وعاءُ العلم

إنّ العربية ليست حروفًا تُرصّ، ولا ألفاظًا تُسطّر، بل هي جوهرُ العقل، وروحُ البيان، ومرآةُ الفكر، ووعاءُ المعنى، بها تنضبط المدارك، وتستنير الأفئدة، وتتجلّى المفاهم، وتتشكل طرائقُ النظر، ومناهجُ الاستدلال. فهي ليست أداةً تُستعمل، بل آلةٌ تُستبطن، وحاكمةٌ على الفكر، لا محكومةٌ له، بل هي مناط التمييز بين الخطأ والصواب، والرشاد والضلال، والتقعيد والتفريع.
وما ضعفُها في أمةٍ إلا كان شاهداً على اختلال الفهم فيها، واضطرابِ التفكير بين أبنائها، وسوءِ التصور في قضاياها، وانحدارِ مناهجها التربوية والتعليمية. وإن نبوغها في القلوب والعقول، دليلُ رُقيٍّ في سائر مجالات الحياة؛ من التعليم، إلى القضاء، إلى الطب، إلى الفقه، إلى الإعلام، إلى التخطيط والمعرفة.
وقد قرّر أهل الأصول: أن الوسائل لها حُكم المقاصد، واللغة هي الوسيلةُ العظمى، فحُكمها من حُكم العلم والفهم والدين؛ فكل تراجعٍ عنها هو تراجعٌ عن العقل، وعن البيان، وعن الدين.
وما أجمل ما قاله علماء اللسان: إن اللغة سجلّ الأمم، وصورة وجدانها، فإن بادت اللغة، باد الوجدان، وإن اغتربت، اغترب العقل عن ذاته، وإن صلحت، صلح البناء الحضاري كله.
ويقرر هذا أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) إذ يقول: «من أحب الله – تعالى – أحب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه؛ اعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح الثقة في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد. ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة، وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للضارب، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة التبصر في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان لكفى بهما فضلًا، يحسن فيهما أثره، ويطيب في الدارين ثمره» فقه اللغة وسر العربية: للثعالبي، (المقدمة)، بتحقيق السقا وآخرين، ط. الحلبي، سنة 1392هـ.