مقامة النجاح

حدثنا سنان بن رشيد: جاءني رجل مهموم، قد أنهكته الغموم، فهو من الحزن مكظوم، فقال: أيها الناس، حل بنا البأس، وذهب منا السرور والإيناس، وتفرد بنا الشيطان، فأسقانا حميم الأحزان، فهل منكم رجل رشيد، رأيه سديد، يصرف عنا هذا العذاب الشديد؟

فقام شيخ منا، ينوب عنا، وهو أكبرنا سنا، فقال: أيها الرجل الغريب، شأنك عجيب، تشكو الهم والوصب، والغم والنصب، وأراك لم يبق منك إلا العصب، أما تدعو الرحمن؟ أما تقرأ القرآن؟ فإنه يُذْهِبُ الأحزان، ويطرد الوحشة عن الإنسان، ثم اعلم وافهم لتسعد وتسلم، إن من أعظم الأمور، في جلب السرور، الرضا بالمقدور، واجتناب المحذور، فلا تأسف على ما فات، فقد مات، ولو أنه كنوز من الذهب والجنيهات، واترك المستقبل حتى يقبل، ولا تحمل همه وتنقل، ولا تهتم بكلام الحساد، فلا يحسد إلا من ساد، وحظي بالإسعاد، وعليك بالأذكار، فيها تحفظ الأعمار، وتدفع الأشرار، وهي أنس الأبرار، وبهجة الأخيار، وعليك بالقناعة، فإنها أربح بضاعة، واملأ قلبك بالصدق، واشغل نفسك بالحق، وإلا شغلتك بالباطل، وأصبحت كالعاطل، وفكر في نعم الله عليك، وكيف ساقها إليك، من صحة في بدن، وأمن في وطن، وراحة في سكن، ومواهب وفطن، مع ما صرف من المحن، وسلم من الفتن، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك، هل تريد كنوز الدنيا في عينيك؟ أو أموال قارون في يديك؟ أو قصور الزهراء في رجليك؟ أو حدائق دمشق في أذنيك؟ وهل تشتري ملك كسرى بأنفك ولسانك وفيك مع نعمة الإسلام؟ ومعرفتك للحلال والحرام؟ وطاعتك للملك العلام؟ ثم أعطاك مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ومهد لك تمهيداً، وقد كنت وحيداً فريداً. واذكر نعمة الغذاء والماء والهواء، والدواء والكساء، والضياء والهناء مع صرف البلاء ودفع الشقاء، ثم افرح بما جرى عليك من أقدار، فأنت لا تعرف ما فيها من الأسرار، فقابل النعمة بالشكر، وقابل البلية بالصبر، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، واغفر لكل من قصر في حقك وأساء، واغسل قلبك سبعاً من الأضغان، وعفّره الثامنة بالغفران، وانهمك في العمل، فإنه يطرد الملل، واحمد ربك على العافية، والعيشة الكافية، والساعة الصافية، فكم في الأرض من وحيد وشريد، وطريد وفقيد، وكم في الأرض من رجل غلب، ومال سلب، وملكه نهب، وكم من مسجون، ومغبون ومديون، ومفتون ومجنون، وكم من سقيم، وعقيم ويتيم، ومن يلازمه الغريم، والمرض الأليم .

واعلم أن الحياة غرفة بمفتاح، تصفقها الرياح، لا صخب فيها ولا صياح. واعلم أن الدنيا خداعة، لا تساوي هم ساعة، فاجعلها طاعة.

صورٌ ومشاهد من غزة بعد إعلان انتهاء العدوان: نزع سلاح المجموعات المسلحة وتفكيك بنيتها العسكرية

يشعر المواطنون الفلسطينيون في قطاع غزة بقلقٍ جديدٍ من المليشيات “الفلسطينية” المسلحة التي شكلتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وزودتها بالأسلحة والمعدات والآليات وأدوات القتال المختلفة، ووفرت لها المال والمؤن والمساعدات، وأمنت مناطقها وجهزتها بوسائل اتصالٍ حديثةٍ وآمنةٍ، وشكلت حمايةً لها ولعناصرها ومقراتها، وسهلت حركتها وانتقالها وسياراتها وعرباتها، ونظمت لها دورات عسكرية وأخرى أمنية، وأجرت معها مناوراتٍ مختلفة، وأنشأت لها غرف عملياتٍ ومراكز تنسيقٍ واتصالٍ مع الضباط المكلفين بمتابعتها والمسؤولين عن عملها وتوجيهها، وسهلت انتقال بعض مسؤوليها وسفرهم، إذ شوهد بعض قادتها خارج فلسطين المحتلة، إلى جانب سياراتٍ تحمل لوحاتٍ “أجنبية”.

ومكنت بعضهم من نشر مقالاتٍ وعرض تصوراتهم عن مستقبل قطاع غزة، في كبريات الصحف والمجلات الدولية، والظهور على وسائل الإعلام والحديث عن أدوارهم وعرض مهامهم بكل خسةٍ ونذالةٍ، وضِعةٍ ووقاحة، في مواجهة عناصر حركة حماس والقوى الفلسطينية الأخرى المقاتلة، والاعتراف بالمهام التي نفذوها، والجرائم التي ارتكبوها، والأهداف التي يتطلعون إليها ويعملون على تنفيذها، ولا يتورعون عن الظهور إلى جانب العربات العسكرية والدبابات الإسرائيلية.

لا يشعر قادة هذه المجموعات التي تشبه مليشيا العميل اللبناني أنطوان لحد، قائد جيش لبنان الجنوبي الذي أنشأه العميل سعد حداد، بأنهم خونة وعملاء، وأنهم يعملون جواسيس ضد شعبهم، وأدواتٍ قذرة لدى عدوهم، الذي لا تعنيه حياتهم، ولا يهتم لمصيرهم، ولا يقلق على مستقبلهم إذا تم الاتفاق وثبت وقف إطلاق النار، ومضت خطة السلام المطروحة، فهو أول من سيتخلى عنهم ويتركهم لمصيرهم المحتوم، بل قد يقوم بقتلهم وتصفيتهم والتخلص منهم، لأنهم سيكونون عبئاً عليه دون جدوى، وسيكلفونه الكثير دون طائل لهم أو حاجة ترتجى منهم، بعد أن فضحت أدوارهم، وكشفت شخصياتهم، وعرفت أسماؤهم وعائلاتهم ومناطق إقامتهم وعملهم.

لا يدعم الاحتلال الإسرائيلي هذه المليشيات القذرة وحدة، بل تدعمها جهاتٌ أخرى تتعاون معه، وتتفق وإياه على الهدف والغاية من تشكيلها، وتحاول هذه الجهات المشبوهة الدفاع عنها وتحسين صورتها، وتلميع قادتها، وتلطيف مهامها، وتستخدم لغايتها الخبيثة أقلاماً مأجورةً وأبواقاً أجيرة، ومنصاتٍ قذرة، ولعلها جهاتٌ معروفة لدى الشارع الفلسطيني، إذ سبق لها القيام بمهام تشبهها، ورعت جهاتٍ تعمل عملها، فخربت وأفسدت وقتلت ودمرت، وأظن أنها تراهن على هذه المجموعات، وتتأمل في أن يكون لها دورٌ في مستقبل قطاع غزة، يمكنها من بسط نفوذها، ونشر مفاهيمها، وتحقيق أهدافها، ولو أنها كانت ضد مصالح الشعب وتتعارض مع آماله وتطلعاته.

باتت هذه المجموعات المأجورة المدسوسة، العميلة الخائنة القذرة، تعمل في جنوب قطاع غزة وشماله، وتنتشر في المناطق الذي يتواجد فيها جيش الاحتلال خلف الخط الأصفر، وتستفيد من الحماية التي فرضها على المنطقة، لكنها تخشى مغادرتها والخروج منها، ولا تأمن على حياتها وأمنها خارجها، إذ تتربص بها المقاومة ويلاحقها رجالها، ويدل المواطنون عليهم ويبلغون المقاومة عنهم، في الوقت الذي تلاحقهم عائلاتهم وعشائرهم، التي أعلنت البراءة منهم والتخلي عنهم، وهي تتوعدهم بالقتل والتصفية، وقد أباحت سفك دمائهم والقضاء عليهم، إذ قاموا بعملٍ عارٍ أضر بسمعة عائلاتهم ولطخ شرف عشائرهم، وشوه الصفحات الناصعة لبعضهم، ممن كان لهم فضلٌ وسابقة، ودور رائد في المقاومة.

أمام خطر هذه المجموعات وقذارة أدوارها، وقطعاً للطريق على مستقبل عملهم وتشريع وجودهم، فإنه ينبغي على المفاوضين الفلسطينيين في الدوحة والقاهرة، أن يفرضوا على الطاولة وجوب تفكيكها وتجريدها من سلاحها، وإخراجها عن القانون واعتبارها مجموعاتٍ مارقة ومليشياتٍ خائنةً، وعدم الرأفة بها والتهاون في أمرها، فوجودها خطر يضر بمصالح الشعب الفلسطيني، إذ ستبقى أدوات للاحتلال، تنفذ سياسته، وتؤدي المهام القذرة نيابةً عنه، وتواصل قتل واستهداف قادة ورموز المقاومة الفلسطينية.

يجب أن يكون ملف هذه المليشيات ملفاً أساسياً على طاولة المفاوضات، فهم جزء من الاحتلال وتبع له، فإما أن يتخلوا عنهم وتفكك المجموعات ويسلم قادتها وعناصرها أنفسهم للعدالة الثورية الفلسطينية التي تنظر في أمرهم، وتحكم في جرائمهم، وتنفذ في حقهم الأحكام التي يستحقون، وإما أن يسحبها جيش الاحتلال مع فلول قواته، ويجرها مع عرباته، ويفرد لها حظائر تليق بها بعيداً عن المواطنين الفلسطينيين ومناطقهم، وحذارٌ على المقاومة أن تتهاون معهم، أو تستخف بهم وتغض الطرف عنهم، فهؤلاء سرطانٌ لا علاج له ولا شفاء منه إلا بالاستئصال، ولا نجاة منه إلا بالقضاء عليه، وإلا انتشر واستفحل، وسيطر وتمكن، وفتك وقتل.

ظلال على جدار الروح

يلف الصمت أبعادي ظلاما
ويزرع في مسافاتي سهاما

وتحملني هبوب الريح ذكرى
وتسكب في مآقيّ الهلاما

تواجهني المرايا بانكساري
فأفتقد الأماكن والمقاما

وأطرق صامتا، والصمت جرح
كسابق عهده كان الختاما

أأهرب من يديّ لكي أراها
تشيّد حول خطواتي الخياما؟

وأرجع للبدايات اضطرارا
كمن فرضوا على الرفض التزاما

أنا الوجع الذي يمتد سرّا
كجذر يشتهي الموت الزؤاما

أنا الطفل الذي ضلّت خطاه
فألفى العمر منفًى واصطداما

يصادق ظلّه في كل درب
ويحسب صمته العالي اهتماما

أنا الصوت الذي قد جف لحنا
كصخر بات ينشق انقساما

تكسّر في حناجر مغلَقاتٍ
فما أفضى إلى الدنيا كلاما

أنا النهر الذي تاهت خطاه
فأهدى للصحارى الاغتراما

أخبئ في التجاعيد انهزامي
كمن قد دسّ في ثلج ضراما

وأكتب فوق جدران التجلي
حروفا لا ترى فيها انسجاما

فإن ضحكت شِفاهي دون قصد
يسحّ الدمع شلّالا مداما

فتبصرني العيون ولا تراني
سوى طيف يزيد بها القتاما

أنا المنفي سرت إلى بلادٍ
أقاسم شعبها خبزا حراما

شوارعها تراقبني اشتباها
وترمقني بعينيها اتهاما

أنا الجرح المقيّد في كياني
حصان قد أعدّوا له لجاما

إذا حرّكت أطرافي قليلا
أحسّ القيد يزداد اضطراما

أنا الشوق الذي أضحى رمادا
وكل ملامحي أضحت رُكاما

أرى في اليقظة الأحلام وهما
وكل مطامحي أمسَت مناما

وأهرب من منامي نحو صحوٍ
فألقى الصحو أغلالا عظاما

أسافر في الخراب كأن ظلي
تجسد من رماد لا عظاما

وأسأل كل بابٍ عن مفازٍ
فيغلق دون تنهيدي اعتصاما

أنا الناي الذي قد شاخ يوما
فأخفى عن كواهله السقاما

تهاوى في ثقوب الصمت لحنا
وصار أنينه العالي اتهاما

أنا المفتاح ضاع بغير بابٍ
أنا المهد الذي أمسى حطاما

أنا المشنوق من حبل التمني
يرى في كل تنهيدٍ حماما

أنا العطر المسافر في رياحٍ
يفتش عن دوارقه هياما

فلا قلب يضم شذاه يوما
ولا أفق يحدده ختاما

أنا العطشان في صحراء روحي
أقايض ماء أيامي سلاما

وما نلت السلام أو ارتواءً
فزدت به على ظمئي أواما

أنا الصوت الغريب بأرض تيهٍ
ينادي: من لهذا النبض رامَا؟

فلا يأتيه غير صدى شحوبٍ
على أشلاء ذات الصوت حاما

سكنت الصمت حتى صار بيتي
فأورثني على صمتي وساما

أنا الجرح العميق بلا ضمادٍ
تعايش لم يعد يرجو التئاما

أنا المطر الخجول أتى لأرضٍ
يواسي الجرح شحّا مستداما

يبلل وجهها الدامي ويمضي
فيوقظ من بهذا الكون ناما

عسى يأتي الربيع بعيد لأيٍّ
فتزهر كل أزهار الخزامى

يوم لا ينسى

يا له من صباح يوم جمعة وادع، يتهادى فيه النور عبر ستائر النافذة، حاملا معه تغريد العصافير كألحان رقيقة توقظ المدينة. استيقظت فاطمة على هذه السمفونية الطبيعية، لتجد دفء عائلتها يحيط بها: أباها خالد، وأمها ليلى، وأخاها محمد، وأختها الصغيرة جميلة.
وفي غمرة هذا الصفاء، أعلن الأب خالد لأمها ليلى بابتسامة:

“لنذهب إلى ‘ويناد’ اليوم، نُغيّر الأجواء.”
ولكن إعلان النزهة لم يبعث في قلب فاطمة سوى القلق. تضجرت بشكوى صغيرة لأمها، مشيرة إلى كومة ثيابها:

“أمي، إن لباسي قبيح وقديم… ماذا أفعل؟ وكيف سأظهر به؟”
هنا، تحوّل الأب خالد من رب أسرة إلى حكيم يغرس بذرة الوعي. اقترب من ابنته بهدوء بالغ، ونظراته تحمل عمق تجارب السنين، وقال:
“يا فاطمة… انظري حولك. كم من إنسان ليس له إلا لباس واحد يستر به عورته، وكم من قوم لا يجدون قوت يومٍ واحد، ولا يتذوقون طعاما لذيذا أو شرابا طيبا. ومع ذلك، يذكرون الله ويدعونه في كل لمحة ولحظة، ويعبدونه بخفية وتضرع لا يعرفه أحد.”
ثم رفع الأب بصرها إلى أفقٍ أوسع وأكثر ألما:
“يا فاطمة… تذكري أهل فلسطين، وهم يقفون شاهدي حق على طريق الله، يواجهون تحديات جساما ومشقات عظيمةً من أعدائهم. إنهم يجاهدون بكل ما أوتوا من قوة ليعززوا بقاءهم ومكوثهم في وطنهم . إنهم يرون أحباءهم موتى بين أيديهم، ولا يمكن لأحد أن يدرك عمق حزن الأمهات اللواتي يفقدن قطعة من أكبادهن جراء أعمال عدوهن الظالم.”
توقفت الكلمات في صدر فاطمة، فشعرت بخطأها ضئيلا جدا أمام عظمة بلاء أولئك القوم. اهتزت روحها وتفتحت بصيرتها، فاعتذرت لوالدها عن شكواها بدمعة ندم وصوت خافت.
لقد كانت تلك الواقعة درسا أثّر فيها تأثيرا عظيما، فخلّدت ذكراها في كتابها، وسمّت الفصل الذي روته فيه: “يوم لا يُنسى”.

العبرة : انظر دائما إلى من هو أسفل منك في أمور الدنيا وإلى من هو فوقك في أمور الآخرة فهو حل لكل مشكلة سواء كانت قلبية أم نفسية.

وشهد له شاهدون من أهلهم: العلماء الفرنسيون: أعظم الشهادات لشخصية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وإن مما عرفنا وتأكد لدينا بيقين، أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، بعث رحمة لكافة الثقلين: الجن والإنس، والملائكة، وما سخر لهم من الجمادات والنباتات وسائر ما خلق على وجه الأرض. وكان خلقه القرآن، كما شهدت به عائشة أم المؤمنين حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم. وكانت سيرته معطرة محمودة إلى الأبد، مؤثرة في القلوب، مغيرة للأفكار والنفوس، كما سمعنا من تاريخ ودرسنا من قصص، من خضعت نفوسهم وبدلوا دينهم أمام وجهه الشريف وخلقه الكريم، مع أنهم كانوا من زعماء المشركين وأشد الناس للمسلمين عدوى.

وأفضل شهادة عرفها الإنسان لخلقه صلى الله عليه وسلم هي شهادة الله له بالعظمة حين وصفه في كلامه: {إنك لعلى خلق عظيم}. ولكن من الأسف البالغ، كما يكون المدح والذم وجهين لعملة واحدة، متى كان المدح من ناحية كان الذم من ناحية أخرى. فلدينا من قديم الزمان، منذ بدأ دعوة التوحيد، من يفسد في ذلك الجسم الشريف وفي خلقه العظيم بإنتاج أكاذيب وتلفيقات وخرافات ليس لها أي أصل ولا أساس. وصفوفهم تمتد من أبي لهب الذي تبه في أول دعوة قام بها، إلى آخر المستشرقين الذين يستمرون في بذل جهدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته الإسلامية. وأيضا لا أنكر الكتاب والمؤلفين غير المسلمين الذين قاموا برأي عادل منصف بعد إدراك الحق والفهم العميق، حيث وصفوا الرسول بما فيه من أخلاق سنية بلا زيادة ولا نقصان. حتى منهم من قبل الحق ودخل في الإسلام داعيا ومناديا بعد انقضاء شطر أول حياتهم في شتم الرسول ووضعه في قفص الاتهام.

وفي هذه المقالة، يحاول الكاتب على تسليط الضوء على أقوال علماء الفرنسيين المستشرقين غير المسلمين المعترفين في كل أرجاء الغرب والشرق، عن حياة رسول الله وشخصيته التي أثرت في قلوبهم حتى دفعت بعضهم إلى قبول الإسلام والقيام داعيين ومنادين إلى التوحيد.

نحن في عصر قليل فيه من لا يشتكي، ومن لا يتحدث أو يشارك في مناقشة أو كلام عن محمد صلى الله عليه وسلم، مسلما كان أو كافرا. ولكن أكثر ما نسمع فيه من سلبيات ملفقة بعين الحسد والحقد، واتهامات تتهم بعين الغضب والإحن، خاصة من مستشرقي أوروبا المتعصبين على قلوبهم في هدم الإسلام ودحض رسوله صورة وسيرة. كم نسمع ونقرأ يوميا أخبارا تبشع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقلامهم وأقوالهم وأفعالهم، أكثرهم متعصبون في أقلامهم، متطرفون في دينهم، خلطوا السم بالدس والقطن بالبرسيم عند توصيفهم وتعريفهم على النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن من المبقي للآمال والرجاء، أن هناك بعض الكتاب والمؤلفين المنصفين في الكتابة والتعريف بلا أي ميل إلى يمين ولا شمال، ولا زيادة ولا نقصان، كتبوا وأدوا عملهم قائمين على الحق والصدق، ناظرين بعمق الفحص والبحث، أيا كان دينهم وأيا كان رجال الذين يبحثون عنه.

جوستاف لوبون: “محمد بعد الهجرة”

أنقهوا وتنبهوا أيها الحاسدون في خلقه وخلقه، والتفتوا إلى الحقائق وانكصوا مما قلتم فيه، ولمن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم جبارا غليظ الجبين فظا هروبا، ولمن صوره ورسمه مقاتلا دمويا، أن يسمع ويلتفت إلى ما قاله جوستاف لوبون (1841-1931)، أحد أشهر فلاسفة العصر، طبيب ومؤرخ فرنسي عمل في أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا، وكاتب مشهور في علم الآثار وعلم الأنثروبولوجيا. إنه بحث وفحص حياة محمد صلى الله عليه وسلم تحقيقا موضوعيا بلا ميل إلى يمين ولا شمال ولا تعصب، حيث كان مسيحيا. وبعد ألف كتابه المشهور “حضارة العرب”، وفيه شمل بابا عن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم مسمى “محمد بعد الهجرة”، حتى بعد نشره تلقى هذا الباب شهرة أكثر مما حصلت عليه الكتاب بأسه. وبعد تحقيقه وتفحصه لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأثر قلبه بها تأثيرا عميقا حتى أعترف بها وجهر بها في كتابه، حين قال ردا على من يصفه ويتهمه بحب القتال الدموي: “إن محمدا كان يتجلى برباطة جأش عند الشدائد وبالاعتدال عند النصر، وهذه الصفات لا تستوفى إلا في قائد عظيم بعيد عن العشوة وخلق الانتقام”.

وأيضا رد على من يصوره جبارا هاربا لا يشارك في الحرب بل يجبر أصحابه، بقوله: “كان محمد مقاتلا حذقا لا يهرب أمام المخاطر ولا يلقى بنفسه إلى التهلكة، وكان يعلم أصحابه الشجاعة والإقدام”. وأيضا مدح لوبون حكمته في وضع حجر الأسود عند اختلاف العرب وسائر القبائل حين تجديد بناء الكعبة، فقام محمد صلى الله عليه وسلم بحل سديد في تحليل قضية حجر الأسود. وقد امتدح أيضا وحدة أمة العربية حيث قال: “جمع محمد قبل وفاته كلمة العرب وخلق منهم أمة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد، وفي هذه إنجازات كبرى لم تتحقق في ديانتي اليهودية والنصرانية اللتين سبقتا الإسلام”. وقد رد لوبون ردا شديدا سديدا في كتابه على رأي تيودور نولدك في كتابه تاريخ العرب عن ظاهرة الوحي، حيث قال: “إن ظاهرة الوحي ليست بحق، بل هي خرافات لفقهها محمد ونشرها بين أصحابه”.

وما أعترف به وسجله لوبون في كتابه هو شهادة كبرى لصدق الرسول وما ادعى به وأتاه، مع أنه ليس بمسلم بل هو مسيحي أنصف وعدل في قراءته وكتابه حتى أدرك الحق واعترف به. ومن أعظم ما قاله لوبون في صفة النبي التي لا بد من تسجيلها في صفحات التاريخ بحروف الذهب ونقشها: “إذا قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم، كان محمد من أعظم من عرفه التاريخ”. وأيضا قال موصفا معاملة النبي مع قريش: “عامل محمد قريشا الذين ظلوا أعداء له عشرة سنين بلطف وحلم، وأنقذهم من ثورة أصحابه على ما مروا به من مشقة، مكتفيا بمسح سور الكعبة وتطهيرها من الأصنام التي أمر بإسقاطها على وجوهها وطهرها”.

ألفونس دي لامارتين: في تعريف النبي صلى الله عليه وسلم

لامارتين الشاعر الفرنسي العالم الشهير، أحد كبار مؤيدي الثورة الفرنسية وأحد النبلاء الفرنسيين، إنه درس عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبحث موضوعيا وكتب كتابا مسمى تاريخ التركية، وفيه شمل فصلا عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نظر إليه بعين العدل والإنصاف بلا تعصب ولا ميل، مع أنه مسيحي الدين، ولم يعامله كما يعامله أكثر كتاب المستشرقين. وأنا أضيف هنا قوله المشهور الذي قاله في رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ذا الذي يجريء من ناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد، وهو الرجل الذي أظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان”. وأيضا قال مخاطبا قومه: “أترون محمدا صاحب خداع وتدليس وصاحب الأباطيل؟ أقول لا، بعد علمنا بالتاريخ وفحصنا لسيرته، وأن الخداع والتدليس والباطل والإفك وكل تلك الصفات هي التي ألصقت بمن وصف محمدا بها”.

وأيضا قال لامارتين ردا على من يصفه صاحب إمبراطورية عاشق للظلم والعنف، بقوله: “لم يطمع محمد إلى تكوين إمبراطورية، حتى بعد ما حصل على فرص زاخرة من فتحات ونصر، بل قام بالدعوة الخالصة إلى الدين بلا إكراه كما أمر به القرآن حيث {لا إكراه في الدين}”. وأيضا سجل في كتابه أنه يتهم العلماء عليه اتهامات لأنه صاحب دين باطل وأفكار مزيقة، وأنا أيضا كنت منهم، ولكن بعد ما نظرت وبحثت في سيرته، أدركت عنه أنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات وعلى كل ما ينتهاك قيم الإنسانية. فأي شهادة أو حجة يحتاج المستشرقون لتصديق النبي وسيرته أقوى من شهادة بعض المعترفين بينهم من قومهم؟ في الحقيقة، إنما لم يعترفوا به بسبب عنادهم وكرههم له، بل جعل الله في قلوبهم مرضا وفي آذانهم وقرا.

سيديو لويس: في وصف النبي صلى الله عليه وسلم

سيديو لويس (1808-1875)، مؤرخ ومستشرق فرنسي، وهو الابن الثاني لجان جاك إيمانويل سيديو، اهتم بدراسة التراث الشرقي، وقد طار صيته على مستوى العالم بكتابه المشهور خلاصة تاريخ العرب. وقد لخص عن محمد صلى الله عليه وسلم بقوله بعد تحقيق وتفحص عنه في كتابه: “لم يأت محمد بدين خاص بالعرب كما يتهمه به بعض المستشرقين، ولكن في الحقيقة هو دين إلهي لكافة الثقلين، ليس لجزيرة العرب فقط، كما أخطأوا بسبب أنه نزل بالعرب”. هذه هي شهادة كبرى ورد هائل لمن قام بالتلفيقات ضد محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أحد المستشرقين المعترفين بينهم بالإنصاف والعدل.

ما قاله هليار بلوك: في محمد صلى الله عليه وسلم

هليار بلوك، مستشرق فرنسي وكاتب وأحد النبلاء المشهورين، حيث بحث ودرس عن العرب وحضارتهم وعن حياة الرسول، وأعلن بعد إدراك الحق أنه لم يخرج العرب للسلب والنهب وإنما خرجوا لنشر دين محمد ونشر المثل العليا. هذه الأقوال أصبحت مثيرة للجدل ومتداولة بكثرة، لأنه شهد بها وهو مسيحي معترف على مستوى العالم. وأيضا في كتابه محمد والقرآن، إن انتشار رسالة الإسلام معجزة حملت للإنسانية الخير والعطاء.

لويس شارل أنطوان دوزيه : في محمد صلى الله عليه وسلم

لويس شارل أنطوان دوزيه (1768-1800)، مستشرق فرنسي وكان جنرالا وبطلا قوميا. وما قاله دوزيه بعد تخصص وتمحيص في سيرة النبي: “قام محمد بإصلاح العباد وتهذيبهم عن الفساد وإرشادهم إلى الدين الصحيح”، أصبح رعدا وبرقا على من وصفه بالفساد وتخريب الأديان والأفكار، لأنه لا وجه لمسبين لمخالفته لسبب أنه منهم بل هو معترف بينهم.

إميل درغيم: في محمد صلى الله عليه وسلم

إميل درغيم (1858-1917)، مستشرق فرنسي وشخصية مشهورة في علم الاجتماع. حيث شهد ومدح حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “كان محمد حليما رفيقا رقيق القلب”. من هذه الشهادة يتبين كالشمس البازغة في رابعة النهار أنه لا يمكن لأحد أن يستر الحق إلى الأبد، بل إنه سيخرج إلى النور ويخيم بكل أطيافه فوق كل الأكاذيب والأباطيل. وأيضا شهد درغيم برحمته صلى الله عليه وسلم.

جول لايوم: في محمد صلى الله عليه وسلم

وما قاله وشهد به المستشرق الفرنسي جول لايوم (1806-1876)، صاحب كتاب تفصيل آيات القرآن الكريم (كتاب ألفه باللغة الفرنسية وترجمه محمد فؤاد عبد الباقي إلى العربية): “خلص محمد الأمم من تحجرها ورفعها إلى سبيل الرقي والعمران”، كان ضربا صارما وهبة شديدة لمن زعم أن الإسلام دين القرن السادس ليس فيه تجديد ولا تحديث بل القدم والقديم فقط.

محمد الرسول صلى الله عليه وسلم صفحة مفتوحة أمام القراء، السطور فيها يقرأ ويفهم على حسب قصد القارئ ووجهته. فمن سلم قصده لوجد الحق واستسلم، ومن فسد غرضه لكتم الحق وأنكره. وما سجلت أمامكم من اقتباسات للعلماء المنصفين القائمين للحق، هي شهادات انبثقت من شغف القلوب تعكس صدق صاحبها وتخرج الحقائق المسطورة وراء مظهر الأكاذيب. كما قال الشاعر: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد، وينكر الفم طعم الماء من سقم، ضوء شخصية محمد صلى الله عليه وسلم أمام المنكرين لعظمته والحاسدين في رفعته قريب المكان لكن بعيد المنال. سيستضيء نوره فوق كل الأنوار، لأن نوره من نور الله جل وعلا.


المقامة الشعرية في الكوارث

حدثني صاحبُ الذوقِ السليم الدكتور هلال موسى، عن شيخٍ من أدباءِ الحريم، أنه دخلَ بلادَ مليبارَ يومَ اجتمعتْ فيها الكوارثُ والأنواءُ، فإذا الشعراءُ قد احتشدوا، وكلٌّ منهم بمدادِه ينوحُ، وفي المهرجانِ يمرحُ ويمدحُ ويصيحُ، فقلتُ: سبحانَ الله! أهذه أشعارُ المآسي أم أناشيدُ الأعراس؟
ثم جلستُ على صخرةٍ من صخورِ السواحل، وأمسكتُ دفتري وقلتُ:

قِفْ بالمليبارِ واستمعِ السُّحَرَا
فالشِّعرُ فيها صارَ صَفَّارةَ القِدَرَا

يكتبُ أحدُهمُ عنِ المياهِ إذا
طغَتْ، كأنَّ الماءَ يفهمُ ما يُقَرَّا

يَصِفُ الفيضانَ دونَ خيالٍ، ولا
نفسٍ، ولا روحٍ، ولا وجدٍ أُسِرَّا

قد صارَ شعرُ القومِ لا مغزًى لهُ
إلّا التصفيقَ أو دفعَ الأجورَا

يبكي على إعصارِهِمْ من دافعٍ
بدمعٍ كاذبٍ يحذو الزهورَا

ما نالَ من فنٍّ، ولا معنًى علا
لكنَّهُ نالَ المِيكروفونَ كبورَا

يقلّدُ المتنبيَ في تفاخرِهِ
ولكنَّهُ جهلٌ يرفعُ الغرورَا

قالوا: نغنّي في المهرجانِ ما
يُدهشُ الأُذنَينِ ويُطربُ النُّظورَا

قلتُ: المهرجانُ يسمعُ كلَّ من
يدفعُ النقدَ، لا مَن فاقَ شعورَا

ما فازَ في شعرٍ سوى من قالَ ما
يُرضي المديرَ، ويُسخطُ المغفورَا

يكتبُ عن عاصفاتِ البحرِ في غَلَبٍ
كأنَّهُ سيّدٌ يُهدي البخورَا

يرسمُ السيلَ وهوَ ما نظرَ السيلَ
ولا جرَّبَ الغمرَ ولا غاصَ البحورَا

يرتجلُ الأبياتَ من “واتسابِهِ”
ويقولُ: هذا الشعرُ يُنقذُ الثغورَا

والنقدُ عند القومِ تكفيرٌ، فمن
قالَ “هراءٌ” قيلَ: خانَ السطورَا

أرسلتُ نصّي في جماعةِ شُعَرَا
فقالَ بعضُهُمُ: متى نشري البخورَا؟

وآخرٌ قالَ: “زدْ لنا إعصارَنا”
فقلتُ: لا أُكثرُ العبثَ الكبيرَا

فالشعرُ عندَ الحرِّ نفسٌ ناطقٌ
وليسَ عندكمُ موسمَ التصويرَا

قد صرتُمُ الشعراءَ حينًا ما شئتمُ
فيومَ فيضٍ، ويومَ نارٍ تستنيرَا

لكنْ إذا جاءَ الهوى أو فكرُكمْ
ضاعَ القلمْ، وغابَ التصويرَا

يا شعراءَ الكوارثِ إنّني
أبغضتُ منكم صيحةَ التبجيرا

كلكمُ يُمسي نبيًّا في المطرْ
ويصيحُ: أنقذْنا يا ميزانَ الحسورَا

يكتبُ سيلًا كمن يصنعُ مسرحًا
للصبيةِ البُلهَا ويستجلبُ السرورَا

لا فكرَ فيه، ولا صورٌ، ولا نبضٌ
إلّا ضجيجٌ يسمعُ النشورَا

وجهُ القوافي عندَهم ممسوخةٌ
كوجهِ مَن يبتاعُ شعرًا بالدُّرورَا

قد حوّلوا الشعرَ الصفيَّ مسرحًا
يعرضُ فيه الكلُّ أوهامَ الزهورَا

يقولُ: قافيتي جديدةٌ! فقلْ:
والعقلُ قد قدمَ لن يعرفَ النورَا

ما في المشاعرِ مسكنٌ للوجدِ، بلْ
دارُ البيانِ خرابُها أمسى السرورَا

يكرمُهمُ نقّادُهمْ، سبحانَ مَن
جعلَ الثنا في البطنِ يُنبتُ الحُجورَا

يستلهمونَ الغيثَ في كلِّ المنى
والغيثُ منهم يستغيثُ النذورَا

يستخرجونَ الدمعَ من صحفِ النشرْ
ويقولُ أحدُهمُ: هذا السطورَا!

يا من يُغنّي في الكروبِ، تذكّرُوا
أنَّ الفنونَ أرواحٌ، لا دُرورَا

أتُريدُ مجدًا من كلامٍ باهِتٍ؟
أم تُريدُ من حزنٍ أن يبتاعَ سرورَا؟

قد قيلَ: من يُخلصْ للإلهامِ يرتفعِ
ومن يُرائي الناسَ يَهوي في الغرورَا

فاتركوا الكوارثَ للأخبارِ، لا
تجعلوا منها أُغنيةَ السطورَا

اُكتبْ بقلبٍ، لا بجَهازٍ صاخبٍ
فالقلبُ حيٌّ، والجهازُ بخورَا

من لم يذقْ لغةَ الهوى وجدًا، فلا
يَدّعي الشعرَ، ليصمتْ أو يدورَا

هذا ندائي للرجالِ الحرِّ في
مَلبارَ: قوموا، صحّحوا المسطورا

عودوا إلى معنًى يُنيرُ عقولَكمْ
لا تُطفئوا الشعرَ بسوقٍ وزهورَا

فالشعرُ دينٌ، إن تهكَّمَ غافلٌ
أو قلّدَ السفهاءَ، ضاعَ المنشورا

هذي مقامتُنا، فمن يعقِلْ فليرَ
أنَّ الهراءَ يموتُ، والصدقُ يبقى نورَا

ثم رفعتُ يدي إلى السماء وقلتُ:

اللهمَّ أحيِ في الشعراءِ أرواحَ البيان،
وألهِمْهم من الخيالِ ما يروي الوجدان،
واجعلْ أشعارَهم سُبُلاً إلى الحقِّ والجمال،
لا إلى التصفيقِ والرِّبحِ والمهرجان.