إنه الله

………………….
يراودني سؤال يجعلني أجلس في تلك الزاوية متحيراً.
لماذا كل شيء أحببته وتعلقت سعادتي به يذهب سُدي في مهب الريح كأنه لم يكن معي بالأمس؛ تتلاعب بي الأفكار وينفرد بي شخص واحد يود أن يراني متزعزع وحزين، تُراه من سيكون ذلك الشخص؟ إنه إبليس يود أن يجعلني أري بأن الله لا يحبني، لأنه لو كان يحبني ما كان أخذ مصدر سعادتي؛ لدرجة تجعلني أتغافل عن أن أساس المنع هو أساس الرحمة والعطاء، لأن إذا أوجدت الرحمة تواجدت المحبة؛ لكنه يود بكل قوته أن يُهيمن علي عقلي ويجعلني أنساق وراءه وفي لحظة يأس وأنا جالس في تلك الزاوية مُحاطاً بكل تلك الأفكار السوداوية عن الإله.. أجد رحمته تمتد إلي وكأن صوت داخلي يجعلني أستفيق من غفوتي ويُخبرني مهلاً؛ هل أنت حقاً مقتنع تمام الاقتناع بأن هذه الأشياء مصدر سعادتك؟؟ أخبره بأنين نعم وإلا لماذا أنا أُبكي عليها الأن!! حسناً أخبرني ما الذي أوحي إليك بذلك؟ الأسباب.. أسباب تواجدها في طريقي عن طريق الصدفة لم أفتش عنها ولا أبحث عنها ولا ركضت وراءها يوم؛ الم يكن ذلك كافي لكي تتوفر لدي القناعة بأنها ما وجدت محض الصدفة وإنما وجدت من أجل سعادتي والعوض عن كل ما مضي.. سكون تام وكأن الصوت الذي كان يُحدثني رحل، ناديت عليه وسألته ما الذي أسكتك؟ أسمع صدي صوتي يتردد دون أن تأتيني أجابه؛ أبتسم بسخرية وأخبره أراك عجزت عن الرد.. يخبرني لم أكن عاجزاً عن الرد ولكنك أخذت با الأسباب وتغافلت عن رب الأسباب؛ إن الله لم يخلق شيء عبثاً ولم يضع أشياء في طريقك محض الصدفة، ولم يسلب منك سعادتك.. ولكن الله يعلم أسباب سعادتك لذلك وضع تلك الأشياء في وقتها المناسب، لكنها حتماً لن تبلغ معك نهاية الرحلة فاليوم تُسعد بهذا وفي الغد تُسعد بأخري؛ ولم تكن بعد هذه اللحظة الذي سُلبت منك هي مصدر سعادتك فلو أكملت معك سوف تكون مصدر تعاستك؛ لذلك يسلبها الله منك ولكي يعلم هل قلبك تعلق بها هي أكثر أم متعلق بالله الواحد الأحد لأن الله عز وجل غيور علي قلوبنا.. هل ستفقد صوابك لضياعها أم إنك مؤمن أنه ما أخذ إلا ليعطي الأكثر حتي يري الله فيك الآية ” فأنقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ” ” ال عمران: 174 “
أي لما توكلوا علي الله كفاهم ما أهمهم.. ومن بعدها سوف يُكافئك بما يُنسيك مرارة ما فقدت، لكن في بادئ الامر عليك بالصبر والاحتساب؛ يظهر علي محايي معالم الغضب وقبل أن أتفوه بما في داخلي، يسكتني ويخبرني أعلم سلفاً ما سوف تقوله! حتماً لم أقصد أن أخبرك بأنك لا تحزن فأنك بشر ومن حقك أن تتألم لما فقدت لكن لا تيأس وتظن بالله الظنون؛ فلولا أن الله عز وجل يعلم عظيم صبرك علي ما فقدت ما خلق من أجلك باباً في الجنة يدخل منه الصابرون.. مخصص إليك وحدك، أخرج من تلك الزاوية وأصبر وأحتسب وأعلم بأنك في عناية الله عز وجل وأن الله ما أراد لك إلا كل خير.

بين أروقةِ الذاكرة، همسٌ خافتٌ يُناجيني…


هأنذا، بين جنباتِ «الذّاكرة»؛

السماءُ متوشحةٌ السواد، وفي عينيها عتابٌ لن يفهمه إلا من عاش تحت كنفِها سنواتٍ طوالًا. عتابٌ يغمره طيفُ المحبة، ويُجاريه الشوق تحت ضوء القمر. بسطتْ ذراعيها بعد طولِ انتظار، لتُعانقني، وكان العناقُ طويلًا.

شيئًا فشيئًا، بدأت حباتُ المطر تنهمرُ تباعًا، وندى الأيامِ الغابرة يُداعب أنفي. ليأخذني إلى جدرانٍ ناحت وتآكلت أطرافُها؛ نظرتْ إليّ بنظرةٍ ألِفتُها، واحتضنتْ وجهي بكفّيها… دون أن تنبس ببنتِ شفةٍ سألتني: كيف أنا الآن؟ وكيف حالي؟ أخبرتها أنني بخير، ولكنني اشتقتُ إليها، وإلى أيامٍ بكيتُ فرحًا وحزنًا على كتفيها.

أشارت إلى ركنٍ كان يومًا ملاذي، توجهتُ إليه بتوجّس؛ وأنا متيقّنة بأنه سوف يُحيي أوجاعًا صامتة، ويُعيد إلى أذناي صدى الذكرى. وقعتْ عيناي على روايةٍ لي بين الركام، فارتجف قلبي شوقًا؛ وذهبت إليها أناملي دون أن تُشاورني. حملتُها برفقٍ كما تحملُ الأمُّ رضيعَها، وعطري القديم يفوح منها ببطء.

أشحتُ بوجهي حينما هبّت رائحتُه، لكنه أصرّ على أخذي إلى حيث لا أريد. وقفتُ بجمودٍ يتخلله الحنينُ أمام غلافها، حائرةً على عتبتها. لم أقوَ على فتحها، فما كلُّ الأبواب تستحق أن تُطرق مرتين. أعدتُها إلى حيثُ كانت، وبصري يتفقد أرجاء الركن بوجلٍ.

الأصوات تتعاقب، والوجوه تغدو مسرعة، بعضها مبتسمٌ، وبعضها غاضبٌ، وبعضها حزينٌ. البابُ الخشبيُّ المهترئ، يصدُّ عني كلما اقتربتُ منه، خشيةَ أن أزيح عنه ثِقل الذكريات. أما الكرسيُّ، فهو صامتٌ كعادته، مكفهرّ الوجه، وعلى يمينه مذكرتي. أبعدتُها عنه فلانت ملامحه، وكيف لا تلين، وهو قد تحمّل ثقلَ أفكاري برهةً من الزمن.

لم أُطل النظرَ إليها – أي مذكرتي – بل شرعتُ في فتح أبوابها، وكلُّ التفاصيل والرسوم والأحداث تفرّ من أوراقٍ كانت يومًا مسكنها، خائنةً… أغلقتُها، وأودعتُها هي الأخرى مكانها.

أدرتُ ظهري للرحيل، وكلُّ شيءٍ في المكان يدعوني إلى البقاء. دنوتُ من العتبة مودّعةً نسخةً قديمةً مني، ومذكرتي في الخلف تصرخ، وتلتمس مني اصطحابها. حتى الكرسيُّ استنطقتُ صمتَه برغبتي في الرحيل، وتحدث ليقول بعبارةٍ مقتضبة: «لا تُغادري». أومأتُ بأسفٍ، فما عاد هذا المكانُ يسعني، وما عادت هذه الدارُ داري. جئتُ لألقي سلامًا عابرًا وأُكمِل المسير.

رحيل تحت أزيز القصف: شهادة على ليلة الغارة

غادرت وزوجتي التي رافقتني طيلة أيام الحرب بيتي فجر يوم السبت الثامن والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر، في تمام الساعة 4:20 فجراً، قبيل آذان الفجر بساعةٍ ونيفٍ، وذلك بعد عشر ساعات من الغارة العنيفة، غارة المطارق، التي استهدفت سماحة مقر إقامة السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله.

لما كان بيتي لا يبعد أكثر من 500 متراً عن المكان الذي استهدف بالغارة، وكان من السهولة علينا أن نرى من شرفة منزلي الشارع العام المؤدي إلى المقر المستهدف، فقد شعرنا بقوة الانفجار، الذي عصف بالبيت فاهتزت جنباته، وتحرك من مكانه لشدة الانفجار الكنب وأثاث البيت، الذي لم يهتز أو يضطرب، بل تزلزل وتحرك من مكانه علواً وانخفاضاً.

استمرت الغارة 100 ثانية، كانت كافية لنا أن نفكر فيما يحدث، وأن نتساءل ما الذي يجري، ولم يكن يدر في خلدنا أن الغارة بعيدة عنا، فقد ظننا أنها استهدفت بيتنا، أو محيط سكننا، وأن البيت لا شك قد قصف، وأنه عما قليل سينهار بنا وعلينا.

لكن المائة ثانية كانت كفيلة بأن نلتقط أنفاسنا، ونغادر صالون البيت الذي شعرنا به يضطرب تحت أقدامنا، وأقبلت علي زوجتي جزعة لكنها كانت للحق واثقة، فعانقتني وقالت نستشهد معاً، لا نفترق عن بعضنا ويستشهد أحدنا دون الآخر، وعانقتني لا خوفاً، بل يقيناً أن ساعة الأجل قد حانت، وأن الشهادة دنت، فأرادتها أن تكون لنا معاً، وسكنت طيلة ثواني القصف، وران الصمت بعدها، ولزمنا مكاننا ولم نتحرك، بل لم نجرؤ أن نفتح الشرفة ونطل منها إلى الشارع، إلا بعد أن سمعنا أصوات الجيران، وحركة السيارات، والأبواق العالية، والدخان الكثيف المنبعث من هناك، من مكان الغارة.

توقفت الغارات، وغابت الطائرات، وبدأت وسائل الإعلام تتناقل الأخبار وتتكهن، كلٌ يعلن أن المستهدف فلان أو فلانٌ، ولكن أحداً لم يكن يتوقع أو يتجرأ أن يتوقع أن المستهدف بالغارة كان سماحة السيد حسن نصر الله.

كانت الغارة قبيل أقل من ساعة من آذان المغرب، صليت وزوجتي صلاة المغرب جماعةً معاً، فكانت صلاة خوفٍ وكانت سكينةً في آن، إذ توقفنا عن التفكير، وعجزنا عن القرار، ولكن شوارع المنطقة لم تخل من المغادرين، ومن سكان المنطقة “الهاربين خوفاً، فقد كانت الغارة حقاً مروعةً جداً.

ولما كان الكثير من أصدقائي وإخواني يعرفون أن بيتي يقع قريباً من مكان الغارة، وهو في قلب الضاحية الجنوبية، بين برج البراجنة وحارة حريك، فقد انهالت علينا الاتصالات من لبنان ومن خارجه، من بناتي المقيمات مع أزواجهن في تركيا، والثالثة المقيمة وزوجها في الشويفات، قريباً من الضاحية الجنوبية لبيروت، التي لم تسلم بعد ذلك من الغارات الإسرائيلية.

توالت الاتصالات من كل الجهات، حتى أن أهلي وأهل زوجتي في غزة، رغم ظروفهم الصعبة، والحرب الهمجية التي يشنها العدو عليهم، وحالة النزوح المتكرر التي فرضت عليهم أكثر من مرةٍ، حتى غدوا جميعاً بلا بيوت تؤويهم، ولا مكانٍ يجمعهم، في ظل الجوع والخوف والحرمان، إلا أنهم شعروا بالخوف علينا وأصروا على أن نغادر المنطقة، التي يبدو أنها ستكون في الأيام القادمة خطرة، وستكون مرشحة لمزيدٍ من الغارات وعمليات القصف المستمرة، واستغلت ابنتي وزوجها إصرار أهلي في غزة على مغادرة بيتي، فكثفا اتصالاتهما، وألحا علي بطريقةٍ لم أتمكن بسببها من إخفاء ضيقي وتذمري من إلحاحهما، إلا أنهما أصرا وواصلا اتصالاتهما.

لم نصغ السمع لأحد، وقررنا كلانا، أنا وزوجتي أن نبقى في بيتنا ولا نغادر، وأن ننتظر حتى الصباح، فقد تهدأ الأحداث وينقشع الغبار عن حقيقة ما جرى، وأيدني أحد الأخوة الثقات إذ التقيته في مسجد الحي في صلاة العشاء، فأشار علي ألا أغادر، وأن الغارة يتيمة، ولن يكون لها ما بعدها.

لكن صديقي هذا الذي نصحني بالبقاء، غادر بيته والمنطقة قبل منتصف الليل، بعد ساعاتٍ قليلةٍ من نصحه لي بالبقاء، ورغم مغادرته وأنا أثق فيه، فقد آثرت البقاء في البيت، في حين أن كل جيراني قد غادروا المبنى، وسكان الحي قد أخلوا أماكنهم.

لكن زوجتي التي نزلت عليها السكينة، وبرد قلبها لقرارنا بالبقاء، أسكتت بناتها، وردت على المتصلين علينا بإلحاحٍ للمغادرة، وأخبرتهم أننا سنبقى ولن نغادر، ونحن نشعر بالراحة لقرارنا، وقد سلمنا أنفسنا لله، وأودعناه حياتنا وأرواحنا، ونحن لسنا أغلى من أهلنا في غزة، وأرواحنا ليست أعز على الله عز وجل من أرواحهم الطاهرة البريئة، ولا أغلى ممن يسقطون في لبنان انتصاراً لغزة ونصرةً لفلسطين ومقاومتها الشريفة.

للحق فإن زوجتي قد ساعدتني في قراري بالبقاء، ساعدتني بقبولها وتسليمها، وبصمتها وطمأنينتها، وتوكلها على الله سبحانه وتعالى، واستحضارها لأهلها وأهلنا جميعاً في قطاع غزة، ومن أهلها وأهلي في غزة من سقطوا شهداء وارتقوا إلى العلياء، فما كان منها إلا أن أصابها النعاس وكأن الله عز وجل قد بعثه عليها فنامت، واستغرقت في نومها وسلمت أمرها لله عز وجل ولم تدر ما يدور حولها.

خلال نومها، ولساعاتٍ ثلاث، لم تتوقف الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، في محيط بيتنا وبالقرب منه، وفي حينا والمناطق المجاورة، غاراتٌ عنيفةٌ جداً، وأصوات صواريخ المسيرات أكاد أسمع أزيزها قبل أن تنفجر، وقد كثرت الانفجارات وتكثفت الغارات، وأصابني التوتر الشديد من كثرة اتصالات بنتي المقيمة في الشويفات، التي كانت تسمع وترى، فأصابها الخوف والقلق علينا، فألحت في اتصالاتها، وضغطت علي بمكالماتها، فقررت إهمال اتصالاتها، وعدم الرد عليها، بينما زوجتي تنام بالقرب مني، وكلما سمعت أصوات القصف أو شعرت بغاراتٍ تهز أركان البيت، لا أجد إلا أن أضمها إلي لئلا تسمع شيئاً، ولئلا تستيقظ من نومها مذعورةً خائفةً.

لكنها فجأة استيقظت، وكانت الغارات قد اشتدت وتواصلت، وعادت ابنتي وزوجها للاتصال بنا بإلحاحٍ من جديد، وقد كان زوجها يرقب من منزله المرتفع نسبياً في الشويفات، ويرى الأماكن المستهدفة من الغارات والأماكن المقصودة، فأصر بدوره على أن الأوضاع باتت خطرة، وأن الخروج والمغادرة باتت ضرورية، لكننا لم نكن نستطيع المغادرة في هذه اللحظات لو أننا قررنا، فالغارات كانت كثيفة ومتوالية، وقاسية وعنيفة، وبعضها كان مزلزلاً ومرعباً.

اتفقت وزوجتي على أن نغادر في الصباح مهما كانت الظروف والأوضاع، وأن نبقى الليلة في بيتنا رغم أنه لم يبق أحدٌ في المبنى غيرنا، لكن هدوء القصف لدقائق طويلة، وتوقف الغارات فجأة، دفعنا لأن نفكر في مغادرة البيت بسرعةٍ، لكننا لم نبلغ أحداً بقرارنا، ولم نتصل بأحدٍ نخبره بعزمنا، فجمعنا القليل من متاعنا، وبعض حاجاتنا الخفيفة التي ظننا أننا نستطيع حملها، ونزلنا من البيت بارتباكٍ واضطرابٍ، حتى أن بعض أغراضنا قد سقطت على درج المبنى وتدحرجت وفسدت.

وهكذا خرجنا وغادرنا بيتنا في ضاحية بيروت الجنوبية ………

مقابلة افتراضية مع الدكتورة ميادة أنور الصعيدي (كاتبة وناقدة من غزة، فلسطين)

كيف عاش الكاتب الغزيّ يوميّاته في الحرب؟ وكيف أثّر ذلك على طريقة كتاباته وتعبيراته؟

الكاتب الغزّيّ ليست كأي إنسانٍ عاديّ؛ هو خليط من مشاعر مرهفة، وإنسانيّة عاليّة وفكرٍ وطنيّ؛ يحاول بهذا الخليط أن يسطّر حروفه على صفحاتٍ مخضّبة من دماء الشهداء، وتضحيّات أبناء هذه المدينة العظيمة.

ثمَة مشاعر من فرط جنونها لا تتّسع لها الصفحات، وثمّة حكايا تَروي قصص الطالعين من الوجع، إنّه النزوح والدمار والقتل والإجرام.. رحلة المخاض الطويل مع الألم، والحرمان الذي يمتص ملامحنا، والجروح التي لم تندمل، والأجساد التي أعطبتهم الحرب، والأرواح التي تئن تغالب نشيجًا بقى ينوء بدواخلنا، والأيتام الذين يقاومون بأطراف قلوبهم الغضّة.

تعدّ الكتابة عن محنة الوطن تجربة مميّزة سواء من حيث الأفكار والموضوعات أو من حيث الشكل واللغة التي تعبر عن واقع المدينة، إنّها تجربةٌ حافلةٌ بالذكريات ومرتبطة بالأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، وتنقل تفاصيل الحياة بمراراتها من حرمان وفقر وفقد وعنف.

كيف أثّر القصف والدمار ومن ثمّ النزوح على قدرتكِ ككاتبة في الحرب؟ 

 إن وضع النزوح الراهن قد أجّج في عقولنا صورًا لكلّ محطّة من محطّات تاريخ فلسطين ولكرامتها المرسلة ولبطولاتها المتوارثة والصور والتضحية والصمود والكبرياء التي تقفز قبالة واقع تواطأ فيه الجميع على الصمت، واقع استبد به الظلام والظّلّام والجلّاد بالأمّة.

لتكن غزّة بصمودها وتضحيّاتها شمسًا قبالة عتمة الضمائر ولجم الأفواه وتدجين العقول وقبالة مخالب العدو وترسانته.

إن ذاكرة الكاتب وعاطفته هي سبب محنته وتأزّمه، إذ لا يمكن أن يكون إنسانًا عاديًا يعبّر عمّا يراه ويفكّر به تعبيرًا يخلو من العمق والتّأثير.  إنّ الكاتب الحقيقي هو صاحب الدور الرياديّ الذي يجعل منه مدافعًا عن قضية الإنسان يشعر بمحنة الغير وبوطأتها ويجد متنفسه الوحيد في الكتابة التي تجسّد رغبته في حريّة التعبير عمّا يريد قوله.

ما الذي أثّر على لغتكِ حول مدينتكِ وما يحدث بها؟ وكيف جاءت تعبيراتكِ على إثر ذلك؟

ما عاد أمرٌ بهذا العالم يعنيني؛ سوى الكرامة أحياها وتحييني. نحن لسان أرضنا ودرعها الحصين وعينها القويّة على الأحداث، والعقول العنيدة في وجه الظلّام، والأقلام الكاشفة لمآلات الأمور والمتطلّعة لغدٍ مشرق مأمول. 

إنني ككاتبة وناقدة أحاول عبثًا أن أعبّر عن مدينتي الصامدة، أو أن أحلّل مشاعر الثكلى والأيتام، أو أن أصوّر جسارة أهلها المرابطين الطاهرين الذين يرفضون المساومة. إذ لا يمكن لأي لغة أو أي فنّيّ أدبيّ أن يصوّر ما حدث أو أن يعبّر عن آيات التضحية والصّمود والعزّ والصبر العظيم؛ ذلك لأن غزّة هي اللغة الأصيلة وكلّ لفظة خارج أبجديتها لا حاجة لنا بها. سنظل طيلة عمرنا نغني عنها وفيها أغنية الخلود فهي الفردوس المفقود الذي سننشده ونعلّمه لأبنائنا ونتمسّك به… فنحن – المعذّبين – أبناء هذه البلاد الثكلى الذين نقتات من دمنا ونعتصر الجذور. يقول الشاعر الغزّيّ معين بسيسو:

هذي هي الحسناء غزّة في مآتمها تدور

ما بين جوعي في الخيام وبين عطشى في القبور

ومعذّبٌ يقتات من دمه ويعتصرُ الجذور

صورٌ من الإذلال فاغضب أيّها الشّعب الأسير

فسياطهم كَتبت مصائرنا على تلك الظهور

لذلك سنظل كالصّبّار شوكًا في كلّ الفصول نبحثُ عن وطنٍ حرٍّ عزيزٍ أبيٍّ. 

ماذا تعني غزّة بالنسبة لأدباء فلسطين؟

يقول الأديب الفلسطينيّ. وائل محيي الدين: غزّة أنشودة البحرِ هديّة السماء قصائد الثّائرين والعاشقين، غزّة البطولة المتواترة والكرامات المرسلة يتعب القهر في جنباتها ولا تتعب. ويمتصّ الحرمان كلّ ملامحها ولا تعطي الدنيّة لعتلٍ زنيم.

لذلك فإنّ غزّة مع كلّ محطات تاريخها المبارك كانت عنوانًا صادقًا للطّهر والعزّة والكبرياء.

كلّ وقتٍ كنّا نُشرّع وجوهنا للسماء فلا نملّ المناجاة والابتهال، وفي السَحَر نأوي إليه وحده فيتجلّى الطهر والنقاء، وننفّض ما علق بأرواحنا من سوادٍ وأوجاع. ولعلّك حينما تسأل أيّ غزّيّ عن حاله وحال البلاد تراه يردّد الحمد ويرتل آيات الصبر على الابتلاء؛ ذلك لأنّ مدينته هي  غزّة الأم المكابرة الثكلى التي تقبض على جرحها الدامي بصلابةٍ لا مثيل لها وصبرٍ قلّ نظيره..

لهذا كلّه فإنّ غزّة استندت على نفسها دائمًا وكأنها أكثر الأشياء ثباتًا بهذا الكون، بل هي التي تمنح المنطقة برمّتها عزّة ونخوة..

يقول جلال الدين الرومي: 

“ماضرّك لو أطفأ هذا العالم أضواءه كلّها في وجهك، ما دام النّور في فلبك متوهّجًا”.

هل يمكن أن تصفي شعور أو موقف أثّر عليكِ شخصيّا؟ وكيف يتعامل الكاتب الغزيّ مع المواقف الصعبة؟

كلّ هذه الأيام الثقيلة التي رافقتني في هذه المدينة المظلومة كادت تطبق على روحي كما تطبق الصخور على رأس حالم بالحياة.. أذكر حينما وردني خبر استشهاد أخي الأعزّ على قلبي لم أبك البتّة لكنّي شعرت بالبرد يقصّ أطرافي، ويكسر ظهري. فارتجفت أوصالي وجعًا وحسرةً. حينها تركتُ البيت وخرجتُ هائمةً على وجهي أتخبّط بالنّازحين هنا وهناك؛ أبحث عن إجابات لتساؤلات أضمرتها لحين الوصول. 

حينها راح انتباهي ناحية ثلاثة أطفال بدا لي أنّهم إخوة، فالشَّعر منكوشٌ مائلٌ للإصفرار من أثر حرارة الشمس في خيام النازحين، وملابسهم ممزّقة وأقدامهم حافية وأصابعهم مدملة.. أجسادٌ بريئة نهشها عيش النزوح. لقد رأيتهم يتنازعون على رغيف خبزٍ وراح كل منهم يقضمه ويقطعه من طرف.. حينها جثوت على ركبتي بالشّارع بكيت.. بكيت بكاء مرًّا. 

أحيانًا يظن من حولك أنّ اضطّرابك فرحًا ولو تأمّلوه لأدركوا فيك نبضًا كلّه وجع.. رأيت أمًّا مكلومة تتفرّس بوجه طفلٍ نائم في أحد أسرّة المشفى تحضنه وتتأمله وتلوذ بصمتٍ وراءه صخب واضح ثم تضحك ضحكات متتالية. فهمت بعد السؤال أنّها أمٌ فقدت طفلها الوحيد الذي منحها الله إيّاه بعد عشرين سنةٍ من زواجها، وهي تأتي كل يومٍ لهذا الطفل بالذّات لأنه يشبه طفلها شكًلا وعمرًا.

كيف تصفين العلاقة بين الألم الشخصيّ والإبداع؟ 

في داخل كلّ كاتب تجد طفلًا يضحك ويئن ويبكي. يريد أحيانًا أن يدسّ رأسه في صدر أمّه ويسترسل بالبكاء، ويطلق زفرات الفقد وشهقات الأسى.

الإبداع منارةٌ ذات سلم طويل لا يتسلّقه سوى من توجّع عن حقّ وتألم كالآخرين وعاش معاناتهم؛ فالآلام ضباع لا يطردها غير جسارة الضوء وضوء الجسارة؛ ففي وسط العتمات نتحسس النجوم.

ماذا تعني الكتابة للكاتب الغزيّ؟ وماهي الفكرة الرئيسة التي ينطلق منها الكاتب في خضم حرب طاحنة وشهور قاسية؟

إنّنا  ننتمي إلى شعبٍ مارد؛ فلا نبكِ بتلك السهولة التي يبكي بها أيّ إنسان يرى في البكاء وسيلةً للتخلص من ثقل الأسى والخذلان، إنّنا نحاول الغوص بمخيلاتنا كي نعثر على تفسيرٍ واحدٍ لهذه الشهور القاسية حدّ الهستيريا.. 

ذكريات ونزوح وحرب وحب وأنين وشوق وضجر ورضا كلها مشاعر متباينة قد توقد بصدورنا رغبةً تشبه البكاء المختلط بالغناء.

إنّنا ككتّاب نتّخذ الكتابة كمظلّة أمانٍ تحمينا من أمطار اليأس والاستسلام؛ إذ نغالب نشيجًا ينوء بدواخلنا منذ اندلاع الحرب واشعال فتيلها.. فالفكر والقلم سلاحان؛ وما اغتيال ريشة ناجي العلي وتصفية غسان كنفاني إلّا دليلًا على أن وقع القلم والريشة أوجع وأحدّ وأقسى من وقع السّلاح.

ومن خلال  الأعمال الأدبيّة التي أتابعها وقرأتها وحلّلت بعضًا منها خلال هذه الفترة العصيبة  لفت انتباهي أنّ الوضع الراهن قد أجّج بداخل عقولنا صورًا كانت نائمةً في الغياب وفي حضن الأمنيات؛ إذ يمكنك قراءة هذه الأعمال والخروج بأفكارٍ عامّة ممكن إدراجها تحت عنوانات نقديّة مثمرة مثل: 

رحلة المخاض الطويل مع الألم

رفض لسلطة الحضور

تنقية للذاكرة وأنسنة التاريخ

رواية الطالعين من الوجع

شخصيّاتٌ مثقّلةٌ بالخيبات

الأماكن بريئة الغربة بأنفسنا

التواطؤ على الصّمت والخذلان 

احتفاءً بالأسى في ظلّ التّسلّط

اشتغالٌ مكثّفٌ للّغة واحتفاءٌ بقلق السّؤال

حضور التّسلّط وغياب العدل

وخز الواقع ولذّة الحلم

تجلّيات الغربة والحنين

المنتصر المهزوم أمسيا في إنسانٍ واحد وهو الغزيّ.

ما هو دوركِ كناقدة وأنتِ تتابعين المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ خاصّة والعربي عامّة؟ وما هي الرسالة التي توجهينها للأدباء؟ 

إنّنا أمام واقع يضرب القلب..  فالتّحدّي يشتدّ في وجه أولئك الذين يحاولون تصوير عالمنا الذي نعيشه، ويحاولون تفسير وقائعه، أولئك الذين يشعرون بأنّ لديهم ما يقولونه لنا، ويودّون لو يدخلون شيئًا من النّور إلى حياتنا.. 

الأدباء والأديبات.. الفنّانون والفنّانات..

ثقوا تمامًا أنّكم لم تواجهوا تحدّيًا كالذي تواجهونه اليوم؛ إنّه تحدّي مرهونٌ بإحساسكم بمنظور الحياة وبالانسانيّة.. ومرتبطٌ بقلقٍ خفيّ على صنعتكم والهدف الذي بُنيت عليه..

ففي اعتقادي أنّ هذه الفترة بالذات ضروريّةٌ لديمومة تدفّق الحيويّة في الفنون كلّها وفي الأدب العربيّ على وجه الخصوص؛ فتتّسع الأساليب وتتجدّد النظرات؛ ففي الانحلال فتنةٌ للرائي.

هذه الفوضى العارمة التي نحياها اليوم هي وقود المستقبل القريب لكم، وهي التي ستشغل وعيكم ولا وعيكم، وهي التي ستخلق الجوّ الذي يتوجّب فيه أن تفكّروا وتتخيّلوا وتبدعوا بأدواتكم إبداعًا أكثر تطوّرًا، وأشدّ فاعليّةً، وأغنى إحساسًا وديناميّة؛ بحيث يستثير المشاركة والتحليل.

كونوا على يقين أنّ إثراء التجارب قد يتمّ في حضارةٍ منهارةٍ أو عالمٍ يحتضر؛ فقد تكون ألوان الخريف أشد لألاء من ألوان الربيع.

ما تأثير الحرب على الهوية الثقافيّة الفلسطينيّة؟

أيّ مأساة من المفترض أن تعزّز الانتماء، وفي نظري أن الوضع الراهن قد عزّز هويتنا بشكلٍ أو بآخر. وخير دليلٍ على ذلك التّحرّكات الثقافية لوزارة الثقافة في بلادنا والبلاد الأخرى في تعزيز صمود الأدباء ودعمهم وطباعة يوميّاتهم وقصصهم في الحرب. بالإضافة إلى دور اتّحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين في غزّة والضّفّة والتّعاون المشترك مع الوزارات العربية والاتّحادات الداعمة للثقافة. 

ويمكن الاستدلال على عمق هديتنا ومحاولات الاحتلال العبثية لطمسها هو ما نراه من تحرّكات عالميّة داعمة للقضيّة والحديث هنا ليس على مستوى أفراد ذي مراكز عالية فحسب بل على مؤسسات لها مقام موزون.

ما رسالتك التي تسعين لتوصيلها من خلال كتابتك؟

مضت علينا أعوامٌ مترعةٌ بالتناقضات، والناجح مَنْ يستطيع الصمود ومواجهة كلّ تلك الأزمات الملفّحةِ بالسواد، وأن يمضي قُدمًا بما لديه من أملٍ نحو وميض السماء، وهو على يقينٍ من قدرة الله في تحويل خريف العمر إلى ربيع مزهر. 

تأملات

في الطُرقِ الخاليّةِ، ثَمّةَ رياحٌ عاتيّة، تُشيح بوجهها عن كلِّ ما هو في مأمن، لترمي أشياءَ قُدِّر لها بالفعل أن ترحل. عندئذٍ تتساقطُ أوراقُ الشجر، ويعزِفُ القمرُ سيمفونيةَ أحزانِه لتؤازِرَهُ النجومُ عن كثب. أمّا الأديبُ فهو غارقٌ في تأملاتِه ومضمراتِ وجدانِه، لا يَدري كيف يُدوّنها، وكيفَ يجدُ صُدفةً تُخرجها إلى حيثُ الكون. أَيجوب الأزقّةَ بحثًا عن الكلِمات، أم يستمعُ إلى معزوفاتِ القمر لعلّها تُثير شجونه، فيتسنى لِمَا في جُعبتِه البُزوغ؟ أَيكتب عن أحلامِه الصامدةِ على الجدران، أم عن ذِكرياتٍ تحتَضنُ مشاعِرَه؟ ليست مُحاكاةُ القلمِ بالأمرِ الهيّن؛ يأبى في لحظاتٍ كثيرةٍ الصمت. فلا يردعُه شيءٌ عن البوح، حتى وإن كانَ ذلك الشيءَ كَسْرَهُ.

يُقاطعه صوتُ الواقعِ أحيانًا، لكنّه يتعمّد تجاهُلَه وإكمالَ المسير. فالقلمُ عنيدٌ جدًا، آنِفٌ، شُجاعٌ، وهِنٌ تارةً. لا يَقبلُ المُنتصف: إمّا الوجودُ أو العدم. إمّا أن يُثرثر دون أن يغيبَ عقلُه عنه، أو يصمُتَ دونَ أن ينبِس ببنتِ شفة. يَخشى الأديبُ مُسامرةَ ورقته فلا يخرُس القلم، ويَخشى هِجرانَها فيغضبُ ويثورُ ويحزنُ وينصرفُ عنها. يَخشى أن يَعبَثَ في الأوراقِ ويُلطّخها، ويَخشى ازدحامَ المشاهِد وإتلافَها. يتمنّى مَحوَ حروفٍ عالقةٍ في طيّاته، والسّماحَ لأخرى بالإنجلاءِ.

يَتوقُ إلى رسمِ شعورِه بدِقّة، بفرشاةٍ سِحريةٍ لا يلبَثُ مفعولُها أن يتبدّدَ وينمحي أثرُه كأنّه لم يَكُن. أو أن يَكتُبَه بريشةٍ ينجلي مدادُها فورًا، فيُجسّد ممرّاتِه ومُفترقاتِه دونَ وجَل، ويروي حكاياتِه المبتورةَ بكلِّ لُطفٍ ورِقّةٍ غيرِ واجف، وينسجُ خيوطَ كلماتِه كلّما ساورته فكرة، كلّما أبهره مشهد، كلّما راقَه موقف. ثم بينَ غمضَةِ حرفٍ وانتباهتِه، يَرنو نحو اللاشيءَ وبِجواره كلُّ شيء.

في محطّة الأخير من كانون الأول

الأيام هي الأيام، الشروق والغروب، البزوغ والأفول. لا تعترف النهارات بالأرقام. الأيام تمضي، والشمس تشرق وتغرب كل يوم. المعركة بدواخلنا نحن، فالشتاء وحده كما كل مرة من ينهي السنة. الخريف يمكث في قلوبنا فقط، وكذوب هو العقل حينما تمحى آخر كل سنة من ذاكرتنا الأفراح والنعم. ليست النعم مرادفًا للأفراح، لكنها أكثر منها في حياة الفرد. تتبخر ذاكرة الضحك وتتجلى كل الأحزان، لكي توسم السنة بالحزن وحده. وكذوب هو القلب حينما يوهمك بنشوة غرور كاذبة أن السنة كانت سنة إنجازات فقط، حينما يطمس إحساس الاتزان الذي ينبع من تجربة الإخفاق والإحباط والنجاح والإنجاز، أو كذبهما معًا، حيث يخيطان الوهم فيختلط علينا مكان العقدة الأولى.

الأيام هي الأيام، دول كما قيل. لا تمنحنا سلامًا دائمًا، لا ريب ولا يقين. حتى أهل غزة، وهم من يحق لهم بتسمية عامهم هذا “عام الحزن”، حينما تسأل بعضهم سيذكر لك حتمًا أيامًا تجدد فيها الأمل، وانقشع فيها الظلام. سيذكر لك ضحكة يتيمة سقطت من طفل صغير فتلقفها وضحك، سيذكر لك السمر في ليالٍ لا يعرف فيها على من الدور في التحاف البطانية، لكنه كان سعيدًا باحتساء القهوة ودفء النار. سيحدثك عن الألفة والأعراس، وعن أعياد الميلاد، وحمام سبوع وليد جديد. الأيام هي الأيام حتى في الحرب. ولا عجب أيضًا في من يحن إلى أيام الكوفيد، سنة الخوف والقلق والترقب بامتياز. لكن الأيام بسلطتها فرضت ذكرى تستحق أن توهب مشاعر الحنين، ولو أن يتمثل في افتقاد اجتماع العائلة والالتفاف حول الشاشة في انتظار نبرة رجل الجائحة محمد اليوبي مساء، الحنين لشمس أمل دافئة حينما كان يلامس القلوب عند سماع عدد المتعافين، الأمل الكبير الذي صغر، ونحن ننتظر جميعًا خبر العثور على اللقاح. حتى غابت شمسه ونسينا عد الأيام، إلى أن عاود الرجوع مشرقًا، في أيام لم نكن نعدها، فتخلصنا أخيرًا من لعنة الأقنعة الطبية، هو عناد الأيام، وكذلك الأمر بالنسبة لتذكر السنوات التي نطلق عليها لقب السنوات الذهبية، الأعوام الهادئة. سوف تطفو صورة الجمال والهدوء في ذاكرتك وأنت تسترجع شريط حياتك، لكن لا بد لذكرى أليمة أن تقفز وتلوح لك. ستتربص بك الذاكرة وتفسد روعة التخيل بموقف محرج مثلاً حدث معك، لأنها الأيام. أعرف أن الحساب الذي يعتمده الناس، وهو أمر طبيعي جدًا في الحكم على السنة، يكون بمقدار الأيام الجيدة أو السيئة. لهذا تجد من يخرج بتصريح جريء: “كانت سنة سعيدة”، وآخر ينكر ذلك بقوله: “كانت سنة حزينة”. هي المشاعر حينما تتأرجح بين الهناءة والأسى، حينما تسبح في الكون بخفة فتجعله فسيحًا، أو حينما ترمي ثقلها في حلق الأيام فتضيق عليك ما كان رحبًا.

لكن، أوَ نسقط ذنب فعل المشاعر بنا على الأيام؟ أم هل نسقط فعل أنفسنا نحن على المشاعر، ثم الأيام ثم السنوات؟ فالسنة رداء، الغطاء الذي يستر جحودنا ونكراننا للنعم. فما من أيام مرت وكان ملؤها الابتئاس والشجن تباعًا، إلا وانبثقت منها النعم باسقة، لا تقدر حتى أعتى الأحزان أن تخفيها. وحسبك منها المقدرة على القول: “كانت سنة مريرة أو قاسية”. إننا دائمًا نقدر على الخروج من السنوات والأيام، ونحن نحمل دمعة، أو بسمة، أو أملًا ما، محملين بأشياء دون أشياء. لكن ما من أحد يخرج من أي سنة ورصيده من النعم الصفر.

خطيب الجامعات

إن الخطابة تُعد من الفنون القديمه التى برزت في شتى العصور ومن أشهر الخطباء قس بن ساعده الإيادي الذي يُعد من أفصح الناس في عصره فقد اشتهرت خطبته مع عشيرته اياد كما كانت الكلمات البسيطة والتى تحوي الفائدة.

يا معشر اياد ..يا معشر اياد أين الآباء وأين الأجداد؟
وأين الفراعنة الشداد؟

وقد باتت تندثر هذه الخطب في عصرورنا الحالية والتى عملت الجامعات على إعادتها إلى عصرنا الحالي من خلال شهر المسابقات.
ومن أمثلتها مسابقة خطيب الجامعات التى أقامتها جامعة قطر بالتعاون مع وزارة الثقافة والرياضة.
والتى شارك بها نحو ٧٠ طالب من مختلف الجامعات.

جاءت المشاركات من شتى الجامعات بقطر. وتعد هذه المسابقة في نستختها الأولى.

فاز بالأربع مراكز الأولى طلبة من جامعه قطر.
احتل كل من رحمة المركز الاول والمهدي المركز الثاني ومحمد أحمد المركز الثالث وباسقات الحاج المركز الرابع.

ومن هنا مرة أن الجامعة تود إحياء هذه المواهب في الطلبة.

والإقبال الشديد يدل على مدى حب الطلبة لهذه الأنواع من الخطب.
وقد جاءت هذه الخطبة تحت مسمى سحبان من وائل وهو الذي يضرب به المثل في الفصاحه فيقال (أفصح من حسان بن وائل)

فتعد هذه المسابقة من المسابقات الهادفة التى تعمل على أحياء التراث العربي وتنمية المواهب وأبرازها.