المقامة المطرية
عبد الحفيظ الندوي
حدثني أبي عثمان عن زائر نزل عنده في ديار كيرالا الممطرة، فدار بينهما حديثٌ عن المطر، نفعه وضره، وكان فحوى الحديث:
أيا سائلي عن ندى المطرْ
بكيرالا، دارِ خُضرٍ وزهرْ
إذا لاحَ غيمٌ وفيه البشرْ
تبتسمُ الروابي ويزهو الزهرْ
يفوحُ النسيمُ بعطرِ الشجرْ
ويصفو الهواءُ كبحرٍ دررْ
كأنّ الغمامَ كنوزٌ نُثرْ
كأنّ السماءَ تفيضُ العبَرْ
تُزهرُ في الساحلِ الهنديّ
ورودُ الجمالِ بسحرٍ خفيّ
وتغدو الحقولُ رداء نديّ
كأنّ البساتينَ لحنٌ نقيّ
وتنبضُ أرواحُنا بالمطرْ
فنُصغي لصوفيّ ذاكَ الوترْ
ويغمرُ قلبَ المساءِ الضيّ
ويصفو الزمانُ بلحنٍ شجيّ
ولكنْ إذا سالَ وابل أو طل
تُصابُ الديارُ بأحزانِ هطل
وتغرقُ أحياؤنا في الدُّجى
ويُصبحُ مأوى الفقيرِ الرجا
تُقطعُ طرقٌ، وتَطفو المدنْ
ويَعلو أنينُ الصغارِ الحُزَنْ
ويَسكتُ لحنُ المساءِ الأنيقْ
وينطفئُ الفجرُ قبلَ الشروقْ
ويهدمُ بيتٌ، وتُمحى الصورْ
وتضيعُ أحلامُنا كالسُررْ
ويصرخُ طفلٌ برعبٍ مريرْ
ويبكي رضيعٌ، بلا مجيرْ
كأنّ الرعودَ جنودُ الخطرْ
تهاجمُ أرضًا كقلبِ الحذرْ
فأينَ الأمانُ؟ وأينَ المـفر
إذا غاضَ عدلُ القدرِ الجَسرْ
لكنْ، وراءَ السُيولِ الغِنى
بهِ الزرعُ يحيا، ويُجنى المنى
وتورقُ أرضُ البلادِ العِبادْ
ويُغسلُ قلبُ الترابِ الجمادْ
كأنّ الغمامَ طبيبٌ رؤوفْ
يداوي القلوبَ، ويَمسَحُ خوفْ
سميّتهُ غيثًا، بلْ والوَدَقْ
إذا ما أتى كانَ خيرًا سَبَقْ
ورذاذٌ نديٌّ، يُعطِّرُ الفلق
وهَطْلٌ كريمٌ، ونَفحٌ عبقْ
وفي كلِّ أرضٍ لهُ منطلقْ
وفي كلّ معنى جمالٌ صدقْ
فما كان ضرًّا، ففيه العِبَرْ
وما كان نفعًا، فنِعمَ الثمرْ
فبينَ السطورِ نُشيدُ الحُكَمْ
ونُدركُ بالميزانِ ما يلزِمْ
نُحبُّ الغيومَ إذا لم تَظلِمْ
ونَخشى السُّيولَ إذا لم تَرحَمْ
فعيشُ الفتى بينَ جَدٍّ وهمْ
كظلِّ الغمامِ إذا ما ابتسمْ
أيا ربَّ غيثٍ بنفعٍ جليّ
بهِ تُسقَ أرواحُنا والوليّ
ولا تجعلنّا بدربٍ شقيّ
ولا تغمرنّا بموجٍ عتيّ
فنحنُ الضعافُ، ضعيفي الوسيّ
نُصلّي إذا جاءَ وقتُ الجنيّ
ونبكي إذا مسّنا ما نُسيّ
كأنّا نسينا دعاءَ المُنيّ
فخُذْ من قولي عزيزَ الحِكَمْ
وتأمّلْ الغيمَ كوجهِ الحُلمْ
ففيه العِبَرْ، وفيه النِّعَمْ
وفيه من الآياتِ ما لا يُلَمْ
وصُنْ نعمةَ اللهِ من كلِّ لُمّْ
وكن عبدَ شكرٍ، تُفلحْ وتَسْلَمْ
وخُتامهُ: غيثُ ربي عطاءْ
يحيي به الكونَ، فاشكرْ سواءْ