ذكريات لا تبلى؛ رحلة إلى “مصر الهند” تحت ظلال الجامعة الإسلامية بهتكل

في الحقيقة، السفر قطعة من العذاب وجمرة من النار. ولكن من جانب آخر، السفر خزانة علوم وفنون. وهو كالكير؛ ينفي خبث صاحب السفر ويصقل طيبه. ما أصدق قول الشافعي رحمه الله حيث قال:

سافر تجد عوضًا عمّن تفارقه

وانصب فإنّ لذيذ العيش في النَّصَب.

إني رأيت ركود الماء يفسده

إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب.

قبل أيام قليلة، أتيحت لي فرصة زيارة مدينة بهتكل، المشهورة بلقب “مصر الهند”. (بهتكل هي مدينة ساحلية تقع في جنوب ولاية كارناتاكا. تقع المدينة على الطريق الوطني رقم 66، الذي يمتد بين مدينتي مومباي وكانياكوماري في الهند). وبحسب بعض المؤرخين، توصف بهتكل بـ”مصر الهند” نظرًا لتشابهها مع مصر في علومها وفنونها وثقافتها العريقة. وهناك أيضًا بعض المؤرخين الذين يعتقدون أن وصفها بمصر يعود إلى جمال نسائها، إذ يُقال إنهن من أصول يمنية، حيث قدم آباؤهن إلى الهند واستقروا في منطقة بهتكل.

طوال سفري كله، فهمت وأدركت أن ما يُقال ويوصف عن بهتكل حق، وليس بخرافة أو أسطورة كما يحدث مع المؤرخين غالبًا. بعد أن وصلت إلى محطة القطار في بهتكل، ركبت مركبًا قاصدًا الجامعة الإسلامية، وهي مركز الفقهاء في بهتكل، تأسست رسميًا عام 1962 على يد العالم المشهور أرشد أحمد القاسمي من دار العلوم ديوبند، بمشاركة بعض العلماء العباقرة، منهم عبد الحميد الندوي، العميد الأول للجامعة الإسلامية، وعبد المجيد الدريابادي، وعبد الباري الندوي، وسيد سليمان الندوي. حاليًا، يدرس فيها آلاف الطلاب من شتى بقاع الأرض، يجمعهم حب العلم والشوق للمعرفة. ومما يجلب السرور والفرح أن الجامعة الإسلامية أكملت ستين عامًا من عمرها منذ التأسيس، حيث تخرج منها أكثر من ألف عالم فاضل يخدمون المجتمع والأمة الإسلامية.

الجامعة الإسلامية تمتد إلى مدى بعيد حيث تقع على عدة كيلومترات. عندما نقف خارج بوابة الجامعة، يخيل إلينا أنها قرية صغيرة محاطة بجدران ضخمة، تحتوي على كل ما تحتويه القرية من مبانٍ ومكاتب ومسجد وبنيات طرق وحديقة كبيرة. الجامعة الإسلامية تتبع المنهج الدراسي الذي تدرِّسه ندوة العلماء، لأنها تعتبر المدرسة الأم لهذه الجامعة وهي تابعة لها. هناك في الجامعة ثلاث مراحل: المرحلة الثانية، والثانوية، والعالية. في كل مرحلة، هناك طلاب من داخل الوطن وخارجه. من بينهم طلاب يأتون إلى الجامعة كل صباح ويغادرون في المساء، وطلاب يدرسون مقيمين بها حتى يعودوا إلى بيوتهم شهريًا أو كل شهرين، وهم غالبًا من خارج الوطن.

والأمر الذي أعجبني وتأثرتُ به عميقًا في الجامعة هو وجود ثلاثة مكاتب متميزة. المكتب الأول خاص بطلاب المرحلة الثانية، حيث يستلهمون منه ما يحتاجون. والمكتب الثاني مخصص لطلاب المرحلة الثانوية، الذين يستفيدون منه بشكل كبير. أما المكتب الثالث فهو للمرحلة العليا، ويقصده الباحثون. هذا المكتب أيضًا مفتوح ومتوفّر للعامة، حيث يأتي إليه العديد من الزوار في الصباح والمساء. خلال زيارتي هناك، تمكنتُ من العثور على بعض الكتب الفقهية القديمة التي كنت أبحث عنها طوال حياتي. كما وجدتُ آلاف الدواوين والمجلدات التي تأخذنا إلى أعماق بحر العلوم والفنون. كثير من هذه الكتب لم أرها من قبل ولم أسمع عنها حتى، مما جعلني أشعر برغبة عميقة في أن أخيم بخيمة في إحدى زوايا المكتب وأقضي أيامي هناك.

وما يجعل مكاتب الجامعة الإسلامية متميزة وفائقة عن غيرها من المكاتب، هو أنها رتبت الكتب في كل مكتب على مستوى الطالب المحتاج العطش لتلقي العلوم والفنون. وأيضًا، يعقد الإداريون والأساتذة بعض الأنشطة والبرامج لتشجيع القراءة وفتح آفاقها أمام الطلاب والمحتاجين، ويقومون بتوزيع الجوائز على الفائزين والمتفوقين. مما أثار دهشتي وحيرتي أن هناك طلابًا صغارًا يقرؤون ستة آلاف صفحة في شهر، بينما أنا لا أقرأ مئات الصفحات، ولما قاربت الخمسين.

بعد زيارتي للمكاتب، جئت وبعض أصدقائي – الذين كانوا معي طوال الرحلة – لمقابلة شيخ الجامعة، مقبول الندوي، الذي يترأس الجامعة الإسلامية منذ زمن طويل. كان فقيهًا أديبًا، متقنًا لمجالات عديدة من العلوم، وصاحب رأي ناضج. تحدث معنا ساعات عن تاريخ بهتكل وعن الأدوار والأنشطة التي تتم تحت رئاسته في الجامعة. ومما لا يُنسى أبدًا، أنه أكرمنا بكرم ضيافة بالغ، حيث أعد لنا مسكنًا وأطعمة وأشربة تعبر عن ثقافة بهتكل وتُظهر طقوس العرب وطبيعتهم، لأنهم كما ذكرت سابقًا من أصل وفروع يمانية.

أمكنني القول إن زيارتنا كانت زاخرة بكل خير وفضل، إذ حظينا بلقاء قاضي بهتكل صدفة، حيث كان حاضرًا في الجامعة وقت زيارتنا. وكان هذا اللقاء مصدر فرح وسرور كبير لنا، لأنه قليل الحضور في الجامعة. وهو يقدم درسًا في المرحلة العالية مرة أو مرتين في الأسبوع.

عندما علمنا بحضوره، أسرعنا للقائه ملتزمين بكل أدب وكرم. كان حاضرًا في المسجد، وعندما شاهدنا استقبلنا في مكتبه وأمر أحد خدمه بإحضار الشاي والأشربة. تعرفنا عليه، وتعرف علينا، وقضينا ساعة في مناقشة حماسية حول المشكلات التي يواجهها الفقه الإسلامي في العصر الحاضر. قدم الشيخ رأيه بوضوح، مستفيدًا من خبرته وتجربته الطويلة في مجال الإفتاء والقضاء.

أخيرًا، وبعد النقاش، دعانا إلى زيارة المحكمة الشرعية العليا التي يديرها منذ تعيينه قاضيًا لبهتكل. وهناك أكرمنا بكرم ضيافة عظيم، ودعانا إلى تناول العشاء في منزله. لكن موعد القطار كان قريبًا، ولم يبق سوى ساعة والمحطة بعيدة، فخَفْنا أن نفوت القطار ونعود متأخرين. شكرناه على ضيافته وسلمنا عليه مودعين.

كانت الحافلة التي أعدها لنا مقبول الندوي جاهزة لإيصالنا إلى محطة القطار. وحين ركبت المركبة، بدأ قلبي يضطرب ويقلق، وازداد اضطرابي مع كل حركة، لسبب فراق هذا المكان الذي ملأ قلبي بالموعظة والخبرة والهمة. تذكرت حينها قول القائل: “لكل اجتماع فراق”. وبينما كنت أشاهد الطريق ومظاهر القرية، هدأ قلبي حتى غلبني النوم، والتعب الذي أصابني منذ الصباح لم يوقظني إلا عندما وصلت إلى بيتي.

ما يعجبني أنني لم أستطع إدراك إجابة عن سؤال: كيف لصق قلبي بهذا المكان الملهم الداعم – لكل طالب بخزانة علومه وفنونه التي احتضنته منذ زمن قديم – في يوم واحد؟ هل هي ظاهرة لا تتكرر أم سحرية لا تُفسر؟ أخيرًا، سفرك هو سفرك وحدك، وتجربتك هي تجربتك، ووصف ما شعرت به في الألفاظ أمر مستحيل إلى الأبد.