القيم الإنسانية في دين الفطرة

توطئة:

يمكن القول بالجزم واليقين إنّ الإسلام هو الدين الحنيف، وهو أيضاً دين الفطرة للناس جميعاً، والدين القيم للإنسان كلهم، كما ورد في القرآن الكريم: “…فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم”[i]. وإنه مصدر من مصادر القيم الإنسانية، وتصور معين للحياة تنبثق منه القيم الإنسانية العظمي التي تستغرق البشر كلهم، وتستوعب كل شؤون حياته. وإنه رصيد قوي يهب أصحابه بصيرةً نافذةً، ويعطهم مبادئ القيم البشرية كالطهارة والنبل والشجاعة ٍوإلى ذلك، ويعصمهم من التهافت والتردي والسقوط وإلى ذلك.

ومن المهم أنه دين آدم ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، كما جاء في القرآن: “آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله…”[ii]. فهو في الحقيقة دين كل رسل الله الذين أتوا في العالم، لابل أنه دين كل مولد يولد، كما جاء في الحديث: “ما من مولد إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسّون فيها من جدعاء”.[iii]

 ويقول بعض العلماء أنه بمثابة البوتقة، تصهر فيها الشخصية الإنسانية، كما تصهر المعادن الثمينة، فينفي خبثها، وتنضج خصائصها، وتصقل مواهبها، فتصبح خلقاً أخراً ذا جاذبية ونضارة. فلم يكن يري في دين الفطرة سوي خير للإنسان والإنسانية، وتاريخه البشري حافل بالقيم الإيجابية الصالحة، فيوجب على كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي نشر قيم الخير والسلام بين أفراد المجتمع الإنساني، ليرتقي المجتمع بأفراده.

 كثيرا ما نسمع ونقرأ عن التعصب الطائفي والمذهبي والديني الذي ساد في العالم، خاصة في الهند، تنتهك به كل الحرمات، وتذبح كل القيم، وتستباح الشخصية الإنسانية استباحة كبري، فيعتدي على كرامتها، وتداس خصائصها، ولكن الإسلام حيث يحث المجتمع الإنساني على التخلق بالقيم الإيجابية الصالحة يصلح بها المجتمع، ويحرضه علي ترك كل القيم الجاهلية العصبية، والغربية الخبيثة، وعلى التنزه عنها.

ومن البديهي أن القيم الإنسانية توجد في كل الشرائع والأديان والمباحث الفلسفية، بأنها قواعد راسخة توفر الحد الأدنى الكافي لحياة تحت غطاء الأمن والسلام، وذلك منذ فجر التاريخ البشري، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها، وبأنها يحتاجها الإنسان جميعاً للحفاظ علي حق الحياة والحرية والأمن لكل فرد من أفراد المجتمع، وهي فرض عين على الجميع فرداً فرداً.

وأيضاً هذا من الثابت أن الإنسان هو أشرف المخلوقات بأنه صاحب العقل والقيم الإنسانية، فيلتفت إليها دين الفطرة بتعليمه عن القيم الإنسانية مثلاً: العدل والمساواة والحرية والصدق وإلى ذلك. فاخترنا لنا بحثاً عنوانه “القيم الإنسانية في دين الفطرة”، وقبل أن نخوض في صلب الموضوع، لابد أولاً أن نعرف ما المراد بكلمة “القيم”؟ هي جمع لكلمة القيمة التي تعني بها صفات، أو مثل، أو قواعد تقام عليها الحياة الإنسانية، فتكوّن بها حياة إنسانية، وتعاير بها النظم والأفعال، لتعرف قيمتها الإنسانية من خلال ما تتمثله منها.

تعريف القيمة:

القيمة لغةً: “واحد القيم، وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء. والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم”.[iv]

عرف كثير من علماء الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس القيم. ومن تلك التعريفات:

1 .  القيم بأنها “موجهات السلوك وضوابطه. وهي حراس الأنظمة، حامية البناء الاجتماعي.[v]

2 . بأنها عبارة عن نظام معقد يتضمن أحكاماً تقويمية، إيجابية أو سلبية تبدأ من القبول إلى الرفض، ذات طابع فكري، ومزاجي، نحو الأشياء وموضوعات الحياة المختلفة، بل نحو الأشخاص، وتعكس القيم أهدافنا واهتمامنا وحاجاتنا والنظام الاجتماعي والثقافي التي تنشأ فيها بما تتضمنه من نواحي دينية واقتصادية وعلمية.[vi]

3 . القيم هي المبادئ والمقاييس التي نعتبرها هامةً لنا ولغيرنا، ونطالب بتحقيقها كالصدق والأمانة والعفة، والمفردات الأخلاقية الأخرى.[vii]

ويمكن القول بالاطمئنان في تعريف القيم بأنها قوالب للتفكير والعمل الإنساني، تساعد الإنسان على الحكم علي الأشياء، وعلى المرغوب وغير المرغوب من السلوك. وتأتي قيمنا ومعاييرنا من خبراتنا وتجاربنا، متأثرةً بانتمائنا للمجتمع الذي نعيش فيه، ومتأثرةً بالثقافة التي تسود حياتنا. ونحن نستمدها من الأبوين، والأقارب، والأصدقاء، والمعلمين، والمربين، ووسائل الإعلام، والتوجه.

أما من ناحية دين الفطرة، فيمكن أن نعرف القيم الإنسانية الإسلامية بأنها هي “الأحكام التي يصدرها المرء على أي شيء مهتدياً في ذلك بقواعد ومبادئ مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومصادر التشريع الإسلامي الأخرى، وتكون موجهة إلى الناس عامة ليتخذوها معايير الحكم على كل قول وفعل، ولها في نفس الوقت قوة وتأثير عليهم”.[viii]

القيم الإنسانية في دين الفطرة:

لا يصح أن ينسي أحد في هذا المقام أن الإسلام أنقذ الإنسان والإنسانية من الاضطهاد، والاستبداد، والهوان، ونهي عن الفرق بين الحاكم والمحكوم، وبين الغني والفقير، وعن الظلم على النساء والبنات والغلمة، وأنه حضّ الإنسان على احترام نفس الإنسان، سواء كان من أيّ قبيلة من العالم، ومن أيّ لون من الألوان. وأقام المساواة بينهم، وكسر أصنام كبرياء الرئاسة والشيخوخة، وأزال الفوارق الطبقية، ومحي مراسم الجاهلية الخبيثة كلها، وأعطاهم الحقوق والحرية والاحترام جميعاً.

لا يمكن الرفض لأحد، ولو كان عدو الإسلام، إلاّ أن يقرّ بأن الإسلام قد جاء بها، وحثّ كل من أعتنق بالإسلام على الأخذ منها، وعلى الممارسة عليها حتى يصبح إنساناً كاملاً يحبه الله ورسوله وسائر الناس المنصفين الذين يعيش فيهم. فيقوم بأداء الحقوق لسائر الناس، سواءً كان يعرفهم أم لم يعرفهم، سواءً كانوا من أمته المسلمة أم من أمة غير المسلمة.

وفي الواقع أن الإسلام يدعو الإنسان إلي العدل بكل معانيه، والعدل مع كل أحد، ويدعوه إلى الرحمة حتى مع الحيوان، والحلم، والصدق، واحترام النفس البشرية، والأمانة، والشجاعة، والتواضع، والوفاء، والأمن، وحسن الحديث، كما يدعوه أيضاً إلي حسن إدارة الوقت، وتحمل المسئولية، وكسب الحلال الطيب، والاجتناب من الحرام، والفواحش، والمنكرات.

ولا شك في أنه يدعوه إلى إقامة مجتمع مبني على احترام النفس البشرية، وحسن الخلق، يسوده الحب والود. فما أحوج البشرية اليوم على اختلاف أديانهم وأجناسهم، ليعيشوا هذه القيم البشرية، والحقوق في عالم الواقع ليسعدوا. فلدينا هنا قيم إنسانية، نبينّها واحدةً واحدةً، منها:

1 . احترام النفس الإنسانية:

إنّ الله جعل الإنسان من أشرف مخلوقاته، وكرّمه وفضّله على سائرها، فقال تعالي: “ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً”[ix]. ومن دلائل احترام الإسلام للنفس الإنسانية، ها هو نبي الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، له عمل يدلّ على احترام النفس الإنسانية، قد مرت به جنازة، وكان قاعداً، فوقف، فقالوا: يا رسول الله إنه يهودي، فقال: “أليست نفساً”.[x]

يشير هذا العمل إلى تكريم النبي صلي الله عليه وسلم للنفس الإنسانية، مهما كان دينها وانتماؤها وتصرفاتها في الدنيا. وقد نهي النبي صلي الله عليه وسلم عن سب الأموات، وعن امتهان جثة الميت أو العبث بها. فقال: “كسر عظم الميت ككسره حياً”[xi]. ونهي النبي أيضاً عن تعذيب الناس فقال: “إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا”[xii]. وقال: “صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها”.[xiii]

2. الرحمة:

إن قيمة الرحمة من أهم القيم الإنسانية، لها آثار عظيمة من العفو والجود والتعاون مع الآخرين، ومدّ يد العون، وإغاثة الملهوف وغير ذلك. وهي من أخص صفات النبي صلي الله عليه وسلم، والله جعله رحمةً للكائنات وما فيها، وأرسله رحمةً للعالمين، فقال تعالي: “وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين”[xiv]. فهي تضم جميع شعوب الأرض، وتتسع أفق البشر، وتزيد تراحمهم.

وقال تعالي في شأن حبيبه، ذاكراً أوصافه الجميلة: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم”[xv]. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: “إني لم أبعث لعاناً، إنما بعثت رحمةً”[xvi]. وقال: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”[xvii]. وقال: “من لا يرحم لا يرحم”[xviii]. وقد سادت رحمة النبي صلي الله عليه وسلم كل شيء حتى الحيوان، فقد قال رجلٌ له: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: “والشاة إن رحمتها رحمك الله”.[xix]

3 . التواضع:

لا نبالغ في أن الإسلام قد حضّ الإنسان على التحلي بقيمة التواضع، وبينّ أن الأنسان كلما تواضع كلما زادت منزلته عند الله ورسوله، وعند الناس كلهم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: “وما تواضع أحد لله إلاّ رفعه الله عزّ وجلّ”[xx]. وقال: “إن الله أوحي إليّ أن تواضعوا حتي لايفخر أحد علي أحد، ولايبغي أحد علي أحد”[xxi]. وكان يقوم أمور بيته كخصف نعله، ورقع ثوبه، وحلب شاته لأهله، وعلف البعير، وهو يأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي في حوائج الأرامل واليتامي، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلي أيسر شئ.

كان النبي صلي الله عليه وسلم يحب التواضع، وهو من أهم صفاته، انه كان لايمر علي الصبيان إلاّ يسلم عليهم، وكان الداخل إلي المسجد النبوي لايعرفه من بين أصحابه وذلك لعدم تميزّه عنهم فى شئ من اللباس، أو الوسائد، أو الأماكن، أو غير ذلك. ورجل أتي النبي صلي الله عليه وسلم، فأصابته من هيبته رعدة، فقال له: “هون عليك نفسك فإني لست بملك، إنما أنا أبن إمرأة كانت تأكل القديد”[xxii]. وخرج علي أصحابه ذات يوم فقاموا له إجلالاً وأحتراماً، فقال: “لاتقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً”.[xxiii]

فى الحقيقة أن النبي صلي الله عليه وسلم ليس بملك، بل هو بشر كامل، وليس بشراً كبشر، بل هو أفضل الخلق والبشر، وهو كائن نوراني مع بشريته، خلق الجميع ما فى العالم بسببه، ومن نوره. وكان يعظّم أصحابه أشدّ التعظيم، حتي شربوا من وضوئه ودمه تبريكاً وتعظيماً وإجلالاً. وكل ما ذكرنا فى أعلي يشير إلي أن النبي صلي الله عليه وسلم متواضع جداً، مع أنه حبيب الله، وسيد الأنبياء والرسل وسائر الخلق، ومع أن أوصافه لاتعد ولاتحصي، فيجب للجميع أن يحب التواضع، ويتخلق به لتكامل الشخصية البشرية.

4 . الأمن:

يعترف الجميع بقيمة الأمن فى حياة البشر، فبدونه تتعطل مصالح الناس، وتسود الفوضي، ويكثر التعذيب والإضطهاد، وتعمّ جرائم القتل والسلب والنهب، وتملؤ قلوب الناس بخوف المجرمين ورعبهم. فقال النبي عليه أفضل الصلاة والتسليمات مبيناً قيمة الأمن، وجاعله من أعظم النعم التي يتمتع بها الإنسان فى الدينا: “من أصبح منكم آمناً فى سربه، معافيً فى جسده، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدينا”.[xxiv]

عندما يفتش الباحث عن قيمة الأمن فى الإسلام، يجد أمثلته بالكثرة مثلاً: أمر النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة من مكة إلي الحبشة، لماّ افتقدوا الأمن فى بلدهم، حماية أفراد المسلمين من التعذيب والإضطهاد، ثم هاجر بنفس السبب، وللبحث عن مكان جديد حافل بالأمن، يدعو فيه الناس إلي الخير والأمن والسلام، وبما أنزله الله عليه من القيم الإنسانية والعبادات.

وقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم من كل ما يزعزع الأمن، ويقوض أركانه، وحرّم جرائم القتل والسرقة وإنتهاك الأعراض وغيرها، يفتقد بها الأمن، فقال: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا، فى شهركم هذا”.[xxv]

5 . العدل:

ذلك العدل توجد فيه سعادة البشر جميعاً، فكان النبي صلي الله عليه وسلم يحبه، وألزمه علي سائر المسلمين، وله مجالات كثيرة لاتحصر، منها: العدل فى الولاية، و فى القضاء، وفى تطبيق الحدود، والعدل فى المعاملات بين الناس، وفى الإصلاح بين الناس، والعدل مع الأعداء، والأصدقاء، والعدل مع الأولاد، وبين الزوجات، وغير ذلك. فكان النبي صلي الله عليه وسلم أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ولايقبل الشفاعة فى حدّ من حدود الله.

وقال يذكر سبب هلاكة الذين من قبل الأمة المسلمة، وهو عدم وجوب العدل مع الجميع، ويحث على نفاذه فى كل الأحوال، ومع الجميع بذكر قطعة كبده وسيدتنا السيدة فاطمة سيدة نساء أهل الجنة للتحذير والإنذار، فقال: “إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”[xxvi]. وقال مبشراً: “…عن المقسطين عند الله علي منابر من نور، الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولّوا”[xxvii]. وقال منذراً: “إن الله لايقدّس أمة لايأخذ الضعيف حقه من القوي، وهو غير متعتع”.[xxviii]

وكذلك يأكد الله علي أخذ العدل، والإعراض عن الجور، ويأمر بالعدل في القول والحكم، فقوله تعالي: “وإذا قلتم فأعدلوا ولوكان ذا قربي”[xxix]. وقال: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”[xxx]، بل يأمر بالعدل حتي مع العدو الهدّام، ويحذر من أن تكون العداوة سبباً فى ظلم الآخرين، والتعدي علي حقوقهم، فقال تعالي: “ياأيها الذين أمنوا قومين لله شهداء بالقسط، ولايجرمنكم شنان قوم علي ألّا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوي، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون”.[xxxi]

6 . الشجاعة:

 كثيراً ما نذمّ شخصاّ ما فنحن نقول: إنه متلون، لارائ له، لامبدأ له، لاهوية له، ولم يكن النبي صلي الله عليه وسلم كذلك لامع أصحابه، ولامع أعدائه، وكان أشراف قومه يودّونه أن يتنازل عن بعض مبادئه، فلم يظفروا بذلك، بل قال كلمته الشهيرة: “يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمني والقمر فى يساري علي أن أترك هذا الأمر-أي الدعوة إلي الإسلام- ما تركته حتي يظهره الله أو أهلك دونه”[xxxii]. وردت الإشارة عن هذا فى القرآن: “ودّوا لو تدهن فيدهنون”.[xxxiii]

وجدير بالذكر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: “تجدون الناس معادن، خيارهم فى الجاهلية، خيارهم فى الإسلام، إذا فقهوا. وتجدون خيار الناس فى هذا الشأن أشدهم له كراهة، وتجدون شرّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه”[xxxiv]. وعن محمد بن زيد أن أناساً قالوا لجدّه عبد الله بن عمر: إنا ندخل علي سلطاننا فنقول بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم؟ فقال: كنا نعد هذا نفاقاً علي عهد رسول الله[xxxv]. وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: “إذا رأيتم أمتى تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تودّع منهم”.[xxxvi]

7 . الحلم:

قدبلغ النبي صلي الله عليه وسلم الذروة فى مجال الحلم، وكظم الغيظ، وشدة الإحتمال، قال أنس بن مالك: كنت أمشي مع رسول الله صلي الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، حتي نظرت إلي صفحة عاتق النبي صلي الله عليه وسلم، قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وضحك، ثم أمر له بعطاء.[xxxvii]

هكذا أظهر النبي صلي الله عليه وسلم حلمه، وكظم غيظه بعد هذا التصرف السيّئ من هذا الأعرابي الجافي، ولم يعاتبه وإنما تبسم فى وجهه وأعطاه ما يريد. وكان نائماً فى ظل شجرة، فجاء أعرابي، وقال بعد أخذ السيف: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: “الله”. فاضطرب الأعرابي، ووقع السيف من يده، فأخذ النبي صلي الله عليه وسلم السيف، وعفا عنه، وأجلسه بجواره.[xxxviii]

8 . الأمانة:

تعد قيمة الأمانة من أهم القيم الإنسانية، وهي أحتلت مكانةً مرموقةً فى الإسلام، فقال تعالي: “إنا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان”[xxxix]. وكان النبي صلي الله عليه وسلم يعرف فى قومه بالأمين، وقد تزوجت خديجة، وهي المرأة الشريفة الثرية، لأمانته وكريم أخلاقه، حيث كان يشرف علي تجارتها بالشام.

كان أهل قريش يضعون أموالهم عنده أمانةً، حينما هاجر النبي إلي المدينة، ترك علياً بمكة لردّ الأمانات إلى أهلها، مع أنهم آذوه وعادوه وكذّبوه وصادروا أموال أصحابه، إلاّ أنه لم يأخذ أموالهم عوضاً عن ذلك، بل ردها إليهم لأنها أمانة، وهو خير من يحفظ الأمانة. وعدّ النبي صلي الله عليه وسلم تضيع الأمانة من صفات أهل النفاق، فقال: “آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان”.[xl]

قد تحدثنا عن بعض هذه القيم الإنسانية بالإجمال. فالإسلام يعلّم الإنسان أن يتمسك بها في كل أحوال حياته وحوائجه، وأن يكون أميناً، ولو قادت أمانته إلى تعقد الأمور، ثم أن يقول الحق، ولو على نفسه، أو على أقرب الناس إليه، وأن يبدي عطفاً على مستحقه. وكذلك أوجب علينا الإسلام أن نصبر في أشد أيام المحن، وأن نحسن إلى من أساء إلينا.

الخاتمة:

نحن نقول أخيراً أن القيم الإنسانية تدعي في الإسلام بالأخلاق، وإنها تعدّ من القيم الخلقية، وكان نطاقها متسعاً اتساع الإنسانية نفسها. فإنها تتعلق بواجبات الإنسان نحو أخيه الإنسان، وهي قائمة على مثل سامية ضرورية بلا ريب لرقي الإنسان. هذه القيم تتناول جميع أطراف الجهود الإنسانية، وتتطلب الرقي في جميع قوي الإنسان. فمن يريد فلاحه وسعادته وسعادة بني نوعه جميعاً، فهو حري بأن يتأمل آيات القرآن، وأقوال الرسول صلي الله عليه وسلم، يدرك أنها ترمي إلى غرض واحد هو طهارة النفس البشرية، وكمالها الإنساني، ويؤكد هذا كل ما ذكرناه في هذا البحث. فاليوم أن الإنسان في أشد حاجة إلى الإسلام وتعاليمه ليرتقي المجتمع بأفراده، ويعم فيه الخير الاجتماعي بأنواعه، ويوجد في الإسلام الحث البالغ على تلك القيم الإنسانية المذكورة لفلاح العالم كله، ونجاح البشر كلهم. وكل الناس في العالم محتاجين إليه منذ البداية حتى اليوم لمعالجة الإصلاح. ومن البديهي أن الإسلام دين عالمي بمعنى أنه لم يأت لقوم أو للعرب فقط، بل جاء لهم ولغيرهم أيضا، ولا هو مذهب طائفة بعينها، ولكن فيه خصائص شاملة تجعله يصلح لكل قوم في كل عصر ومصر. والغاية من هذا السعي الحقير، هو التثبيت، والترسيخ في قلوب كل الناس، أن الإسلام هو دين الرحمة والأمن، ولا يوجد فيه التطرف، ولا الإرهاب، كما يدسون أعداء الإسلام ضده كتابةً ونطقاً، ويكذبون بأن الإسلام هو دين الإرهاب. والغاية الأخرى هو الإخبار عن الإسلام إنما هو الدين الحنيف المستقيم القيم المنقذ البشرية كلها من الهلاك والسقوط والتردي.

(الدكتور محمد إعجاز، استاذ مساعد فى كلية كونية بكيرالا، الهند)

المصادر والمراجع:

  • القرآن الكريم
  • كتب الأحاديث
  • الشيخ عبد العزيز شاويش، الإسلام دين الفطرة، مصر
  • مولانا محمد علي، الإسلام دين الإنسانية، المكتبة الأهلية، بيروت، ط: 1946م
  • أحمد أمين، كتاب الأخلاق، مكتبة دار الكتب المصرية، القاهرة، ج: 3، ط: 1931م
  • سعيد علي وهب القحطاني، الخلق الحسن، مكتبة الملك الفهد الوطنية، الرياض، ط:2010م
  • يوسف القرضاوي، القيم الإنسانية في الإسلام
  • file:///C:/Users/NAB/Desktop/%D9%82%D9%8A%D9%85%20%D9%88%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%20%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87%20%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF%20%D8%B5%D9%84%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87%20%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87%20%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%85..html

[i]. سورة الروم، الآية: 30

[ii]. سورة البقرة، الآية: 285

[iii]. رواه مسلم، كتاب القدر، رقم: 6926

[iv]. ابن منظور، لسان العرب، ص:75

[v]. فاروق أحمد الدسوقي، مدي تأثير القيم الإسلامية على برامج الاطفال بدول الخليج، ص: 320

[vi]. محمود السيد أبو النيل، علم النفس الاجتماعي، ج: 1، ص: 229

[vii]. د. محمد التكريمي، آفاق بلا حدود، ص: 126

[viii]. مساعد بن عبد الله المحيا، القيم في المسلسلات التلفازية، ص: 80

[ix]. سورة، الإسراء، الآية: 70

[x]. رواه البخاري، رقم: 1229، ومسلم، رقم: 1596

[xi]. رواه أبو داود، رقم: 2792

[xii]. رواه مسلم، رقم: 4733، وأبو داود، 2648

[xiii]. رواه مسلم، رقم: 5098

[xiv]. سورة، الأنبياء، الآية: 107

[xv]. سورة، التوبة، الآية: 128

[xvi]. رواه مسلم، رقم: 4704

[xvii]. رواه أبو داود، رقم: 4290، والترمذي، رقم: 1874

[xviii]. رواه البخاري، رقم: 5538، ومسلم، رقم: 4282

[xix]. رواه احمد، رقم: 19470

[xx].  رواه مسلم، رقم: 4689

[xxi]. نفس المصدر، رقم: 5109

[xxii]. الحاكم، المستدرك، ج: 2، ص: 446

[xxiii]. رواه أبو داود، رقم: 2377

[xxiv]. رواه الترمذي، رقم: 2268

[xxv]. رواه البخاري، رقم: 1623

[xxvi]. نفس المصدر، كتاب الحدود، رقم: 6787

[xxvii]. رواه مسلم، رقم: 3406

[xxviii]. رواه ابن ماجه، رقم: 2417

[xxix]. سورة، الأنعام، الآية: 152

[xxx]. سورة النساء، الآية: 58

[xxxi]. سورة المائدة، الآية: 8

[xxxii].  ابن هشام، ج: 1، ص: 265

[xxxiii]. سورة، القلم، الآية: 9

[xxxiv]. رواه البخاري، رقم: 3234

[xxxv]. نفس المصدر، رقم: 6642

[xxxvi]. رواه أحمد في المسند، رقم: 6234

[xxxvii]. رواه البخاري، رقم: 5362

[xxxviii]. نفس المصدر، رقم: 2694

[xxxix]. القرآن، سورة، الأحزاب، الآية: 72

[xl]. رواه البخاري، رقم: 32