مقال:
رمضان تحت الخيام: صيام على أنقاض الوطن
د. كفاح الغصين (غزة)
تحت خيمة صغيرة، أتكوم فيها مع عائلتي المنهكة النازحة من مدينة الزهراء والواقعة في منتصف المسافة مابين مدينة غزة والشمال وبين محافظة الوسطى والجنوب، تلك المدينة التي تشاء الحرب أن تجعل منها محوراً مهماً للقوات الإسرائيلية ومنطقة قتال وتمركز بعد أن أفرغت سكانها جميعهم ونحن منهم، وبعد أن هشمت جميع البنايات والبيوت والأبراج السكنية الجميلة التي كانت تشكل لوحة متناسقة بالغة البهاء على مشارف البحر الفيروزي الهادئ، لنهرب بأمتعتنا القليلة جداً نحو الجنوب في حركة نزوحٍ غير مسبوقة، هائمين على وجوهنا، مشوشي التفكير ومسلوبي الإرادة، جميعنا كنّا هكذا سكان تلك المدينة الوادعة التي باتت خلفنا تماماً بأحجارها، وطينها، بذكرياتها وتفاصيلنا العالقة على ما تناثر من دمارها، بملامحنا التي انسلختْ على طرقاتها فغدونا بدونها كمسوخٍ مشوهة..
وهكذا أصبحنا كالآخرين تماماً عائلة تتكوم تحت خيمةٍ صغيرة تتناوب عليها موجات القهر والحزن والإحساس بالعجز، معجونةً بدفقاتٍ لا تهدأ من الخوف والجزع والفقد الذي لا ينتهي، بهتت تفاصيل حياتنا كثوبٍ قديمٍ أنهكت خيوطهُ الشمس، فأصبحت أيامنا ميتة بلا لون ولا طعم ولا رائحة.. ويشاء الله أن يقترب شهر رمضان، هذا الشهر الذي نترقبه بلهفة الإيمان، وشوق الزاهدين، بطقوسه المقدسة، ويومياته المدهشة، ولياليه المبهجة، هذه المرة لم يكن اقترابه ككل مرة، كان في الروح غصة، وفي القلب وجع، وفي اليد لا حول ولا قوة، فرمضان هذه المرة في خيمة للاجئين في أرض مليئة جداً بالخيام المتلاصقة، تخفي بداخلها سيلاً من الفقراء المتعبين المنهكين الذين بالكاد يجدون لقمة تسد الرمق في ظل الغلاء الفاحش وندرة البضائع، تحت القصف الدموي المتواصل ليل نهار، فالموت يأتي من محاوره الثلاثة براً وبحراً وجواً على مدار الثانية، والشهداء يتساقطون بالمئات لا بالآحاد، والأعضاء تتناثر طوال الوقت فوق الأرصفة وفي الشوارع المكتظة بالدمار، الوجوه شاحبة هرمت من الحرب وتضاريسها، والفقد عنوان اليوميات كلّها، ونحن صيام…
في لحظات الجوع الشديدة تسعفنا أحلام اليقظة ويعربد شيطان التخيل، فإذا بي كسيدة البيت أطبخ أشهى ما أستطيع طهيه من اللحوم والخضار والمشهيات، وأزين بها المائدة على مقربةٍ من الفاكهة الناضجة الطازجة الحلوة، وما أن ينتهي حلم اليقظة حتى أجدني أعددت في أطباق الخيمة القليلة بعضاً من طعام المعلبات الصدئة العائمة في المواد الحافظة التي أتحايل كمدبرة البيت في إخراجها بشكلٍ غير منفر، فالبصل على سبيل المثال مفقود وإن وجد فهو غالٍ جداً، والطماطم لا مكان لها من الإعراب فإن وجدت فالحبة الواحدة بسعر صناديق كاملة في زمان ما قبل الحرب، والسكر لا وجود له إلا في جيوب الأغنياء، وباقي المنتجات والخضار والفواكه لا نستطيع بالأساس إقتنائها في ظل الغلاء الغير مسبوق، تحت نيرانٍ لا تهدأ طوال الوقت فكيف والوقت شهر رمضان، ذلك الشهر الذي كانت تتنافس فيه الخيرات على موائد الإفطار والسحور قبل أن يجتاحنا طوفان الموت والخراب والتهجير الأرعن.
وأنا كزوجة وكأم ألملم تفاصيل الوقت طوال الوقت كي أخفف عن عائلتي تصاريف الحياة، أحاول أن أجعل رمضان واحة خير ومساحة للسكينة الداخلية، والطائرات تدوي فوق رأسي، والقذائف تتناثر حولي وتلطم الأجساد الطرية الغضة، وتفصل الرؤوس عن الرقاب بوحشيةٍ مابعدها وحشية، ثلاثون يوماً كان شهر رمضان، ذقنا قسوة الجوع وما ذقنا حلاوة الشبع، ذقنا عطش رمضان وما ارتوينا، فالماء ساخن لا برودة فيه يدفع المرء للتقيؤ، والسحور خاوٍ كما الإفطار من الطعام الشهي، والوجوه النضرة شاحبة، والخوف يفترس الملامح، وكان جُّل ما يواسينا أننا لو قصفت الخيام فوق رؤسنا سنلاقي الله ونحن صائمون..
في الخيمة الصغيرة التي تتكوم فيها عائلتي يتجول الموت وتتجول رحمة الله، وننجو بفضله لنحلم برمضانٍ آخر قادم قد يجيئ في ظروفٍ غير دموية، تدب السكينة في أرواحنا الثكلى، نتحلق حول موائد الذكر والتسبيح والاستغفار، وحول موائد الطيبات من الشهي من الطعام والشراب لنعوّض كل ما فات ذائقتنا في متعتي الإفطار والسحور