المنظر المهيب
✍ الدكتورة سميه رياض الفلاحى، آراضى باغ، أعظم كره
………………….
كانت ليلة شتائية في شهر ديسمبر، تعالت أصوات تهيب بالفتاة.
وكانت تحدق فى السماء من فوق السقف تفكر فى خلق الكون، وتحمد الله وتثنى عليه.
حتى رأت الطيور تحلق فى السماء وتتأمل حريتها فإذا نزل صاروخ بالسقف فدهشت وتوترت ونزلت الدرج بسرعة، وينظر أهلها إلى السقف بالتحير والإعجاب.
كانت تتنفس مهيبة ومضطرة وتريد أن تعرف الظروف المتقلبة فى حىّ خان يونس.
“ماذا أصابك يا بنتي الحبيبة؟” سأل والدها.
“لا أدري، ولكن رأيت صاروخاً قادمًا إلىّ فتحركت شيئًا، ونزل على سقفى وما حدث بعد ذلك فلم أعثر على أي شيء. ولا أدرى كيف نزلتُ إلى هنا؟” كانت تقشعرّ من شدة الخوف.
“رأيت هناك النار والأشباح” قالت. ولكن لا تدري ماذا تقول؟
“استرخى يا حبيبتي!” قال أبوها. “حسبنا الله ونعم الوكيل” كان يتلو الآية ويكرّرها مرارًا وتكرارًا. ثم ناجى فى أذن بنتها: “ألا تتوكلى على الله يا بنتي الغالية؟”
“بلى!”
“لا تقلقي واستريحي لدقائق.”
فاسترخت لثوان ثم دار المنظر المهيب في نظرها فنهضت من الفراش وبدأت تسعى في الدار كالمجنونة.
فأعطاها أبوها حبوب النوم، وغلب عليها النوم ونامت إلى وقت الفجر حتى سمعت نداء المؤذن قائلا: “حي على الصلاة” فقامت وتوضأت للصلاة حتى فرغت من صلاة الفجر وتلت القرآن حتى بلغت الآية: “ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون”.
تفكرت وتدبرت فى هذه الآية لبضع دقائق حتى أدركت سر الحياة ثم شعرت بالاسترخاء وبدأت على سبيل المثال وتوجهت إلى المطبخ وأعدّت الفطور ودعت أفراد العائلة على المائدة للفطور. جلس كلهم للفطور ومدّوا أيديهم إلى تناول الأكلات المتنوعة اللذيذة، ونسيت هى كل ما حدث بالبارحة وحمدت الله على هذه النعم العظيمة والحياة السعيدة. فإذا تحولت حياتها إلى الظروف السيئة ودار المنظر المهيب فى عينيها مرة أخرى حينما سمعت صوت الانفجار وسقطت صواريخ عديدة على سقفها فحاول كل منهم أن يفروا إلى مكان محفوظ.
فإذا وجدت مظلة حياتها تنكسر ورأت مصباحها ينطفئ فهو الذي ينبعث الحياة، كان تحت القصف محروقًا فى حالة السجدة يتلو الآيات: “إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون” وأحيانًا “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
فهرولت إليه وحاولت أن تأخذه ونجحت فيه ولكن بلا جدوى!
نادته “يا أبى مسيرة حياتى! أين أنت؟ أنا معك أريد أن أتكلم وأنت صامت؟”
رأت إليه وهو مات يبتسم وجهه فصرخت وسعت فى كل أطراف البيت تنادى أفرادها ولكن كان الصمت طويلا هنا فخاب أملها ولكنها لم تفشل. أدارت نظرها إلى جميع الجوانب حتى وجدت أمها فى حالة الغشى فتسرعت بها إلى المستشفى خائفة من حملة فاجئة.
وعندما وصلت، كان المستشفى يزدحم بالجرحى والمرضى، تحركت بحذر بين الحضور تبحث عن طبيب أحمد سعيد حتى دنت منه واستسلمت والدتها إليه للعلاج.
ثم عادت إلى بيتها المدمر لكي تهتم بتدفين والدها ولكن لم تجد أي شخص في الحىّ.
كانت تدور من بيت إلى بيت وتحاول أن تتصل بالأقرباء الذين كانوا يسكنون فى مدينة أخرى ولكن خطوط الكهرباء والهاتف كانت مقطوعة، فكانت المنطقة بأكملها مغطاة بسحابة من الدخان والصواريخ الإسرائيلية مازالت تتساقط وتخرب السكن وتحرق جميع السلع المنزلية.
كانت سعاد تبحث عن شقيقها وشقيقتها تحت الدمار كالمجنونة وأصيبت بصدمة عنيفة وكانت الأم تتأوه من الألم وحدها فى المستشفى.
مدت يديها للنصر ولكن المنظر كان مهيبًا، لم تر أي شيء من العافية إلا انفجار الصواريخ المسلسلة وأصوات القنابل المتوحشة.
وبدأت تمشي حتى لم تعد فى استطاعتها المشي وكلما اقتربت إلى الحي غارت في الظلام وابتعدت.
ثم رجعت إلى المستشفى فوجدت أمها في حالة الوجع فاضطربت وسارعت إلى الطبيب وشكت إليه من وجع الأم فاطمئنها وقال “اصبري يا بنتي، فإن الله مع الصابرين”.
فوجدت القوة فى قلبها بهذه الجملة ثم عادت إلى أمها فآستها وبدأت علاجها بالصمت ولكن الصمت لم يدم طويلا ….سألت أمها عن أبيها.
أجابت سعاد بدون رؤيتها: “هلا تقرأي يا أمي؟ “إن الله يأمركم أن تودّوا الأمانات إلى أهلها”
“بلى!”
“ألم تقرأي “كل نفس ذائقة الموت”
“بلى يا بنتي، ولكن ماذا تريدين بهذه الأسئلة؟”
ففاضت دموعها من عينيها وقالت: “إن الله قد أخذ أمانته وعلينا أن نرضى بأداء الأمانة بدون جزع وفزع”
فصرخت أمها وحاولت أن تقام، فقالت سعاد: “ابقي يا أمي. لا تحزني، إن الله معنا”
ومضت دقائق وأنها كانت بحاجة أن يعطف بها ولكن من يعطف؟
ثم ودّعت وتوجهت إلى بيتها لكي تدعو الأقارب، والحزن يخنقها. والدنيا أمامها ليل ….. فهناك قمر تمر عليه سحابات، وهناك بيوت تمر عليها أدخنة الصواريخ والقنابل ولم تسمع إلا صرخ الحيوان وبكاء الإنسان ومشت في هذه ظروف سيئة حتى وصلت إلى بيتها ورأت أبيها ملقيا على طاولة الطعام فاجتمعت قواها وتلت القرآن “ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً” وبادرت إلى اهتمام بالتدفين بنفسها حتى رأت أشباحًا طويلة سارعت إليها فخافت فإذا سمعت منها صوتًا خافتًا، “لا تخافي، نحن جئنا باستقبال ضيفنا” وفجأة وجدت القوة فى أعضائها وتسربت الطمانية فى روحها حتى حملت أبيها على كتفيها ثم ألقت جسده على الفراش فقدمت تلك الأشباح إلى ميت ومشت به إلى قبر المنطقة.
انتهت مرحلة التدفين ولكنها كانت متوترة بأنها لم تعثر على أفراد عائلتها ومازالت تدور إلى المستشفى حتى شفا الله أمها فرجعتا إلى البيت.
وما زال الكهرباء والشبكات مقطوعة.
ومضت الأيام فى التوتر وكانت تبحث عنهم فى كل حين.
هى وأمها جلستا فى الظلام فإذا رأتا أشباحا قادمين إليهما من بعيد فخافتا ولكن رأت شقيقها وشقيقتها فى لمحة أخرى وكان كلاهما سعيدة وعانقتهم، فهم كانوا جميعا مغطين بالغبار وملابسهم ممزقة فدخلوا البيت بالسلام والسؤال.
“أين أبونا؟”
“هو راح”
“إلى أين راح؟”
“إلى داره الأبد”
“ولكن كيف؟ كيف حدث هذا؟ لا نتيقن” سألوا معًا وصرخوا…..
قالت: “في يوم نزل الصاروخ ببيتنا”
رجعوا إلى بيتهم بالفرحة والسعادة ولو كانوا فى حالة سيئة ولكن انتقلوا إلى صدمة عنيفة.
وكان الصمت طويلا دون كلام إلا بكاء وصرخة.
فتسلّت بهم سعاد بآية “لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا……”
فقدروا على أنفسهم ووجدوا القوة.
ومرت الشهر على هذا الحال حتى عادت الكهرباء والإنترنت، وأعيد كل شيء وسط الأنقاض إلى وضعه الطبيعي، وانقشعت غيوم الخوف والظلام ولكن المنظر كان مهيبًا فى عينيها فى كل لمحة…..
غرقت في التفكير بدون كلام……