المقامة الشعرية في الكوارث

حدثني صاحبُ الذوقِ السليم الدكتور هلال موسى، عن شيخٍ من أدباءِ الحريم، أنه دخلَ بلادَ مليبارَ يومَ اجتمعتْ فيها الكوارثُ والأنواءُ، فإذا الشعراءُ قد احتشدوا، وكلٌّ منهم بمدادِه ينوحُ، وفي المهرجانِ يمرحُ ويمدحُ ويصيحُ، فقلتُ: سبحانَ الله! أهذه أشعارُ المآسي أم أناشيدُ الأعراس؟
ثم جلستُ على صخرةٍ من صخورِ السواحل، وأمسكتُ دفتري وقلتُ:

قِفْ بالمليبارِ واستمعِ السُّحَرَا
فالشِّعرُ فيها صارَ صَفَّارةَ القِدَرَا

يكتبُ أحدُهمُ عنِ المياهِ إذا
طغَتْ، كأنَّ الماءَ يفهمُ ما يُقَرَّا

يَصِفُ الفيضانَ دونَ خيالٍ، ولا
نفسٍ، ولا روحٍ، ولا وجدٍ أُسِرَّا

قد صارَ شعرُ القومِ لا مغزًى لهُ
إلّا التصفيقَ أو دفعَ الأجورَا

يبكي على إعصارِهِمْ من دافعٍ
بدمعٍ كاذبٍ يحذو الزهورَا

ما نالَ من فنٍّ، ولا معنًى علا
لكنَّهُ نالَ المِيكروفونَ كبورَا

يقلّدُ المتنبيَ في تفاخرِهِ
ولكنَّهُ جهلٌ يرفعُ الغرورَا

قالوا: نغنّي في المهرجانِ ما
يُدهشُ الأُذنَينِ ويُطربُ النُّظورَا

قلتُ: المهرجانُ يسمعُ كلَّ من
يدفعُ النقدَ، لا مَن فاقَ شعورَا

ما فازَ في شعرٍ سوى من قالَ ما
يُرضي المديرَ، ويُسخطُ المغفورَا

يكتبُ عن عاصفاتِ البحرِ في غَلَبٍ
كأنَّهُ سيّدٌ يُهدي البخورَا

يرسمُ السيلَ وهوَ ما نظرَ السيلَ
ولا جرَّبَ الغمرَ ولا غاصَ البحورَا

يرتجلُ الأبياتَ من “واتسابِهِ”
ويقولُ: هذا الشعرُ يُنقذُ الثغورَا

والنقدُ عند القومِ تكفيرٌ، فمن
قالَ “هراءٌ” قيلَ: خانَ السطورَا

أرسلتُ نصّي في جماعةِ شُعَرَا
فقالَ بعضُهُمُ: متى نشري البخورَا؟

وآخرٌ قالَ: “زدْ لنا إعصارَنا”
فقلتُ: لا أُكثرُ العبثَ الكبيرَا

فالشعرُ عندَ الحرِّ نفسٌ ناطقٌ
وليسَ عندكمُ موسمَ التصويرَا

قد صرتُمُ الشعراءَ حينًا ما شئتمُ
فيومَ فيضٍ، ويومَ نارٍ تستنيرَا

لكنْ إذا جاءَ الهوى أو فكرُكمْ
ضاعَ القلمْ، وغابَ التصويرَا

يا شعراءَ الكوارثِ إنّني
أبغضتُ منكم صيحةَ التبجيرا

كلكمُ يُمسي نبيًّا في المطرْ
ويصيحُ: أنقذْنا يا ميزانَ الحسورَا

يكتبُ سيلًا كمن يصنعُ مسرحًا
للصبيةِ البُلهَا ويستجلبُ السرورَا

لا فكرَ فيه، ولا صورٌ، ولا نبضٌ
إلّا ضجيجٌ يسمعُ النشورَا

وجهُ القوافي عندَهم ممسوخةٌ
كوجهِ مَن يبتاعُ شعرًا بالدُّرورَا

قد حوّلوا الشعرَ الصفيَّ مسرحًا
يعرضُ فيه الكلُّ أوهامَ الزهورَا

يقولُ: قافيتي جديدةٌ! فقلْ:
والعقلُ قد قدمَ لن يعرفَ النورَا

ما في المشاعرِ مسكنٌ للوجدِ، بلْ
دارُ البيانِ خرابُها أمسى السرورَا

يكرمُهمُ نقّادُهمْ، سبحانَ مَن
جعلَ الثنا في البطنِ يُنبتُ الحُجورَا

يستلهمونَ الغيثَ في كلِّ المنى
والغيثُ منهم يستغيثُ النذورَا

يستخرجونَ الدمعَ من صحفِ النشرْ
ويقولُ أحدُهمُ: هذا السطورَا!

يا من يُغنّي في الكروبِ، تذكّرُوا
أنَّ الفنونَ أرواحٌ، لا دُرورَا

أتُريدُ مجدًا من كلامٍ باهِتٍ؟
أم تُريدُ من حزنٍ أن يبتاعَ سرورَا؟

قد قيلَ: من يُخلصْ للإلهامِ يرتفعِ
ومن يُرائي الناسَ يَهوي في الغرورَا

فاتركوا الكوارثَ للأخبارِ، لا
تجعلوا منها أُغنيةَ السطورَا

اُكتبْ بقلبٍ، لا بجَهازٍ صاخبٍ
فالقلبُ حيٌّ، والجهازُ بخورَا

من لم يذقْ لغةَ الهوى وجدًا، فلا
يَدّعي الشعرَ، ليصمتْ أو يدورَا

هذا ندائي للرجالِ الحرِّ في
مَلبارَ: قوموا، صحّحوا المسطورا

عودوا إلى معنًى يُنيرُ عقولَكمْ
لا تُطفئوا الشعرَ بسوقٍ وزهورَا

فالشعرُ دينٌ، إن تهكَّمَ غافلٌ
أو قلّدَ السفهاءَ، ضاعَ المنشورا

هذي مقامتُنا، فمن يعقِلْ فليرَ
أنَّ الهراءَ يموتُ، والصدقُ يبقى نورَا

ثم رفعتُ يدي إلى السماء وقلتُ:

اللهمَّ أحيِ في الشعراءِ أرواحَ البيان،
وألهِمْهم من الخيالِ ما يروي الوجدان،
واجعلْ أشعارَهم سُبُلاً إلى الحقِّ والجمال،
لا إلى التصفيقِ والرِّبحِ والمهرجان.