هوس المظاهر وعقدة النقص

من المؤلم أن نرى أبناء خير أمة أخرجت للناس يتسابقون في التفاخر والتباهي بما يملكونه من سيارات ويخوت وساعات وحقائب وذهب وكل ما يشد العين والقلب، وخاصة في سفراتهم وجولاتهم في العديد من العواصم العالمية، ولو كانوا يحتفظون ببذخهم ورفاهيتهم لأنفسهم لاحترمنا عقولهم وإدراكهم ولكن الكثير منهم من المتباهين والمتفاخرين يوثقون سفراتهم على حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي منذ دخولهم قاعة الدرجة الأولى وهم يرتدون أغلى الملابس والساعات والحقائب من الماركات العالمية، وعند ركوبهم مقصورة الدرجة الأولى أو رجال الأعمال، وصولاً إلى وصولهم إلى وجهتهم التي يحرصون أن تكون في أغلى الوجهات من حيث أسعار الفنادق والمطاعم والسيارات الفارهة، ليبدأ حينها في رفع نسبة التفاخر والتباهي بما يملكه ويغمره شعور عظيم بأنه ليس هناك في الأرض من هو أعظم ولا «أكشخ» منه، فيمشي في الأرض مرحاً ظناً منه أن الإكبار والإعجاب لا يأتي إلا باستعراض المظاهر والهيئة وبهالة من الغرور والتفاخر.

شخّص أحد الاستشاريين النفسيين هذه الحالة بأنه (اضطراب نفسي) يُعرف علمياً باسم هوس المظاهر أو الهوس بالمكانة الاجتماعية (Status Anxiety). 

وذلك عبر الاستعراض وهو نمط سلوكي يتسم بانشغال مفرط في عرض مظاهر الرفاهية أو الثراء أو النجاح أمام الآخرين، وذلك غالباً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الحصول على الإعجاب أو الاعتراف الاجتماعي، حتى لو كان ذلك على حساب الواقع المالي أو النفسي للفرد.

ويوضح هذا الاستشاري بأن الأعراض أو المؤشرات التي قد تظهر على الشخص الذي يعاني من هوس إبراز المكانة الاجتماعية عبر الاستعراض تختلف بحسب شدة الحالة، لكنها غالباً تكون على شكل سلوكيات متكررة على وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال نشر مستمر لصور وفيديوهات تُظهر السفر، الفنادق الفاخرة، المطاعم الراقية، المشتريات الباهظة، والتركيز على إظهار العلامات التجارية الفاخرة أو تفاصيل الدرجة الأولى في السفر، والتقاط الصور بشكل متعمد في أماكن أو أوضاع تدل على الثراء أو المكانة الاجتماعية.

كما أن للدوافع الداخلية للشخص دورا كبيرا في هذه الحالة من خلال الشعور بالرضا أو القيمة الذاتية فقط عند الحصول على إعجاب أو تعليقات إيجابية من الآخرين، وحالة من القلق أو الانزعاج إذا لم تلقَ هذه المنشورات التفاعل المتوقع، والسعي للمقارنة مع الآخرين ومحاولة التفوق عليهم في المظاهر.

ويرى الاستشاري النفسي أن أنماط تفكير هذه النوعية من البشر تتمحور في عدة أمور؛ بدءًا من اعتقادهم وقناعتهم التامة بأن المكانة الاجتماعية تعتمد أساساً على المظاهر المادية، ثم المبالغة في أهمية رأي الآخرين والانشغال الدائم بكيفية نظرتهم إليهم، وقياس النجاح الشخصي بما يمتلكونه أو يعرضونه لا بما يحققونه فعلياً. أما التأثيرات السلبية المحتملة على هذه العينة فقد لخصها في ثلاثة جوانب؛ مالياً من خلال إنفاق مبالغ كبيرة أو فوق القدرة المالية للحفاظ على الصورة التي يريد إظهارها، ونفسياً عندما يشعر دائماً بعدم الاكتفاء أو الخوف من فقدان الانبهار من الآخرين، واجتماعياً من خلال بناء علاقات سطحية قائمة على الانطباع الخارجي بدلاً من الحقيقي.

ومن وجهة نظره العلمية النفسية يرى بأنه لا علاج لهذه العينة إلا من خلال إخضاعهم لبرامج وقائية ونفسية تبدأ من الوعي الذاتي والتثقيف النفسي بمساعدتهم على إدراك أن قيمتهم ليست مرتبطة بالمظاهر أو بآراء الآخرين، وتوعيتهم بمخاطر الإنفاق المفرط لمجاراة صورة اجتماعية معينة، وأيضا العلاج المعرفي السلوكي من خلال تعديل الأفكار المشوهة حول النجاح والمكانة الاجتماعية، وتأتي باستبدال السلوكيات الاستعراضية بسلوكيات مبنية على القيم الحقيقية والإنجازات الواقعية، أو بالعلاج النفسي العميق والذي يُقصد به أنه إذا كان الهوس بالمظاهر مرتبطاً بجروح نفسية قديمة (مثل نقص القبول في الطفولة أو الشعور بالدونية).

ومن ضمن البرامج الوقائية تقليل الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال وضع أوقات محددة لاستخدام المنصات الاجتماعية، والتوقف المؤقت عن نشر المحتوى الذي يهدف فقط لإبراز المظاهر، واستبدالها بمتابعة حسابات ملهمة تركز على نشر القيم أو الإنجازات الفعلية. عند تحقيق أهداف هذه البرامج الوقائية سيصل الشخص إلى مرحلة إعادة مفهوم النجاح من خلال التركيز على المهارات والعلاقات الحقيقية والإنجازات العملية بدلاً من إبرازه للمظاهر، وتحديد أهداف شخصية ومهنية لا تعتمد على رضا الجمهور، وكل ما سبق من برامج وقائية لا شك بأنها تحتاج إلى دعم اجتماعي من خلال إحاطة النفس بأشخاص يُقدّرون الجوهر ويتجاهلون المظاهر الزائلة، ويترجمونها من خلال المشاركة في الهوايات والأنشطة التي لا يمكن قياسها بالمكانة المادية مثل (التطوع، التعلم، الرياضة). خلاصة هذه الدراسة تتلخص بحقيقة جلية تؤكد بأن هذه العينة التي زادت أعدادها كثيراً في وقتنا الحاضر ليسوا إلا مرضى نفسيين يعانون من (عقدة النقص) يُعظمون أنفسهم وهم في نظر المجتمع ليس لهم أي قيمة.

المقامة الاستقلالية

لما أطلَّ فجرُ الخامس عشر من أغسطس، وأتمّت الهند تسعًا وسبعين عامًا في العزّ والقدس، خرج الناسُ في الساحات، يرفعون الرايات، ويستعيدون ذكريات الأجداد والجدات، يومَ طُرد المستعمر، وتقطّعت حباله، وتبدّدت آماله.

وما كاد الفرح يُكمل دورتَه في القلوب، حتى طرق الأسماعَ صوتٌ جهوريٌّ يجلجل في المحافل والشعوب، صوتُ راهول غاندي، عنيدِ الموقفِ في وجهِ الاستبدادِ، يقول: “يا قوم، إن بعضَ الأحزاب – وأعني حزب البي جي بي – قد مدَّ يدَه إلى صناديقكم، فسَرَق منها ما شاء، ومد ساعده إلى مقابركم، فأحيى منها من شاء، فجعل القبر بابا إلى البرلمان، وحُوّلَ التزويرُ سلّما إلى السلطان”، ثم أردف مُحكِما، ولقائمة الناخبين متهكّما: “غرفة صغيرة تعيش فيها الآلاف، ناخبون لهم آباء مسمَّون بمجرد الحروف، بيوت ليس لها أرقام إلا صفرا، أشخاص لا تجدونهم إلا قبرا”.

وهنا أنشد شعراء من الحاضرين، وبالمفوضية معرّضين:

أتتْه بعد طلبٍ منه رَقمـا

بورَقٍ مثل جبل الهند طولا

تخافُ الحق ناصرةً لسوءٍ             

فهُم سرّاق صوتٍ لا محالة

فاهتزّ المجلس حرارة، وضحك البعض مرارةً، وتساءلوا: قديما حصلنا الاستقلال من سُرّاق الأموال. حديثا، الوطنُ في أيدي سراق الأصوات! وكيف يُعانق الوطنُ الحريةَ بيمين، ويُسلِّمها إلى بائع الضمير بشمال كمين؟

فقام شيخٌ وقور، بِقولٍ لن يبور، قد غزا الشيبُ لحيتَه، ولم يضعِّف جبهته:

“يا أبناء الهند، ويا من له جند! الاستقلالُ ليس تاريخًا يُحفظ، بل عهدٌ يقبض. وما نفع استقلال إذا كانت القائمة تُملأ بالأوهام، وتُخطّ فيها أسماءُ الأموات والأحياء بالوئام؟ وأما مفوضية الانتخابات، فهي كالحارس الذي يغض الطرف عن اللص في الظلمات، أو كالنائم وسط حرائق البيوت”.

فعلمتُ أن الحريةَ بلا عدل، كالسفينة بلا شراع، وأن الوطنَ بلا أمانة، كالجسد بلا أرواح. فالسارقُ قد يتسربلُ سِربالَ الخدمة، ويتقنّعُ بقناعِ الذِّمّة، والمستعمرُ قد يجيءُ من ذاتِ البلدة، ويطرقُ البابَ باسمِ المودّة، فلا بدّ للعاقل من بصيرةٍ نافذة، ويقظةٍ راصدة، حتى لا يكون الاستقلال ذكرى تذكر في الكتب، ووقودا يلهب في الحَطَب.

قُم تقدَّمْ قولَ حقٍّ قائلا         

مُستقِلَّا تَلْقَ وطنًا قابِلا

رثاء السيد محمد علي شهاب 

يا عين جودي بالدموع وسلمى 

روح الامام النور فينا الراحلا

وا حُزنَ قلبي إذ غدا من دونِهِ

دربُ الهُدى متزلزلًا ومُضْحِلَا

قد كانَ فينا كالسحابِ إذا أتى

يروي القلوبَ ويُنعشُ الآمالَا

حَفِظَ الشريعةَ، واستقامَ على الهدى

ما مَالَ يومًا، أو أرادَ مَزالَا

يا مَن سقى الناسَ المحبةَ والتقى

وغدا لأهلِ الحقِّ حصنًا عالِيَا

قد كنتَ صَمتًا حين ينطقُ جاهلٌ

لكنْ كلامُك كانَ ضوءًا جَالِيَا

ما كنتَ إلا رحمةً تمشي على

أرضِ التواضعِ، لا تَزِلُّ مِقالَا

علّمتنا أن السلامَ عقيدةٌ

وأنّ صدقَ القولِ خيرُ مجالَا

رحلتَ عنا، يا شهابُ، فهل لنا

من بعد نورِك مرشدٌ أو والِيَا؟

فالناسُ تبكي، والمدارسُ أُقفِلَتْ

والعلمُ صارَ ينوحُ في أوصالِهَا

والمنبرُ المكسوُّ بالحرفِ الندي

ما عادَ يسمعُ صوتَك المِرسالَا

أبقيت فينا المكارم كلها

ما مات من منح الوفا اجيالا

يا سيدي، نمْ في القبورِ مكرَّمًا

فدعاؤُنا لكَ يملأُ الآصالَا

وعاءُ العلم

إنّ العربية ليست حروفًا تُرصّ، ولا ألفاظًا تُسطّر، بل هي جوهرُ العقل، وروحُ البيان، ومرآةُ الفكر، ووعاءُ المعنى، بها تنضبط المدارك، وتستنير الأفئدة، وتتجلّى المفاهم، وتتشكل طرائقُ النظر، ومناهجُ الاستدلال. فهي ليست أداةً تُستعمل، بل آلةٌ تُستبطن، وحاكمةٌ على الفكر، لا محكومةٌ له، بل هي مناط التمييز بين الخطأ والصواب، والرشاد والضلال، والتقعيد والتفريع.

وما ضعفُها في أمةٍ إلا كان شاهداً على اختلال الفهم فيها، واضطرابِ التفكير بين أبنائها، وسوءِ التصور في قضاياها، وانحدارِ مناهجها التربوية والتعليمية. وإن نبوغها في القلوب والعقول، دليلُ رُقيٍّ في سائر مجالات الحياة؛ من التعليم، إلى القضاء، إلى الطب، إلى الفقه، إلى الإعلام، إلى التخطيط والمعرفة.

وقد قرّر أهل الأصول: أن الوسائل لها حُكم المقاصد، واللغة هي الوسيلةُ العظمى، فحُكمها من حُكم العلم والفهم والدين؛ فكل تراجعٍ عنها هو تراجعٌ عن العقل، وعن البيان، وعن الدين.

وما أجمل ما قاله علماء اللسان: إن اللغة سجلّ الأمم، وصورة وجدانها، فإن بادت اللغة، باد الوجدان، وإن اغتربت، اغترب العقل عن ذاته، وإن صلحت، صلح البناء الحضاري كله.

ويقرر هذا أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) إذ يقول: «من أحب الله – تعالى – أحب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه؛ اعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح الثقة في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد. ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة، وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للضارب، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة التبصر في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان لكفى بهما فضلًا، يحسن فيهما أثره، ويطيب في الدارين ثمره» فقه اللغة وسر العربية: للثعالبي، (المقدمة)، بتحقيق السقا وآخرين، ط. الحلبي، سنة 1392هـ.

قفي ساعة: وقفة تأملية نقدية في الحزن عند تميم البرغوثي

لتميم البرغوثي أبيات تجسد صراعا داخليا بين شاعر مرهف الإحساس، وحزن له سطوة المقاتل الشرس، وهذه الأبيات من أبياته الأثيرة عندي، ولذلك آثرت الوقوف معها قليلا وتأملها، اقتبستها من قصيدته (قفي ساعة) التي خلد فيها قصة ( الطفل الشهيد محمد جمال الدرة) عليه رحمة الله، والحزن عند تميم ليس مجرد حزن ذاتي، بل هو حزن أمة، وله جذور سياسية/ وجدانية، مما يعطي طابعا كونيًا لهذا (الحزن الرفيق).
تستهل القصيدة باستيقاف المتلقي، على عادة العرب قديما في معلقاتهم، وكأنها تشكل حالة من الأصالة، كما تشكل امتدادا للجذور، وكأن الشاعر يريد من البداية أن يلفت انتباه المستمعين إلى أهمية الخطاب الذي سيتلوه على مسامعهم، فهو يوجه خطابا شخصيا مباشرا بصيغة طلبية للمؤنث في قوله:
قِفي ساعةً يفديكِ قَوْلي وقائِلُهْ ..
ولا تَخْذِلي مَنْ باتَ والدهرُ خاذِلُهْ..

حيث يبدأ الخطاب بطلب إنشائي ودعوة رقيقة للاستماع إلى شجون أليمة، عبر عنه صيغة الفعل الأمر المتصل بياء المخاطبة المؤنثة في قوله (قفي) محددا مهلة الخطاب بلفظة (ساعة)؛ بغرض الإفصاح عن بعض الأمور الهامة (من الهم) والمهمة (من الأهمية) مما يثقل قلب لشاعر ويستدعي الإنصات، ثم يتبع الشاعر الطلب الأول بطلب آخر جاء في صورة الدعاء ( يفديك قولي وقائله)، لإضفاء مزيد من التوسل والاستعطاف.
وفي النص نداء مضمر إلى هذه السيدة التي يدعوها الشاعر للتوقف وتبادل الحديث معه، لعلها إن سمعته أن تخفف بعض شجونه التي لا يستطيع غيرها أن يخففها، ولا ينفك الشاعر يستخدم الاساليب الطلبية في تمرير رسالته المحملة بشحنات من الرجاء في قبول الدعوة وعدم التخلي عنه في ساعة هو أحوج ما يكون فيها إلى أذن مصغية تحمل عنه همومه.
يهدف هذا التنوع الأسلوبي إلى استمالة المخاطبة المقصودة، ومن ذلك قوله ( ولا تخذلي من بات والدهر خاذله)، إذ إن فيها دعوة حقيقية وادعاء صادق على خذلان الدهر للشاعر؛ فحين تجتمع الهموم وتجثم على القلب يبحث المرء عمن يستمع إليه ويخفف عنه، لكن يبدو من الخطاب أن الشاعر يستميل امرأة معرضة، لا تشغلها همومه ولا تعنيها، ولذلك نراه يلجأ للتنوع الأسلوبي في عرض شكواه وشجونه.
ولكن تُرى من تكون هذه المرأة؟ ولماذا يبذل الشاعر جهده كي يُسمعها؟ هذا ما لم يخبرنا به الشاعر، بل ترك للمتلقي حرية التأويل، وإن كنت أرى أن الشاعر يخاطب (الأمة المُعْرِضَة) لتقف وتعي ما يحدث حولها، لعلها تفيق من غفلتها، قبل أن يفوت أوان النجاة.
تأتي لفظة (الدهر) في موضعها معرفة بأل، للدلالة على ترصد الدهر لهذا الشاعر، واجتماعه على خذلانه، وليصف الشاعر عمق شعوره بالخذلان، لم يخذله فرد أو شخص، بل دهر لا يعرف سوى الخذلان المقيت.
تبرز ملامح الحزن وترتسم في قصيدة (قفي ساعة) في مقطع شعري متماسك يتكون من خمسة أبيات متتالية، يتمثل فيها الحزن للشاعر رفيقا معلومًا، تتصاعد سطوته تدريجيا حتى تبلغ ذروتها فتتكشف حقيقته المقيتة، إذ يتمثل له كيانا مرعبًا يتحكم في حياته وموته، وإذا تتبعنا (الحزن) من بداية نص القصيدة، نطالعه في البيت الرابع منها في قوله:
بإحدى الرزايا ابكِ الرزايا جميعها ..
كذلك يدعو غائبُ الحزنِ ماثلُهْ..

في مقدور مصيبة واحدة أن تشعل نيران حزن لا يطفئها البكاء، فهي كفيلة بأن توقظ في قلبك كل الأحزان التي مرت، فإذا حضر الحزن استدعي كل حزن غابر، لتتمثل أمامك أحزانك حزنًا واحدا، فكما أن الحزن الحاضر يوقظ الحزن الغائب، كذلك رزية واحدة قد تستدعي وتوقظ كل ما كان قبلها من رزايا وأوجاع.
يبرز الحزن في هذا البيت في صورة الداعي الذي إن حضر وجبت دعوة الغائبين للقائه والمثول في حضرته، وهي استعارة تشخصن الحزن وتجعل له سلطانا وهيمنة وهيبة، والحزن لا ينفصل عن الرزايا، فهو قرينها، فمتى جاءت الرزايا، حضر الحزن لاستقبالها والبكاء عليها.
ويلاحظ ورود الحزن (فردًا) إلا أن الرزايا وردت فردًا وجمعًا، وهذه مقابلة لافتة، إذ يلتقي الحزن الفرد مع الرزايا جميعها للبكاء عليها، وهذا مبالغة في قدرة الحزن واحتوائه على فرادته للمصائب وإن كانت جمعًا، وفي البيت تشبيه للمصيبة وهي تستدعي أخواتها من الرزايا كما يستدعي الحزن ماضيه.
هذا الحزن وإن بدا ذاتيا في ظاهره، إلا إنه يشير في عمقه إلى حزن جماعي سياسي/ إنساني، فالرزايا التي تستدعي بعضها لا تقتصر على آلام شخصية، وإنما تتسع لتشمل رزايا أمة تعيش الهزيمة تلو الأخرى، مما يجعل من الحزن في هذا الموضع حزنًا كونيا، ذا طابع جمعي يتجاوز حدود الذات إلى آفاق الأمة.
ينتقل الشاعر في البيت التاسع من القصيدة ليباغت المتلقي بإعلان مباشر أفصح فيه عن ارتباطه القديم بالحزن ارتباط جعله قادرا على استشراف ما قد يصيبه لاحقا، نتيجة لهذه المعرفة العميقة بالحزن، وتتجلى مظاهر هذا الوعي في استخدامه صيغة اسم الفاعل (عالم) في قوله:
أَنَا عَالِمٌ بالحُزْنِ مُنْذُ طُفُولَتي ..
رفيقي فما أُخْطِيهِ حينَ أُقَابِلُهْ..

مشيرًا إلى أن الحزن لم يكن وليد لحظة عابرة، أو موقفا منسيا في ذاكرته، بل حزن أزلي نشأ معه في طفولته وصاحبه بقية حياته واستمر معه حتى بات جزءا لا ينفصل عن مصيره.
حتى إن غاب هذا الحزن الصاحب (الرفيق) ساعة، فإن الشاعر لا يخطئه حين يلقاه، ويتضح هذا المعنى في نفيه للفعل المضارع (فما أخطيه) إلى جانب تخفيف الهمزة في لفظة (أخطئه)، مما يوحي بسهولة التعرف عليه، ويضفي على علاقتهما طابع الألفة المعتادة، كما تؤكد لفظة (حين) ديمومة اللقاء بينهما، وكأن الحزن ضيف دائم بلا موعد مسبق.
وتتجلى في هذا البيت ملامح الاستعارة حين يصور الحزن الذي يلقاه على هيئة رفيق قديم لا يُنسى، مهما طال الفراق، فقد استطاع هذا الحزن أن يحتفظ بملامحه القاسية وهيبته، مما يمكن الشاعر من تمييزه كلما شعر بقربه، فحين استعار له الرفقة واللقاء، تجسد الحزن في هيئة صديق لدود، فرض حضوره مرارا بقسوة، يعرفها الشاعر حق المعرفة.
يسترسل تميم بعد ذلك وصفه لذلك الرفيق القاسي، قائلا:
وإنَّ لَهُ كَفَّاً إذا ما أَرَاحَها..
عَلَى جَبَلٍ ما قَامَ بالكَفِّ كَاهِلُهْ..

ويلاحظ هيمنة أسلوب الشرط على وصف الحزن في هذا البيت إذ تنشأ عنه صورة ترتسم فيها ملامح القسوة والقوة المرعبة الكامنة في الحزن، وقد ورد الشرط في البيت بأداته ( إذا) وفعله (أراح) المسبوق بما الزائدة لتوكيد المعنى، وفعل الجواب (قام) المسبوق بما النافية لنفي قدرة الجبل على تحمل الكف، مما يدعم القوة الخارقة للحزن، وكأنه مخلوق أو كيان أسطوري.
وتكرار الحرف (ما) في البيت لم يرد اعتباطا، بل ورد ليضفي نغمة موسيقية ثقيلة تتناسب مع ثقل الكف وثقل المعنى، ويفيد التكرار توكيد المعنى وإحكامه، فوجود (ما) مرتين يبرز التحول الدرامي من وضع الكف بهدوء إلى انهيار الجبل.
نكرت (كف) تعظيما لسطوتها، فهي ليست كفا عاديا، بل كف تتفوق على التصور، بينما وردت كلمة (جبل) نكرة للدلالة على العموم أو التهويل، بمعنى أن أي جبل مهما بلغت ضخامته وقوته لا يستطيع الصمود أمام هذا الكف، ويفهم من هذا أن الحزن يمتلك قدرة مدمرة، لأن مجرد ملامسة الكف للجبل تهدمه، فما بالنا لو ضربه أو ضغط عليه؟ فالتنكير هنا يخدم المبالغة في التصوير البلاغي للقوة.
وتتضح ملامح الاستعارة أكثر حين يتجسد الحزن كيانا قاسيا ثقيلا، فإذا كان الجبل لا يصمد أمام هذا الكف الرهيب، فكيف بقلب شاعر نحيل، يلتقي بالحزن كل حين؟
ينتقل الشعر إلى البيت التالي مصورا تصرفات الحزن ذو الكف المخيف معه، في قوله:
يُقَلِّبُني رأساً على عَقِبٍ بها..
كما أَمْسَكَتْ سَاقَ الوَلِيدِ قَوَابِلُهْ..

حيث يبالغ الشاعر في وصف أفعال رفيقه الحزن به، حين يقابله، ويبدو أن لقاء الحزن الرفيق من أقسى لقاءات الشاعر، إذ تنفي أفعاله القاسية بالشاعر صحبته الطيبة، فإذا كانت المفردتان (عالم، رفيقي) يشيران إلى ألفة واستئناس، فإن هذا البيت يكشف عن الوجه الآخر لهذا الرفيق، وجه الجبروت والقسوة، إذ نراه يقلب الشاعر رأسا على عقب، لا قلبًا للوجدان فحسب، بل تمزيقًا لكيانه كله.
ويعبر عن ذلك الفعل المضارع الذي استهل به البيت مع شدة على اللام ( يقلِّبني) لإظهار المبالغة في سلطة الحزن وسطوته إذ يكون الشاعر في يده كالوليد في يد القابلة، حين تقلبه وتمسكه من ساق واحدة فينقلب رأسه لأسفل، إلا أن الحزن لا يقلب الشاعر رأسا على عقب فقط بل يقلِّبه أي يتحكم فيه بعدما يفقده قدرته على المقاومة والتحكم بنفسه؛ ولذلك وردت كلمة (ساق) مفردة للدلالة على أن الشاعر يترنح في مخالب الحزن غير متزن كما يترنح الوليد الذي أمسكت به القابلة من ساق واحد.
ويلاحظ استعانة الشاعر بالتشبيه لتكتمل الصورة، فكأنه أراد أن يقول إن الحزن لديه من الوعي بما يفعل ما لدى القابلة من وعي بما تفعله بالوليد، أما الشاعر أمام هذا المخلوق المتجبر مسلوب الإرادة رغم وعيه الكامل بما يحدث ..
كما وردت كلمة (قوابل) جمع للدلالة على الفرحة بميلاد الوليد بينما يُحدث هذا الجمع مفارقة بين حال الوليد الذي يتأرجح في يد القوابل استعدادا للحياة، وحال الشاعر الذي يترنح في يد الحزن ليواجه الهلاك والموت، فشتان ما بين الوليد المرتجي حياته في يد القوابل، والشاعر المرتجي موته في كف الحزن، فكأن الشاعر لا يولد في الحزن، بل يسحب إليه كما يسحب جسد إلى مهلكه.
وكأن الحزن لم يعد طارئا على الشاعر، بل أحد مكونات وعيه وذاته، يتحكم به كما تتحكم الذاكرة القديمة في ردود أفعالنا الحديثة.
يتابع الشاعر تصوير عبث (الحزن) به قائلا:
وَيَحْمِلُني كالصَّقْرِ يَحْمِلُ صَيْدَهُ..
وَيَعْلُو به فَوْقَ السَّحابِ يُطَاوِلُهْ..

يستمر الشاعر في تصوير حالته بين يدي الحزن المقيت، معتمدا على الفعل المضارع (يحمل، يعلو، يطاول)؛ للدلالة على استمرارية سطوة الحزن، وتوالي التشبيهات باستخدام الأداة (الكاف) ليصنع صورة جديدة أكثر عمقا وتأثيرا، إذ يشبه الحزن بصقر جارح مفزع يحمل الشاعر كما يحمل فريسته بعدما تمكن منها، ويطير به بعيدا متجاوزا حدود النظر؛ ليختلي به فوق السحاب ويتلذذ بافتراسه وحيدًا، فنرى الشاعر بعدما فقد كل قوته، وأصبح حملا هالكا بين مخالب الصقر يعلو معه إلى وكره هناك فوق السحاب، وهو تشبيه تمثيلي، وفي قوله (يطاوله) دلالة على شدة البعد المقصود.
وفي قوله: ( ويحملني كالصقر يحمل صيده)، استعارة ضمنية ممتدة( الصقر= الحزن، الصيد= الشاعر، لكن لم يصرح بهما).
نستطيع القول إذن إن الحزن لا يفعل ما يفعل عبثا، بل بسبق إصرار، كمن يعرف أين يؤلم ضحيته أكثر، فالحزن (الصقر) يتعمد أفعاله بالشاعر (الصيد) ويقصد الاختباء به في أبعد مكان، حيث لا يدع للشاعر فرصة يتوسل بأحد أو ينجو بنفسه منه، ما يعكس شعور الشاعر بالعزلة المرعبة تحت سطوة الألم.
فإنْ فَرَّ مِنْ مِخْلابِهِ طاحَ هَالِكاً..
وإن ظَلَّ في مِخْلابِهِ فَهْوَ آكِلُهْ..

يختتم الشاعر هذا المقطع بصوت تأملي عميق عبر عنها أسلوب الشرط بأداته (إن) المقترن بالفاء، وفعليه ( فر، طاح) ويتلوه شرط آخر تتكرر فيه الأداة (إن) وفعلها (ظل) مسبوقة بواو العطف التي ورد ذكرها دلالة على حتمية الهلاك رغم تعدد احتمالات الهروب، كما يلاحظ استبدال اسم الفاعل(آكله) بفعل جواب الشرط، فحمل الجواب معنى المفعولية والقسوة في آن واحد، وفي البيت انزياح معنوي يجعل من الحزن فاعلا يتلبس صفات الوحش المفترس، لا مجرد انفعال داخلي.
وتؤكد هيمنة الشرط في هذا البيت على وعي الفريسة بما يحدث لها، مع استحالة القدرة على التصرف ورد الفعل، فالشرط الأول نهايته الهلاك، ولا تختلف نهاية الشرط في الشطر الثاني كثيرا عن نهايته في الشطر الأول، بل إنها هنا حتمية ومؤكدة باسم الفاعل (آكل)، فسواء فر الشاعر من قبضة الحزن، لن تتركه تبعات هذا الحزن وهو هالك لا محالة، وسواء ظل تحت تأثيره فهو آكله أيضا بلا شك ..
في الختام أتساءل كيف يستطيع المرء أن يتقبل في حياته مجرما بل قاتلا متسلسلا كالحزن؟ الحزن لا يكتفي بكبت المشاعر، بل يهاجم النفس ويجثم على القلب ويزهق الروح، وهو بذلك يتخطى كونه شعورا ثقيلا، ليصبح قاتلا مشهورا ما لأحد من سلطان عليه وهذا ما يريد أن يثبته الشاعر من بداية المقطع .

رؤية واهنة

على ضفّة النهر، في ظلّ أشجار الجوز والصفصاف، جلس ابنُ فلاحٍ يتأمّل الماء الجاري بهدوءٍ وسكينة، حيثُ تتحدّث الطبيعة بصمتها، الأغصانُ تتعانق، الأزهارُ تتمايل، والطيورُ تتغنّى. كلّ شيءٍ هناك ينادي بقيمة الحياة، يبشّر بالروح.

عاد من المدرسة ذات مساء، فدخل بيته فلم يجد فيه أحدًا. لم يرَ سوى بابٍ موصد، وسكونٍ عميق. خرج متسائلًا، فصادف جارَه، فسأله، فأجابه بكلمة واحدة اختزلت كل شيء: “زواج”. سادَه شعور بالوحدة والضياع، فبدأ يركض، كأنّ الأرضَ تجذبه أو يفرّ منها، حتى أوصلته خطاه إلى طرف المدينة، ثم إلى الغابة.

ركض عبر الجسور والساحات، جاب جبالًا جرداء، وسلك طرقًا لا يعرفها، إلى أن وصل غابةً موحشة، يسمع فيها زئير الأسد فيختلجه الرعب، وتغريد الطيور فيسلّيه شيء من الأمان.

ركض بسرعة دون أن يلتفت، حتى رأى من بعيد دخانًا يرتفع. اقترب ليستطلع، فإذا هو بتنّورٍ نارٍ يلتفّ حوله أربعة رجال يشربون الخمر. انضمّ إليهم حتى لا يشعروا بغربته، وشاربهم حتى ترنّح معهم سُكرًا، وسلكوا جميعًا طريقًا ملتفًّا تتدلّى الأشجار من جانبيه.

ثم وصلوا إلى أجمةٍ كثيفةٍ مظلمة، تختلف عن باقي الغابة، فدخلوا إليها واحدًا تلو الآخر، ثم خرجوا وثيابهم بأيديهم، ووجوههم غريبة الملامح.

اقترب خفية، فإذا بصوت امرأة يهمس بألم، خافتًا متقطعًا، يشبه الأنين. شعَر في أعماقه أنها أمّه، فتمتم في نفسه:

 “ليت هذه الأجمة الحالكة… هالكة.”

وفجأة… نبح الكلب:

“واه… واه…”

فاستيقظ من نومه مفزوعًا.

كانت شياه تمرّ أمامه، وصوتُ نباحٍ في أذنه، وذكرياتٌ غامضةٌ تتلاشى.

فتح عينيه، فإذا هو في بيته… وأمّه أمامه، تقدّم له كوب ماء.

………….

“الأم” كلمة صغيرة، عظيمة المعنى

كلمة “الأم” – رغم قِصَر حروفها – تختصر في طيّاتها أعظم المعاني وأرقّ المشاعر، هي مرادف للحب، ولفظ لا يمكن أن يُستبدل، وعاطفة تعجز الكلمات عن وصفها وصفًا كاملًا. طباعها مفعمة بالحلم، والصبر، والرحمة، والشفقة. هي سبب وجودنا في هذه الحياة، وأقل ما نقدمه لها هو الدعاء الصادق من القلب.

قال النبي ﷺ: “الجنة تحت أقدام الأمهات”. وفي حديث آخر، سُئل النبي ﷺ: “يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟” قال: “أمك قيل: “ثم من؟” قال: “أمك قيل: “ثم من؟” قال: “أمك” قيل: “ثم من؟” قال: “أبوك. بهذا التكرار، ندرك عظمة مكانة الأم في الإسلام، ومدى استحقاقها للبر والإحسان.

ولم يَغب فضل الأم عن الشعراء، فها هو الشاعر حافظ إبراهيم يقول:

الأم مـدرسةٌ إذا أعـــــــددتها

أعددت شعبًا طيّب الأعراق

وفي عصرنا، يتغنى البعض بالأم بكلمات بسيطة ولكنها عميقة، مثل تغريدة تقول: لو كان بيدي أن أختار وطني، لاخترت قلب أمي؛ هناك أنام مطمئنًا، وأصحو بسلام.” وقد رُوي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه:”ائتني بشيء من الجنة.” فأسرع الابن وعاد بحفنة من تراب، فسأله لقمان: “من أين أتيت بهذا؟” فقال: “من تحت قدمي أمي.”

وجاء في معنى الحديث: “دعوة الوالدة أسرع إجابة“. وتُروى في ذلك قصة معبرة: سأل نبي الله موسى عليه السلام ربه: يا رب، أرني من يكون رفيقي في الجنة؟” فأوحى الله إليه: “يا موسى، أول رجل يمر بك من هذا الطريق، فهو رفيقك في الجنة”. فمرّ به رجل، فتتبعه موسى عليه السلام ليرى ما الذي يفعله هذا الرجل ليستحق مرافقة الأنبياء. فدخل الرجل بيتًا وجلس أمام امرأة عجوز، وبدأ يشوي قطعًا من اللحم، ويطعمها بيده، ويسقيها الماء، ثم خرج. سأله موسى عليه السلام: “من هذه المرأة؟” قال الرجل: “إنها أمي، قال موسى: “وهل تدعو لك؟” قال: “نعم، لا تدعو لي إلا بدعوة واحدة، تقول: اللهم اجعل ابني رفيق موسى بن عمران في الجنة”. فقال له موسى عليه السلام: أبشر، فقد استجاب الله دعاءها، وأنا موسى بن عمران“.

ما أعظم الأم! وما أكرم الله لمن برّ بها!