أدباء مثل تولستوي، وزولا، وكيبلنج وغيرهم اعتبار الرواية منبراً تنشر من خلاله أفكارهم وآراؤهم بطريقة تصل إلى أذهان القراء بسهولة، فرأى أن يهجر أسلوب المقالات إلى أسلوب الروايات في نشر أفكاره، وعلل ذلك بقوله إنه أجمع وأوعى وأشد تأثيراً لأنه يتيح الوصف وتصوير العواطف والحوادث، ولأنه فن جمال وتأثير متى عُمل على حسن سبكه ولطف أسلوبه، كما أن الرواية سهلة في الإقناع مآبين دعاة الدولة الدينية المعادية للتقدم، ودعاة العلم والدين الذين يحاولون أن يرثوا كهنوت الغلاة من رجال الدين وأصحاب رأس المال الذين لا يأبهون بشيء سوى الربح.
وهذا الكتاب هو الرواية الأولى لكاتبنا وقد سمَّاه رواية على سبيل التساهل لأنه رآه بحثاً فلسفياً اجتماعياً في علاقات المال والعلم والدين، وهو ما يسمونه في أوروبا بالمسألة الاجتماعية التي تتوقف مدنيتهم عليها، والكتاب يؤسس لهذه المسألة في ديار العرب. تدور أحداث الرواية حول القوى الثلاث الدين، والعلم، والمال عندما تتصارع، وما جرى بين سكانها من نزاع ودعاوى وكيف أدى ذلك إلى فناء الجميع، وهو الموضوع الذي شغل الكاتب ودفعة إلى صياغة رؤية فنية استخدم فيها التلميح بدلاً من التصريح، والمجاز بدلاً من الحقيقة، والرمز بدلاً من الإشارة المباشرة، وهي رؤية ظلت تحلم بنوع مغاير من الإنسانية أطلق عليه كاتبنا مصطلح الإنسانية الجديدة، وقيام عالم مثالي يقوم على التوازن بين القوى والمصالح والاتجاهات والمعتقدات.
نشرت الرواية عام 1903م ضمن مطبوعات الجامعة التي كان يصدرها من مدينة إقامته الإسكندرية، وفي صفحات الرواية الأولى تحذير للعالم من يوم يصير فيه الضعفاء أقوياء، والأقوياء ضعفاء، لأن سيطرة الأقوياء ستؤدي إلى تمرد الضعفاء ومحاولتهم صياغة عالم جديد يحقق لهم ما حرموا منه، وقد صاغ روايته صياغة تجريدية فلسفية بعيداً عن فن الواقعية، والاتجاه إلى بعد لم يتجه إليه كاتب عربي قبله وهو مجال البحث الفلسفي الاجتماعي في علاقات قوى الدين والمال والعلم. ولم يكن مشغولاً بسؤال الماضي وإنما بسؤال المستقبل الذي حاول تأسيسه وتأصيله.
البطل الفنان
بطل الرواية “حليم” فنان حالم، وعالم ومفكر، وصاحب رؤية مستقبلية تفتش عن الكمال الممكن للوجود، لم تعجبه المدنيات القديمة لأن حقوق الضعفاء فيها مهضومة، ولا المدنيات الحديثة لأنها جعلت الحياة عراكاً هائلاً بين الناس، وقد وجد في فن الرسم ما يصوغ به رؤاه للمستقبل، فحقق شهرة بين أقرانه، لكنه لم يقتنع وأخذ يجوب العالم بحثا عن “يوتوبيا” جديدة للإنسانية التي لم يكف عن الحلم بها والتي أسهم في صنع تجربتها الأولى في الصفحة الأخيرة من الرواية بعد الدمار الذي أحدثه التعصب بالمدن الثلاث، وهذا الفنان يتنكر أحيانا وراء شخصية مستعارة هي شخصية “جميل” الذي تفضي دلالاته إلى عالم الجمال عندما بدأ الرحيل إلى المدن الثلاث بحثاً عن بداية لتحقيق حلمه في جنة أرضية، وقد جمعت مدينة الدين كل من لا يرى شيئاً في الكون سواه، والعلم رأى أنه هو المفتاح الوحيد لحل مشكلات الوجود، ووصلت مدينة المال بين الذين آمنوا بأن الثروة هي عصب الحياة، ثم بدأ الانقسام الذي أدى إلى تباعد المدن، وانتقلت العلاقة من الحوار إلى الصراع والنزاع فكل أهل مدينة لا يرون إلا أنفسهم، مع أن الله يشرق بشمسه على الأخيار والأشرار، ومن ثم وجب على الإنسان أن يتشبه به ولا يضيق لأن ما يطلبه من غيره هو النقص أو التقصير الذي يشترك فيه الجميع لا المعتقدات التي تختلف من شخص إلى آخر.
الرواية
بدأت كارثة المدن الثلاث لما أنكرت مبدا التسامح، واستبدال المرونة بالتسلط، فتعصبت كل مدينة لما عندها ونظرت من عل بريبة نحو الآخر فكانت بذرة الدمار التي ذهبت بالجميع، كانت الثروة هي أصل الفساد، وتجاهل رجال المال للمطالب العادلة لعمالهم، وكانت الشرارة هي التي أهاجها تحالف تجار الدين مع كبار المستغلين حتى تزايدت النار وصارت بركاناً صار يعصف بالجميع، لأن الخراب هو النهاية الحتمية للتعصب الذي لابد أن يقضي على الجميع والتبعة واقعة على الكل بلا استثناء، وكان فيما همس به الشيخ الرئيس لابنته قبل أن يودع الحياة مع من ودعوها نبوءة بذلك المآل، وكأنه وهو يتحدث إليها يلقي علينا بالدرس الذي يجب أن نتعلمه وهو التعصب نتيجته الدمار إذا تسلط على عقول الجميع.
لا ينجو من الدمار سوى الفنان “حليم” وصديقه والفتيات الجميلات اللائي كن تجسيداً للجمال الإنساني، كما لو أنه رأى ان المستقبل للإنسانية الجديدة هو فرع من ائتلاف الفن والحياة، تنتهي الرواية بإشراقة دالة على وعود فجر جديد، فيتزوج حليم من فتاته وهي الأخرى فنانة ويتولى معها ومع قريناتها اللائي تزوجن من أصحابه بناء المدن المدمرة تكفيراً عن سيئات التعصب القديم، ويعيشون حياة يحسدهم عليها أهل العصر الذهبي هي المعيشة الفردوسية، وفي ذلك إشارة إلى اليوتوبيا التي لم تكف عن مخايلتها لكاتبنا فرح أنطون الذي رأى أبعاداً متعددة للتسامح في الدين على أسس المجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التفتيش في ضمائر الناس، أو شق صدورهم، واحترام المخالفة في الاجتهاد، وعدم الخلط بين المخالفة في الرأي والخروج على الدين، وتقبل المغايرة في الملة، والاختلاف في المذاهب، فالدين أصل الحضارة والمنبع الأول لكل صور التسامح. كما رأى العلم مقترناً بالمعنى الخلاق للابتكار، حيث التقدم مرهون بالمغايرة، والابداع مقرون بالاختلاف، واللاحق لا يتقدم إلا بالانطلاق من حيث انتهى السابق على سبيل الإبداع وليس الاتباع، وفي المال فإن علاقة صاحب المال بالعمال والعكس، أو علاقة الطرفين ببقية طوائف وفئات المجتمع لا فضل لأحد فيها على أحد إلا بما يؤكد انسانيته السمحة
أحلام الشيخ الرئيس
في أزمة المدن الثلاث قدم الشيخ الرئيس مقترحات لحل النزاع، فدعا إلى زيادة الرواتب، وتحديد الحد الأدنى للأجور، وتحديد ساعات العمل، وإنشاء صندوق لرعاية العمال عند التقاعد، وفرض الضرائب المتدرجة، وتوظيف عوائدها في النفع والصالح العام، ونشر التعليم المجاني لكن ما اقترحه ذهب سدى وهو يقف بين أبنائه كالمنارة الهاوية التي أضاعوها، وهو لا يمل يطلب منهم مراعاة التساهل والاعتدال، وألا يقولوا السوء لأن الإنسان يستطيع أن يصرح بأدب ولطف بكل ما توجب عليه مصلحته التصريح به دونما تقليل لأحد، ولن يفيد التسامح الديني الناس إذا ظل التعصب موجوداً في بقية الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويظل يؤكد على التسامح لأنه يراه الضربة القاضية على الحيوانية والأثرة والأنانية، ويحذر من أهل التقليد، وأصحاب الأفق الحاقد الذين يسارعون إلى تكفير المرء إذا اختلف معهم في التأويل الديني، أو اتهامه بالخيانة إذا خالفهم في الاجتهاد السياسي، أو الضلالة إذا خرج عليهم في السلوك الاجتماعي. وفي خطابه إلى رجال الدين يقول إنه يحسن بخدام الله أن يكونوا هم البادئين بإقامة مملكة التسامح وقتل روح التعصب.
يقول الشيخ الرئيس إن الوفاق في بلادنا لا يمكن أن يكون إلا بمراعاة الوسط الجديد الذي صرنا فيه، لأن الوسط الماضي قد تغير علمياً واجتماعياً وسياسياً وهذا الوسط لابد وأن تجتمع فيه جميع المذاهب والآراء، وبناء على ذلك لا سبيل لدوام الوفاق إلا بإطلاق الحرية المغلقة على جميع المذاهب والآراء والمبادئ والأفكار من أي نوع كانت ولم تكن هناك شهوة دينية تحركها تتفق وغرض واحد وهي تتجه إلى الخير ومحاربة الشرور في أي مظهر.
هكذا كتب “فرح أنطون” روايته التي انطوت على جمال الصراع في الأفكار، ورمزية صياغة المجردات، وبلاغة العبارة عن القضايا الشائكة، فوضع الرواية وقارئها على أول الطريق الذي يمزج فيه بين الفكر الفني والحقيقة بالمجاز وتمضي الرواية إلى عوالم الفاعل الجمالي الخصيب للفكر الجسور بمناظراتها الفكرية، والمجادلات بين الاتجاهات حتى كثر فيها الحوار على الوصف، وتضاءل السرد لطغيان الحوار الفكري الذي ظل يؤرق الكاتب وهو يحلم بأمنياته الاشتراكية التي تشبه اليوتوبيا.
مراجع
مقدمة بقلم د / جابر عصفور عن الرواية وكاتبها منشورة مع الرواية التي أعيد طبعها عام 1995م ضمن مهرجان القراءة للجميع
من اللافت للانتباه قبل بدء أية مباراة لكرة القدم أن يقف مدرب حراس المرمى ذو الخبرة الطويلة أمام الحارس العملاق المشارك في المباراة ثم يقذف الكرة نحوه من مسافة متر تقريبًا، فيلتقطها الحارس بسهولة، مما يجعل المتأمل يتساءل عن جدوى هذا التمرين البسيط الذي يقدر عليه مَنْ لا خبرة له ولا دراية بالكرة أو ربما بالرياضة عمومًا، ثم نجد المدرب يبتعد قليلًا عن الحارس بشكل تدريجي، ومع زيادة المسافة بينهما يزيد المدرب من شدة ركل الكرة فيزيد الحارس من تركيزه وحركته، ومع الوقت يتكرر التقاط الكرات السهلة القريبة الضعيفة إلى أن يكون الحارس قادرًا على التقاط الكرات الصعبة البعيدة القوية قبل المباراة وبعدها حيث اعتادت عيناه متابعة الكرات البطيئة المتوقعة ثم ازدادت متابعته وقدرته في أثناء المباراة على متابعة الكرات السريعة المفاجئة، وهذه هي فلسفة التمرين لحراس المرمى واللاعبين والبشر جميعًا، وما يُقال عن حارس المرمى يقال عن غيره، وما نتعلمه من فلسفة التمرين على التقاط الكرة ينسحب إلى غيرها من المهارات بل يشمل الأفكار والمشاعر والعلاقات أيضًا.
أخبرني صديقي طبيب أمراض النساء والتوليد في بداية عمله أن حالة الولادة القيصرية كانت تستغرق ما يزيد عن ساعة ونصف، وقد وصل بعد الحالة التسعين إلى ثلث ساعة تقريبًا، (ويصعب أن يقل الوقت عن ذلك لا لقلة مهارته لكن لسبب طبي يتعلق بالتأثير على الأنسجة وغيرها)، ورأيت غيره من الجرَّاحين وأطباء الاستقبال والطوارئ مَنْ كانوا يفقدون أعصابهم وترتعش أيديهم مع حالات الخياطة ثم صاروا بعد ذلك متميزين أو (محترفين) بعد فترة تطول أو تقصر من التدريب والتعود، وغير ذلك الكثير ممن عملوا في كل مجال وممن عرَفتُ أو لم أعرف.
يتساءل بعض الناس عن الفرق بين الموهبة والمهارة، وعن فضل إحداهما على الأخرى، والإجابة المباشرة أنه لا قيمة للموهبة بلا مهارة أو تدريب أو عملٍ جاد، وإن الاعتماد على الموهبة وحدها ضرب من العبث، وانتظار ثمرتها حصاد للهشيم، فلا موهبة بلا تدريب مستمر ولو كان قليلاً، والقاعدة الذهبية “قليل دائم خير من كثير منقطع” تشير إلى أن الجرعات المكثفة من العمل المتقطع ليست كاستمرار العمل مهما قلّ أو تضاءل، وشر منهما الاعتماد على الموهبة أو انتظار الإلهام لتحقيق المستحيل وظهور الإبداع، وليس هذا إنكارًا لوجود الموهبة الوراثي والچيني بل إنني أدعو نفسي وغيري إلى التمسك بما يرى أنه موهوب فيه ويمكن له أن يفعله بسهولة ويشعر معه بسعادة، لكن للتأكيد على أن الإبداع والإنجاز لا يظهران إلا في البيئة التي تعزز ظهورهما والعمل المستمر الذي يعين على تطويرهما، وما ظهرتْ فكرة (هاري بوتر) مثلاً ولا استمر إصدارها لعدة أجزاء، وهي تحقق في كل جزء نجاحًا يفوق ما قبله إلا بالاستمرار والتكرار، وكذلك عندنا في العالم العربي عندما نرى هذا الكم الهائل من القصص والروايات التي كتبها (نجيب محفوظ)، بغض النظر عن بعض الفروق المطروحة مؤخراً بين الكتابة الآلية والكتابة الإبداعية وغيرهما.
وفي مقولة (ستيفن كينج) الشهيرة تأكيد على هذا المعنى: “المبتدئون ينتظرون الإلهام أمّا نحن فنستيقظ كل يوم لنعمل”.
وفي قوله – صلى الله عليه وسلم-: “إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتقِ الشر يوقه” وقوله ” من سلكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا سلكَ اللهُ به طريقًا إلى الجنة” دلالةٌ على أن العلم لا يولد مع صاحبه، وإنما هو مكتسب كما قال الله -سبحانه وتعالى-:” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً” وأن الحِلم لا يأتي إلا بالتَّحَلُّم بمعنى أن يحاول الإنسان تعويد النفس على الحِلم وعدم الأذى؛ لأن الحِلم إذا درب الإنسان عليه نفسه صار سجيةً له، لذلك ليس من المقبول أبدًا أن نسمح لأحد الناس بالسب والشتم بلا داعٍ لمجرد أن هذا طبعه وقد خلقه الله على ذلك! أو نتهاون في الأخذ على يد الضارب لأنه بفطرته عصبي لا يملك نفسه، بل حتى مَنْ كان بطبيعته غضوبًا أو كسولًا أو (بيرمي دبش) وجب عليه أن يتكلف الهدوء ويواصل العمل ويسهل ويلين قدر استطاعته حتى يُحَصِّل من الصفات الحميدة والخلال الكريمة ما أمكنه تحصيله، وخيرٌ له أن يجرب مرة واثنتين وعشرًا وهو يخطئ من أن يحتج بالطبع والفطرة دون محاولة مستمرة وتكرار دائم. نظرية (التجربة والخطأ) أو (النظرية الارتباطية) هي إحدى نظريات علم النفس السلوكي، وخلاصتها أن عملية التعلم هي حاصل الربط بين (المثير) و(الاستجابة) وتقوى أو تضعف بمدى قوة هذا الترابط، بمعني أن التمرين المستمر لنفس العمل يؤدي لتقوية ارتباط المثير بالاستجابة أي أن الإنسان أو الحيوان لا يتعلم إلا بالتَّكرار المستمر. في عام 1898م وضع عالم النفس التربوي (إدوارد ثورندايك) أسس تلك النظرية بعد تجربته الشهيرة التي أجراها على قطة جائعة وضعها داخل صندوق لا يُفتح إلا عن طريق سحابة، وعلى القطة أن تسحبها ليُفتح لها الباب حتى تتمكن من الخروج، ووضع طعامًا ذا رائحة نفاذة بجانب الصندوق، فكان من المستحيل على القطة الوصول إلى ذلك الطعام إلا إذا كان بإمكانها فتح الباب والخروج منه. في البداية تحركت القطة بشكل عشوائي داخل الصندوق ثم أخذتْ تعض في القضبان وتدفع أقدامها محاولةً الضغط على جدار الصندوق، لكن بعد ساعات من تجربة هذه الاستجابات غير الفعالة، قامت القطة بشد السحابة عن طريق الخطأ فوصلتْ إلى الاستجابة الصحيحة وفُتح باب الصندوق وتمكنت القطة من الخروج والحصول على الطعام الموضوع بجانب الصندوق. وضع (ثورندايك) القطة داخل الصندوق مرة أخرى لكنها في هذه المرة استغرقت وقتًا أقل لشد السحابة، وفي كل مرة يكرر فيها التجربة تتقلص المدة الزمنية التي تستغرقها القطة لفتح الصندوق حتى إنها بعد عدة محاولات على مدى أسبوع استطاعت فتح الصندوق في دقيقة واحدة، وهو ما يعني انخفاض زمن الاستجابة، وأن القطة تعلمت الخدعة أخيرًا، ثم أصبحت تشد السحابة بمجرد وضعها في الصندوق، ومن هنا وُضع مصطلح (التعلم من التجربة والخطأ)؛ لأن عدد التجارب أدى إلى انخفاض عدد الأخطاء، وبذلك وجد أن التمرين والممارسة المستمرة لنفس العمل يؤدي لتقوية ارتباط المثير بالاستجابة، و(المثير) بالتجربة طبعاً هو (الطعام)، و(الاستجابة) هي (فتح الصندوق)، أي أن القطة ستتعلم بالتكرار المستمر، ثم أجرى نفس التجربة على عدد كبير من القطط وخرج بنفس النتيجة فقام بوضع تلك النظرية. يقول چوستاف لوبون في كتاب (روح الاجتماع): “للتَّكرار تأثير في عقول المستنيرين، وتأثيرُه أكبرُ في عقول الجماعات من باب أَوْلَى، والسببُ في ذلك كونُ المكرر يَنطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسبابُ أفعال الإنسان، فإذا انقضى شطرٌ مِن الزمن نسي الواحدُ منا صاحب التكرار، وانتهى بتصديق المكرَّر”. وبهذا التكرار تحصل المَلَكَة في العلم والأدب وتتكون الذائقة وتتشكل اللغات، والمَلَكَةُ هي الصفة الراسخة التي تكتسبها النفس بالتكرار والممارسة، والتي تقود إلى الحفظ والفهم وسائر الأعمال الفكرية والجسدية بسرعة وسهولة، وإن كل الأفعال التي يمارسها الإنسان لا بُدَّ وأن تعود آثارها على نفسه حتى تثبت في لحظةٍ ما بقوة التكرار وبتنمية الملكة والمهارة. ودائمًا ما أشدد على أهمية التكرار وأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع وكل قليل على قليل يخرج منه الكثير، ولا أحب لنفسي أو لغيري الاستسلام من المرات الأولى لاكتساب مهارة أو تعلم شيء جديد؛ لأنه لا سبيل لتعلُّم شيء إلا بالعمل المستمر بغض النظر عن وجود الموهبة أو انتظار للإلهام. اليومَ شيءٌ وغدًا مثلُهُ من نُخبِ العلمِ التي تُلتَقَطْ يُحصِّلُ المَرء بها حكمةً
كان عبد الرحمن بدوي (1917-2002) فيلسوفا وجوديًّا مصريًّا. نُشِرَ أول كتاب فلسفي له بعنوان “نيتشه” عام 1939. قد خلف عبد الرحمن بدوي 120 كتابًا باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية. اشتهر بالدفاع عن الثقافة الأوروبية خلال أنشطته العلمية لكنه انتقد الحضارة العربية والإسلامية. عُرف بأنه أعظم فيلسوف عربي في القرن العشرين وعاش 85 عامًا.
أما محمود أمين العالم (1922-2009) كان فيلسوفا ماركسيًّا، اختلف وناقض أفكار عبد الرحمن بدوي الفلسفية. اعتقد محمود أمين العالم أن فلسفة بدوي الذاتية ليست مناسبة للمجتمع المصري في القرن العشرين، ومع ذلك، فإن أنشطة بدوي العلمية والفلسفية تستحق الثناء والتقدير. اعترف محمود أمين العالم في مصر كفيلسوف نظري ماركسي الذي درس الثقافة الاجتماعية المصرية في القرن العشرين. لذلك، المقارنة بين هذين الفيلسوفين من وجهة نظر أيديولوجية تستحق الاهتمام من قبل المحققين المعاصرين.
الأستاذ محمود أمين العالم [5] فيلسوف مصري ماركسي وشيوعي. تم الاعتراف بمكانته وموقعه في العهد السوفيتي من قبل الحزب الشيوعي السوفيتي. لهذا السبب، تمت ترجمة إحدى كتبه بعنوان “معارك فكرية” [4] إلى اللغة الروسية. كان محمود أمين العالم طالبًا في جامعة القاهرة، بينما حصل عبد الرحمن بدوي على درجة الدكتوراه في الفلسفة. فلاحقًا، انضم محمود أمين العالم إلى الحزب الشيوعي المصري وبدأ نضاله ضد بدوي الفيلسوف البرجوازي والوجودي…
يذكر الأستاذ محمود العالم في مقال مخصص حول معرفته بشخصية عبد الرحمن بدوي وأفكاره الفلسفية على النحو التالي: “لأول مرة في ديسمبر 1945، في نادٍ يسمى” الجمعية الفلسفية “بكلية الآداب باسم فؤاد أول (حاليا جامعة القاهرة) ألقيت كلمة رسمية وذكرت اسم الدكتور عبد الرحمن بدوي، وكان الموضوع تحت عنوان: “المحال في الطبيعة والفن”. وقال رئيس الجلسة، زميلي (حاليا الدكتور) كمال الدسوقي، إن موضوع محاضرتي كان محيرا ومحزنا للغاية. في الواقع، كان هذا الموضوع استمرارًا لتلك الأفكار التي بدأتها في منتصف دراستي الثانوية وتابعتها خلال أيام دراستي الجامعية في شهر سبتمبر 1945 [1، 185-204].
ذات مرة في منزل أخي محمد شوقي أمين شاهدت عدة أعداد من مجلة “الرسالة”. هذه المجلة أسسها محمد حسن الزيات. قرأت مقتطفات من كتاب “هكذا تكلم زرادشت” للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه نُشر في هذه المجلة. ترجم هذا الكتاب إلى العربية فيليكس فارس أحد المفكرين المسيحيين العرب. قرأت تلك المقاطع بحماس.
عن طريق الصدفة، قابلت مدرسًا للغة الفرنسية كان مواطنًا فرنسيًا ومحبًا لفلسفة نيتشه. أخبرني بمعلومات عجيبة وغريبة عن نيتشه. لقد أثار اهتمامي بشخصية هذا الفيلسوف بشكل جدي. كانت خطوتي الأولى هي البحث عن الكتب العربية التي كتبت عن موضوع الفلسفة بشكل عام والفلسفة الأوروبية بشكل خاص.
يجب أن أذكر أيضًا أنني كنت مهتمًا بالفلسفة عند ما كنت في المدرسة الثانوية، لكن أفراد عائلتي كانوا ضدي. ومع ذلك، بعد التخرج من المدرسة الثانوية، التحقت بكلية الفلسفة في جامعة القاهرة. أول كتاب وجدته عن نيتشه باللغة العربية كان تأليف الدكتور عبد الرحمن بدوي، في طبعته الأولى في عام 1939.
أثناء دراستي في الجامعة ظل عبد الرحمن بدوي [8] رمزًا ومثالًا حيًا لشخصية نيتشوية. لقد بالغ عن فلسفة نيتشه بصراحة أمام الجمهور وكان فخوراً بسلوكه. ومع ذلك، كنت أتصور مكانة وموقع نيتشه بشكل مختلف وفقًا لفهمي. باختصار، في رأيي، في ذلك الوقت، كان نيتشه فيلسوفًا وشخصية غير عادية، كان يحارب ويعارض كل النواقص والضعف البشري.
قد تكون خلفية تصوري أنني قرأت كتابًا للمستشرق الفرنسي الشهير والكاثوليكي لويس ماسينيون عن صوفي الحلاج المسلم. كان الأمر كما لو أن قصائد الحلاج تومض أمام عيني صورة أن نيتشه كان يتجه نحو الأنسان الخارق (سوبرمان)! ربما كان الوضع الاجتماعي والسياسي لمصر في الأربعينيات من القرن العشرين قد فرض مثل هذا السراب في ذهني:
أمزجة مكتئبة.. تحول إلى قصائد رومانسية حالمة.. تأليف شعر.. شطرنج.. قراءة مستمرة.. تجول بلا هدف في الشوارع والأسواق.. حضور التجمعات السياسية والوطنية.. وهكذا.
كانت حالتي مشوشة.. تشبه أزمة عقلية. كنت أرغب في الوصول إلى وادي النور. في إحدى أبيات القصيدة قلت: “لم تبق إلا خطوة وخطوتان على الوضوح”.
ومع ذلك، ليت لو كنت في سنوات الأزمة تلك، قد وصلت إلى فكرة دقيقة وواضحة!
يقول محمود العالم:
كان ذلك عام 1945، حيث نشر الأستاذ عبد الرحمن بدوي كتابه بعنوان “الزمان الوجودي”. اشتريت أنا وعباس أحمد هذا الكتاب. في الوقت نفسه، جلسنا في أحد المقاهي في شارع فؤاد (حاليا شارع 23 يوليو) وقرأناه في غضون عدة ساعات. بعد الاطلاع كنا مليئين بالإثارة والتوتر. عند ما وصلنا إلى الفصل الخاص بحالة الوجود، بدا لنا أن الأستاذ عبد الرحمن بدوي خان التجربة الحية للوجود! بهذا المعنى، حصر تجربة الوجود الحية في الأشكال الفلسفية والفكرية الميتة والعقلانية! [2، 191]. بعد قراءة الكتاب قررنا التوجه إلى منزل الأستاذ عبد الرحمن بدوي لإدانته على هذا الخطأ غير المتوقع. طرقنا بابه واستقبلنا أخوه الصغير، وقال إن الأستاد ليس في المنزل؛ لأنه أنا وعباس كنا في حالة سكران شديد. أتذكر فقط أنه بعد هذا الحادث ذهبنا إلى منزل صديقنا المشترك فرحات طوما. وكان فرحات موظفًا في مكتبة العلمية في الجامعة. أخبرنا قصة زيارة منزل الأستاذ بدوي بألم وحزن. على الرغم من ذلك، فقد حافظنا دائمًا على تقديرنا لعلم ومعرفة الأستاذ عبد الرحمن بدوي وكنا خائفين من التعرض على شخصيته.
خلال تلك الأيام، كنا مهتمين جدًا بالحركة الوطنية في مصر – وهي حركة كانت موضوع حديث الجميع في مصر في الأربعينيات من القرن الماضي. وهذه الحركة كانت تكافح ضد الاحتلال البريطاني والحكومة الاستبدادية مع الأحزاب التي تؤيد القوة الاستعمارية البريطانية في مصر. توجه البعض منا نحو الحركة الماركسية في إطارها النظري، لكن أنا وعباس كنا من أتباع الحركة الوطنية البحتة.
كنا في فبراير من عام 1946، لم نقدم عباس أحمد كممثل لقسم الفلسفة بالجامعة إلى اللجنة الوطنية للطلاب. على الرغم من أن هذه اللجنة كانت برئاسة الحركة الماركسية في ذلك الوقت. والسبب في ذلك أنه:
كانت لدي مشكلة مع الماركسية في ذلك الوقت.
مشكلتي كانت نظرية.
كنت أعتقد أن الماركسية ليست سوى نظرية اقتصادية ومادية بحتة وهذا كل شيء.
كنت أفكر أن الماركسية تفتقر إلى الجدية والعمق الفلسفي والأخلاقي.
كما تخلصت إلى الرأي، أن المشاركة في جبهتين سياسيتين: القوميين والماركسيين في نفس الوقت يعطلان توجهي الوجودي الجاد [2، 192].
في الوقت نفسه، التقينا وتعارفنا بمدرس وصل لتوه من إنجلترا وكان يدرس اللغة الإنجليزية. كان المدرس شخصية متواضعة من أتباع الاشتراكية والديمقراطية، واسمه لويس عوض. كما كان المدرس مهتمًا جدًا في الأنشطة داخل الجامعة وخارجها وأظهر توجهه نحو الأستاذ عبد الرحمن بدوي. أنهى المدرس للتو بحثًا حول موضوع: نقد منهجية المادية الديالكتيكية والتاريخية في الماركسية. وبهذه الطريقة، فإن مقالات الأستاذ عبد الرحمن بدوي حول الوجودية، والنقد الموجه نحو الاشتراكي من المدرس لويس عوض، حيث أثار اهتمامي تناقض هاتين النظريتين وتحدت أفكاري الوجودي في هذه الحياة. في خضم الجدل بين الأستاذ عبد الرحمن بدوي والمدرس لويس عوض، ظهر طرف ثالث بيننا: وهو الدكتور يوسف مراد، المعروف بعالم النفس الذي أسس مجلة “علم النفس التكاملي”. اعتدنا أن نذهب إلى منزل الدكتور يوسف مراد كل أسبوع ونناقش الموضوعات المستجدة والساخنة في ذلك اليوم. وكنت من أتباع فلسفتي الوجودية حتى ذلك اليوم، والتي كتبت نتيجتها في ديسمبر 1945 في النادي الفلسفي بالجامعة [1، 193].
في غضون ذلك، كتبت مقالة افتتاحية في العدد الأول من مجلة “البشير” باسم “The Herald”، التي أنشأها أصدقائي وزملائي، باستخدام “الصدفة” بدلاً من “المحال”. هذا الموقف أبقى أفكاري مشوشة لسنوات …
في ذلك الوقت، وقع في يدي كتاب أنقذني من هذا الالتباس: “المادية ونظرية النقد التجريبي” لفلاديمير إيليتش لينين. وبعد ذلك بقليل كتاب: “ديالكتيك الطبيعة” بقلم فريدريك إنجلز. أحدث هذان الكتابان ثورة في فكري الفلسفي ويبدو أنني دخلت من جديد في عالم العلم والفلسفة [1، 194].
بهذه الطريقة انضممت إلى صراعات سياسية واجتماعية وفكرية جديدة، وبهذه الطريقة عشت تجارب الوجودية الواقعية: السجن والتعذيب والغربة والنفي من مصر. ومع ذلك، كانت هناك فرصة للاطلاع على جميع أعمال دكتور عبد الرحمن بدوي من منظور جديد [1، 195].
بعد الانتهاء من أطروحة “تصادف” في يونيو 1953، بدأت في كتابة انتقاداتي الأولى عن الفلسفة الوجودية للدكتور عبد الرحمن بدوي. كانت المقالة الأولى من هذه السلسلة بعنوان: “هذه هي أخلاق الوجودية” التي قد نشرت في عام 1954. جاءت مقالتي هذه ردًا على مقالة للدكتور عبد الرحمن بدوي بعنوان “هل الأخلاق الوجودية ممكنة؟”، والتي نُشرت عام 1953. أما كتابي “تصادف” كان في الواقع أطروحة الدبلوم من جامعة القاهرة. كانت هذه المقالة الأولى ضد الفلسفة الوجودية الأوروبية في العالم العربي جذبت انتباه المثقفين في هذه البلدان. على سبيل المثال، تُرجمت بعض كتب الكتّاب والفلاسفة الفرنسيين الوجوديين مثل: جون بول سارتر وألبرت كامو إلى العربية [1، 195].
كان الإنسان في الفلسفة الوجودية الأوروبية أمثال سارتر يقترب من المسؤولية الشخصية. في حال قام الدكتور عبد الرحمن بدوي بفصل الإنسان بشكل مطلق من الناحيتين الوجودية والأخلاقية، بينما في فلسفة الوجود الأوروبية، يعتبر الجانب الأخلاقي جزءًا لا يتجزأ من الوجودية الحية [1، 195].
مع ذلك، في نهاية مقالتي، توصلت إلى هذه النتيجة أن: “الفلسفة الوجودية في الشرق الإسلامي فلسفة ليست لها أنصار ومشترين. أما نحن بحاجة إلى فلسفة تعكس إيماننا وثقتنا بالعلم وقوانينه الموضوعية واحترامنا لتاريخ البشرية العظيم “[1، 196].
هكذا في نهاية عام 1958، دعيت لتقديم تقرير علمي حول موضوع “الحرية والمسؤولية في فلسفة سارتر” في نادي المعلمين بالقاهرة. قامت الشرطة بتطويق مكان الاجتماع ومنعت قراءة هذا الموضوع. وبعد أسابيع قليلة، في صباح اليوم الأول من عام 1959 تم اعتقالي. وقد طبعت هذا الموضوع لاحقًا في كتاب “معارك فكرية” في “دور الهلال” ونشرته وكان ذلك في نهاية الستينيات من القرن العشرين.
كنت في السجن من عام 1959 إلى عام 1964. هذا السجن الذي منعني من الكتابة. وفي عام 1964 بعد إطلاق سراحي، كان أول مقالة كتبتها عن كتاب الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو، بعنوان “أسطورة سيزيف”. يمكن تلخيص هذه الأسطورة في كلمتين، وهي أن الآلهة اليونانية حكمت على سيزيف بعقوبة أبدية على الجريمة. والسبب في ذلك، أن سيزيف يحمل صخرًا من أسفل الجبل إلى قمته. وبمجرد أن وصل إلى قمة الجبل سقطت الصخرة من كتفه وتدحرج إلى أسفل الجبل. كان على سيزيف أن يفعل ذلك مرارًا وتكرارًا. وهذا التكرار الذي لا نهاية له ويستمر إلى الأبد. وبهذا المعنى، وهو يقصد بذلك أن حياة الناس محكوم عليها بهذا العمل المتكرر من دون المعنى. وليس لدينا خيار سوى الاستسلام لهذا العمل الرتيب والمتكرر.
يقول أمين العالم – كاتب المقالة، في ختامه: “كامو بكتابته هذه يريد أن يصف بشكل رمزي الحياة العبثية والأسطورية للإنسان في عالم اليوم. أنا أهنئ الترجمة العربية لهذا الكتاب؛ لأننا نحن بحاجة ماسة إلى سيزيف البشري (وليس سيزيف الأسطوري!) لنكون قادرين على رفع الصخرة إلى قمة الجبل والاحتفاظ بها هناك. وتم تنفيذ هذا العمل في عدة مناطق من العالم، وبقي الإنسان والصخرة على قمة الجبل. لقد وصل الإنسان المعاصر إلى هذه القوة والاستقلالية لرفع الصخرة إلى قمة الجبل ورميها في الفضاء اللامحدود بلا أجنحة! [1،197]. يعني أن رجل اليوم، في بعض بلدان العالم، قد أنقذ نفسه من سجن سيزيف الأبدي…
في شهر نيسان 1965 كتبت مقالاً بعنوان: “هل الدكتور عبد الرحمن بدوي يسير نحو طريق مسدود؟”. بعد التأكيد على المكانة العلمية والفلسفية العظيمة للدكتور عبد الرحمن بدوي، قمت بتحليل كتابه بعنوان “دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي”، وقلت: إن العرب في الواقع حافظوا على التراث الهلنستي اليونانيين وأوصلوها للحضارة الإنسانية… [1، 198].
في شهر مارس 1967 جاء سارتر إلى مصر. وبهذه المناسبة نشرت مقالاً في مجلة “المصور” قد اعترضت فيه على فلسفة سارتر. وبهذا المعنى، إن فلسفة سارتر الوجودية لها تأثير سلبي على الوضع الحالي لمصر… على وجه الخصوص، لا يمكن للفردانية المطلقة والمتطرفة لفلسفة سارتر الوجودية أن تلبي المشكلات الاجتماعية في مصر.
هكذا، تطورت فلسفتي الوجودية وتحولت إلى فلسفة اجتماعية، وأكدت لي أن الفرد بذاته لا يستطيع أن يصنع شيئا، بل مجموعة من الأفراد هم الذين يطبقون هذه المبادرات ويحققون هدفًا اجتماعيًا مشتركًا. والآن، لا أعرف إذا كان سارتر يوافق على رأيي أم لا، لكنني أعلم أن الدكتور عبد الرحمن بدوي لا يزال يتبع الفردية الوجودية في بلدنا إلى هذا اليوم [1، 199].
في مقالة بعنوان “هذا الفيلسوف المؤسس” في مجلة “الهلال” عام 1989، أكدت أن الدكتور عبد الرحمن بدوي ليس مفكرًا فقط، بل هو فيلسوف أيضًا. في هذه المقالة ناقشت كتابي الدكتور عبد الرحمن بدوي بعنوان: “مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية” و”الزمان الوجودي”. توصلت إلى نتيجة مفادها أن الدكتور عبد الرحمن بدوي في هذين الكتابين استخدم المنطق الشكلي في معظم الحالات … يتخصص أعمال الدكتور عبد الرحمن بدوي في العموم في الفلسفة الأوروبية والفلسفة الإسلامية بشكل خاص. وكانت للدكتور عبد الرحمن بدوي فلسفته الخاصة في الوجودية، وتلك نتيجة دراساته واطلاعاته على الفلسفة المثالية الألمانية، وخاصة فلسفة مارتن هايدجر. يبدو لي أن اتّباعه عن مارتن هايدجر لم يكن نتيجة لأنشطة هايدجر السياسية في مصر؛ لكن بسبب علاقته بحزب الشباب المصري، والتي استمرت من عام 1937 إلى عام 1940. وكان هذا الحزب يتبع الفلسفة المثالية وغير العقلانية للحزب النازي (النازية)، وذلك لإظهار معارضة إنجلترا التي احتلت مصر. لابد من التذكير بأنه عند ما دافع الدكتور عبد الرحمن بدوي عن أطروحة الدكتوراه في القاهرة عام 1944 كان عضوًا في اللجنة العليا للحزب الوطني الجديد. لذلك، كان الحزب الوطني الجديد مزيجًا من حزب الشباب المصري والحزب الوطني القديم. يمكن القول: إن فلسفة الدكتور عبد الرحمن بدوي الوجودية قد تأثرت بالفلسفة المثالية الألمانية منذ أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، وهي نتيجة تجربته في الحياة الفكرية والسياسية، وليست آثارًا لبعض الأحداث في المجتمع المصري في ذلك الوقت.
كما وددت التأكيد في هذه النقطة، أن هزيمة الفاشية والنازية عام 1945، ألغت برامج بعض الأحزاب المصرية، ومنها قد منعت مشروع فلسفة البدوي الوجودية. ولم يكن هذا الحظر بسبب تراجع القدرة الفلسفية للدكتور عبد الرحمن بدوي، لكن بسبب التغييرات في الوضع السياسي والاجتماعي في مصر في ذلك الوقت. لهذا السبب، كرس الدكتور عبد الرحمن بدوي موهبته الفلسفية للبحث وترجمة الأعمال الفلسفية الأوروبية والإسلامية. وفي هذا الصدد، رأيت من الضروري التأكيد على نقطتين:
أوّلاً: الارتباط بين فلسفته الوجودية وتراث فلسفته القومية.
الثاني: نظرته السلبية للفلسفة الإسلامية [1، 201].
في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، نشرت مقالة بعنوان: “عبد الرحمن بدوي.. شخصية مجهولة” في مجلة “إبداع” [“الأخبار”]. قد جاءت هذه المقالة رداً على مقالة الدكتور مراد وهبة بعنوان: “عبد الرحمن بدوي من وجهة نظري”. حيث يطرح الأخير في مقالته السؤال التالي: “لماذا لم يكمل بدوي وهايدجر بنائهما الفلسفي؟”. وصاحب هذه المقالة يذكر الإجابة التالية على هذا السؤال: “كلاهما كانا رائدين في الفلسفة النازية الفاشية”. ثم يعقب أنه “عند ما انتحر هتلر، انسحب كلاهما من تكميل بناء فلسفتهما”. وهذا تقييم تم تأكيده فيما يتعلق بالعديد من الشخصيات والأحزاب والحركات في مصر في ذلك الوقت (أواخر الثلاثينيات إلى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين) [1، 201].
الخاتمة:
ارتبط الدكتور عبد الرحمن بدوي بالفلسفة النازية فقط في بداية حياته المهنية. كان هذا الارتباط اتصالا سياسيا وبعد ذلك انقطع عنه. كانت للدكتور عبد الرحمن بدوي فلسفته الخاصة مع جذور أوروبية ثم تأثر بالتراث العربي والإسلامي وأضاف فيها شيئا.
يمكن القارئ أن يطلع على وجهة نظر الدكتور عبد الرحمن بدوي الخاصة في هذا الصدد في العديد من مؤلفاته، منها: “تاريخ الإلحاد في الإسلام”، و”الإنسانية في الفكر الوجودي والفكر العربي”، ومقدمة كتاب “الإشارات الإلهية” لأبي حيان التوحيدي.
باختصار، لم يتوقف الدكتور عبد الرحمن بدوي عن تكميل فلسفته الوجودية، كما ادعى الدكتور مراد وهبة. ولكن حتى النهاية، ظل من أتباع الوجودية غير الإلحادي لمارتن هايدجر.
Мактаби фалсафӣ ва методологияи Абдурраҳмон Бадавӣ дар таҳқиқи мазҳабҳо. Шарҳ ва нақд. Таълифи Абдулқодир ибн Муҳаммад ал-Ғомидӣ. Ар-Риёз: Китобхонаи ар-Рушд, 1429ҳ=2008.
عبدالرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي ومنهجه في دراسة المذاهب. عرض ونقد.
Махмуд Амин Аль-Алим. Идейные бои. Сокрашённый перевод с арабского, кандидат философских наук А.В. Сагадеева. Москва: Издательство «Прогресс», 1974. -272 стр.
محمود أمين العالم. معارك فكرية. ترجمة مختصرة من اللغة العربية.
فلاسفة العالم الإسلامي من الشرق والغرب. عبدالرحمن بدوي.
معلومات عن المؤلف: كامل بيك زاده – الدكتوراه في العلوم الفلسفية، أستاذ مشارك، وباحث علمي في معهد الدراسات لمسائل دول آسيا وأوروبا لدى الأكاديمية الوطنية للعلوم في تاجيكستان. البريد الإلكتروني: didavar@inbox.ru