العبقري المفقود

في ظلال الحيرة حيث تهيم العقول، وبين أعمدة الكلمات التي تتشابك كخيوط عنكبوت عملاق، كان هناك رجل يدعى خضور الصغير. وبمأن اسمه لا يثير الفضول اتخذ لنفسه اسما حركيا يدعى خدروفيسكي، كما أطال شعر رأسه ولحيته وشاربيه مقلدا بعض الفلاسفة والكتاب في عصر النهضة

 إلا أن ذهنه كان عالماً مضطرباً، محكوماً بأفكار متشابكة وشعور دائم بأنه الكاتب الأعظم الذي لم يُنصفه الزمن.

كان خضور يقضي أيامه في مقهى صغير، تطفو على جدرانه بقع القهوة القديمة مثل آثار معارك فكرية عنيفة. هناك، يجلس خضور برفقة دفتره البالي، يُمسك قلمًا غليظًا كأنه يحمل سيفًا، ويبدأ بكتابة كلمات لا تنتمي إلى أي سياق معروف:

في البداية، كان السكون. لكن السكون لم يكن سكونًا، بل كانت هالة غريبة، كأنها صوت الصمت يصرخ في الفراغ. والفراغ لم يكن فراغًا، بل كان امتلاءً بالشعور باللاشيء.

يمسح خضور جبينه، يحدق في السطور، ويبتسم. يا له من عمق! يتمتم لنفسه. لن يفهمها العامة، بالطبع، ولكن النقاد سيدركون عبقريتي.

وفي محاولة لخلق شخصية رئيسية فريدة، أطلق عليها اسم “العاصفة المُضادة”، شخصية لا تعيش في العالم المادي بل في بُعد متداخل مع أبعاد الرمزية الغامضة. كتب عنها:

العاصفة المُضادة ليست رياحًا ولا عاصفة، بل هي فكرة. والفكرة ليست فكرةً، بل هي انعكاس للفراغ في مرآة التنافر.

ومع كل صفحة يكتبها، يشعر خضور بأنه يقترب من المجد الأدبي. كانت الرواية تمتلئ بجمل مثل:

الزمن مثل حذاء قديم؛ يضيق حين لا تحتاجه.

الشمس ليست شمسًا، بل هي قمر مُقنَّع بالخديعة.

اللون الأزرق هو صرخة الألم في قلب الطيف.

وحين ينتهي من فصل طويل مليء بهذه التأملات، يُسميه: “الفصل الأول: التشريح اللازمني للكينونة المتلاشية”. كانت الفصول تمتد بلا غاية واضحة، وكلما شعر بنقص في المحتوى، أضاف مشاهد عبثية:

“جلست العاصفة المُضادة على كرسي من الهواء، ترتشف كوبًا من الشاي المصنوع من الزمن المنصهر، وتحدثت إلى ظِلِّها الذي لم يكن ظلًا بل كان انعكاسًا لفكرة ظل.

وفي محاولة لجعل النص أكثر إثارة، أضاف مشهدًا آخر: “في منتصف الليل، حين تتشابك الأرواح فوق أسطح المباني الخاوية، سمعت العاصفة المُضادة صوتًا لا يمكن وصفه. لم يكن صوتًا، بل كان إحساسًا يتحدث من خلال صرخات الزمن المكسور.”

كلما عرض خضور مقاطع من روايته لأصدقائه في المقهى، كان يواجه بالصمت، وأحيانًا بتنهيدات عميقة. لكن خضور كان يفسر ذلك على أنه دليل على الدهشة والانبهار. كان يقول بفخر:

أعلم أن الأمر يتطلب وقتًا لفهم عبقريتي، فليس من السهل على العقول البسيطة أن تستوعب هذا المستوى من الإبداع.

وذات يوم، قرر إرسال مخطوطته إلى إحدى دور النشر الكبيرة. كتب رسالة ملؤها الثقة:

إلى السادة القائمين على الأدب العالمي،

أرفق لكم هنا روايتي التي ستغير مسار الأدب للأبد. أنا خضور الصغير، كاتب الزمن القادم. أرجو أن تُجهزوا أنفسكم لاستقبال العمل الذي سيصبح معيارًا للعبقرية.

بعد أسابيع، وصله الرد:

السيد خضور الصغير،

نشكرك على إرسال مخطوطتك. للأسف، لم نفهم مضمونها. نتمنى لك التوفيق في مشاريعك المستقبلية.

لم تُثنِ هذه الرسالة عزيمته. بل ابتسم ابتسامة عريضة وقال: هذا دليل آخر على أنني سابق لعصري. سيأتي اليوم الذي تُدرَّس فيه روايتي في الجامعات.

وهكذا، استمر خضور في الكتابة، مقتنعًا بأنه ينسج أدبًا خالدًا، بينما يتوه قراؤه (إن وُجدوا) بين الكلمات المتشابكة، غارقين في بحرٍ من الرموز الغامضة والأفكار التي تتناثر كأوراق خريفٍ لا تعرف اتجاه الرياح.

وفي لحظة تأمل غريبة، قرر أن يُضيف للرواية فصلًا جديدًا يحمل اسمًا أكثر غرابة: “الفصل الذي لا ينتهي: انعكاسات الضوء في مرآة الزمن المحطم”. في هذا الفصل، كتب: “حين تتلاقى الأبعاد، لا يبقى من الحقيقة إلا شظايا حلم مبعثر، والكون يصرخ في صمت أبدي، معلنًا عن ولادة فكرة لا يمكن لها أن تُفهم.”

كانت روايته تنمو مع كل يوم، مثل نهر لا يعرف إلى أين يسير، لكنه مستمر في الجريان. ومع كل صفحة جديدة، كان خضور يشعر بأنه يقترب من تحقيق خلوده الأدبي، حتى وإن لم يدرك أحد سواه هذا الخلود.

الامتحان

كنت أستعد من أجل هذه المادة كثيراً، كان دائماً في سابق الدفعات يبلغوننا بأن دكتور المادة يضع الامتحان بطريقه معقدة وصعبه جداً؛ وبعد مراجعاتي لكافة امتحانات الاعوام السابقة استطعت أن أفهم كيف يضع نماذج الامتحان، واستطعت المذاكرة جيداً، وبعد قلقي وطول سهري كانت أمي تجلس بجواري لتؤُنس وحدتي فی ليل صقيع وتشد أزري وتُحثني علی المداومة كلما تكاسلت وبدأت عيناي في التثاقل من أجل النعاس، كانت تأتي إلي بفنجان القهوة وتُحثني علی المذاكرة، وتخبرني أنني إذا تعبت سوف احصل نتيجة تعبي؛ أتممت المذاكرة علي أكمل وجه وأبلغتها أنني ذاهبة للخلود الي النوم بمقدار ساعه او أثنين كي ارتاح فلقد اصبحت الآن مستعدة للامتحان، وضعت قبلة علی يدها وقلت لها تصبحين علی خير يا امي ادعو لي كثيراً.

وفي صبيحة اليوم الثاني ذهبت بكامل نشاطي وحيويتي الي أداء الامتحان وكلي ثقه ويقين  بأنني سوف اتم الامتحان علي اكمل وجه وسأحقق اعلي الدراجات، ولكني حينما ذهبت الی لجنه الامتحان كانت تشبه غرفه واحده وكان بها مقعد واحد فقط، اندهشت لذلك ولكني جلست عليه وانتظرت لاري كيف سيؤدي باقي الطلاب الامتحان، لكن دون جدوي لم يأتي أحد وجلست بمفردي ظننت أن لكل طالب لجنة، وهذا كله من صميم تدابير دكتور المادة كي لا يستطيع باقي الطلاب معاونة بعضهم البعض، لكن الغريب في الامر دخل إلي اثنين من المراقبين هممت بأخراج أقلامي وما يلزم لأداء الامتحان، لكني تحيرت كثيراً فلم يعطوني ورقه للإجابة، ولم يعطوني ورقة للأسئلة علی الرغم من أن كان بين أيديهم ورقة وقلم، وفوجئت أنهم بدأوا بسؤالي فظننت أن الدكتور قام بتغير طريقه الامتحان وجعله شفوياً لذلك جعل كل طالب في لجنة، وحينما بدأوا بسؤالي لم أجد سؤالاً واحداً مما أعددت له كانت؛ الأسئلة غريبه لكنها مألوفة لدي لكني لم استطع الجواب بالشكل المنطقي، وتلا السؤال أسئلة غيرها ولم تكن اجاباتي منطقيه، ولكني سالتهم هل غير الدكتور المادة فهذا كله خارج عن كتاب المنهج الذي اعطاه لنا في بادا الترم؟ لكني لم احصل علي اجابة كانو يكفون بالنظر الي فقط ومعاودة سؤالي من جديد، وحينما انتهوا من الأسئلة خرجوا من اللجنة ولم اسمع لهم صوت، وبدأت في النحيب كثيراً لأنني علمت سلفاً أنني سوف أرسب في هذه المادة وانه ضاع سهر الليالي هباء وتعبها، اه يا اماه لو تعلمين كيف ضاع تعبي وتعبك وانتحبت كثيراً، ولم اشعر كيف مر الوقت وحينما استفقت واخرجت رأسي من بين يدي ومن علي قدمي وجدت المكان مظلم كثيراً حاولت النهوض لكن فجأة ضاق المكان بي ولم أستطع الوقوف إلا منحنية القامة؛ احاول فتح الباب لم يفتح أُخبط عليه مرات ومرات لم يفتح، يضطرب قلبي ويخفق كثيراً و أُنادي هل من أحد يسمعني، أين أنا أنقُذوُني المكان مظلم كثيراً وأنا خائفة، أخرجوني لكن دون جدوي وبعد محاولات ومحاولات؛ رأيت نوراً بسيطاً في يد شخص قادم طلبت منه النجدة وأعطائي ما في يده من النور، لكنه رفض وأفزعني كثيراً بحديثه؛ 

– قال لي لماذا لم تذاكرين جيداً

-أبلغته با أنفاس متقطعة لقد ذاكرت لكن دكتور المادة كان معقداً للغاية وفاجأني با امتحان اخر لم يكن داخل المنهج كان كله خارجه، – لكنه أخبرني لم اعني المواد الدراسية والشهادات العليا، – قطبت جبيني باستغراب وتسألت في نفسی إذاً علی ماذا يقصد المذاكرة!! 

-لماذا لم تكثرين ولو القليل من الوقت في كتاب داخل منزلك منذ نعومة أظافرك إلي حين أن كبرتي الآن؟ 

-تحيرت في سؤاله وتعصبت وسألته ماذا تقصد اسئلتك غريبه مثل هؤلاء المراقبين أجبني بصورة واضحه كي افهمك؟

-أخبرني لو كنت اسمح لنفسي بقليل من الوقت مع كتاب الله كان قد يكون لدي نور مثله وأنيس لداري في وحدتي؛

-فتحت فاهي علي اخره وعلت الصدمة ملامحي وسالته متلعثمة في سؤاله ماذا تقصد بحديثك هذا أين أنا ومن أنت ومن هؤلاء المراقبين؟ رحل وتركني في حيرتي وصدمتي، ناديت عليه أستحلفته بأن يتوقف لكن دون جدوي، رجعت حيث كُنت لكن هذه المرة رأيت  جسدي ممد الی الارض وروحي تجلس في زاوية متأكاة إلی الجدار مسندة راسي بين قدماي؛ أنظر حولي وأتسأل ؟؟ أين ذهب أفخم الاثاث وأرقي المفروشات والوسائد الناعمة، ظللت أبكي كثيراً وأردد لقد فات الأوان، ولم أدري كم مر علی من الوقت كم يوم أثنين، عشرة فلقد تشابهت الدقائق بالساعات والايام بالسنين والليل بالنهار، كُنت جل ما أعرفه من خلال دراستي الأولية في كلية الطب كم يوم مر علی من منظر جسدي المتعفن والرائحة النتنه الذي كان يصدرها؛ ومن بين بكائي وتحسري علي ما مضي من استهتاري بهذه المادة، ايقظتني امي بشدة أفيقي سوف يفوتك الامتحان وترسبي وسيضيع جل تعبك، شهقت  وأعتدلت في جلستي وأحتضنت أمي بشده وحمدت الله علي هذا التنبيه و أنه كان حلماً فلا يسعنی بأن أصفه كابوساً بلا أنه درس كان يجب أن أتعلمه  وانني بمقدوري تصحيح أمور حياتي قبل فوات الاوان حيث الندم لا يجدي نفعاً فصدقاً يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان.

 لعنة الكوخ المهجور  

في ليلة باردة من ليالي الشتاء، كان خالد يقود سيارته عبر طريق مهجور يمر وسط غابة كثيفة. كان الظلام يحيط به من كل جانب، والضباب الكثيف يجعل من الصعب رؤية الطريق أمامه. لم يكن من المفترض أن يسلك هذا الطريق، لكن اختصار المسافة كان مغريًا.

بينما كان يقود ببطء، لاحظ أضواء خافتة تنبعث من بين الأشجار على جانب الطريق. بدافع الفضول، أوقف سيارته ونزل لاستكشاف المصدر. سار بخطوات حذرة على الأرض الموحلة، حتى وصل إلى كوخ قديم بدا وكأنه مهجور منذ سنوات. كانت الأضواء تنبعث من نافذته الوحيدة، متراقصة كأنها لهب شموع.

دفع خالد الباب ببطء، وإذا به يُصدر صريرًا مرعبًا. داخل الكوخ، كانت الجدران مغطاة برسومات غريبة وأشكال لا يستطيع تفسيرها. على الطاولة الخشبية في المنتصف، كانت هناك شمعة كبيرة تذوب ببطء بجانب كتاب قديم يبدو وكأنه مخطوطة. عندما اقترب خالد من الكتاب، لاحظ أنه مكتوب بلغة لم يفهمها، لكن الصور التي تزين الصفحات كانت مرعبة: وجوه مشوهة، كائنات غريبة، وأحداث مروعة.

بينما كان يتفحص الكتاب، شعر بتيار هوائي بارد يمر بجانبه، وكأن شخصًا ما مر به. استدار بسرعة، لكنه لم يرَ أحدًا. فجأة، انطفأت الشمعة، وساد الظلام التام. حاول خالد إشعال ضوء هاتفه، لكنه لم يعمل. بدأ يسمع همسات خافتة تملأ الكوخ، أصوات غير مفهومة لكنها كانت تحمل نغمة تهديد واضحة.

أخذ الكتاب وحاول الخروج من الكوخ، لكن الباب الذي دخل منه اختفى، وكأن الجدران ابتلعته. أدرك خالد أنه محاصر. ازدادت الهمسات حدة، وبدأ يشعر وكأن هناك عيونًا تراقبه من الظلام. حاول أن يبقى هادئًا، لكن قلبه كان ينبض بجنون.

فجأة، ظهر أمامه رجل عجوز بملابس رثة ووجه شاحب، كأنه خرج من أعماق الزمن. قال العجوز بصوت منخفض لكنه واضح: “ما الذي أتى بك إلى هنا؟ هذا المكان ليس لك.”

تلعثم خالد في الكلام، ثم قال: “كنت فقط أستكشف، لم أقصد أي ضرر.”

ابتسم العجوز ابتسامة غريبة وقال: “أخذت ما لا يجب أن تأخذه. الآن أنت مرتبط بهذا المكان.”

اختفى الرجل فجأة، ووجد خالد نفسه يعود إلى الظلام وحده. بدأ يسمع أصواتًا أعلى، وبدأت الرسومات على الجدران تتحرك، وكأنها تحاول الخروج من سطحها. أدرك خالد أنه يجب أن يتخلص من الكتاب. ألقى به على الأرض، لكنه لم يتحرك. بدلاً من ذلك، بدأ الكتاب يفتح صفحاته تلقائيًا، وخرج منه دخان أسود كثيف شكَّل هيئة كائن ضخم له عيون حمراء مشتعلة.

صرخ خالد وحاول الهروب، لكن الكوخ كان يغلق عليه أكثر فأكثر. الكائن بدأ يتحدث بلغة غير مفهومة، لكن خالد شعر وكأنه يُطالَب بالبقاء.

في لحظة يأس، تذكر ولاعة كانت في جيبه. أشعلها وألقى بها على الكتاب. اندلعت النيران بسرعة غير طبيعية، وبدأ الكوخ كله يهتز. الأصوات اختفت تدريجيًا، والظلام بدأ يتبدد. أخيرًا، ظهر الباب مرة أخرى.

هرب خالد خارج الكوخ، وركض نحو سيارته بأسرع ما يمكن. عندما استدار ليلقي نظرة أخيرة، لم يجد الكوخ، وكأنه لم يكن موجودًا أبدًا.

عاد إلى سيارته وانطلق بعيدًا عن الغابة. لكنه منذ تلك الليلة، كان يشعر دائمًا وكأن هناك عينين تراقبانه من الظل، وأن الكوخ قد يظهر مجددًا يومًا ما لاسترداد ما أخذ منه.

الأمير الصياد


يحكى أن ملكا أحب صيادا فقيرا لطيبة قلبه فأخذه إلى قصره وطلب من الجميع أن يحيوه :”بالأمير الصياد” وأصبح كلما مر بجمع حيوه ومع مخالطتهم له أحبوه وأحبهم, وصاروا يسعدون به وأكثر عندما ينادونه الأمير الصياد ,أصبح الملك يغيب كثيرا ولا يجد وقتا للصياد فيتبادلان أطراف الحديث عن الصيد وشؤونه ولكن الملك لا يحب إزعاج الصياد بأمور الحروب والسياسة التي لا يفهمها ولايفقهها وبقية الحاشية يكتفون بتحيته أهلا بالأمير الصياد مرحبا الأمير الصياد بدأت سعادة الصياد تخفت مع الوقت واختفت حتى أصبح ينزعج ممن يناديه الأمير الصياد فيصرخ بهم ويهينهم ويلعنهم ويطردهم حتى من كانوا من أقرب الناس للملك حتى تجنبه الجميع وأصبح عبءا ثقيلا على الملك إذ بدأ يزعجه ويثقل عليه بتصرفات غريبة وانزعج من وجوده في القصر حتى سأل الصياد الملك ذات يوم:
الصياد:” أيها الملك لماذا أحضرتني هنا ولماذا جعلتني أميرا ولست من أهل الإمارة في شيء؟
الملك: “أحببتك و أردت أن أسر قلبك ،لأنك تحبني وكنت رفيقا طيبا وفياالصياد:” أنت أحضرتني لأجل هذا، لكنك لم تعد الرفيق لي وانشغلت عني.!”
الملك: “لا والله، إنما هي الحياة شغل وعمل ولست ممن ينكرون وفاء الطيبين”

الصياد:” أريد أن أذهب لكن دون أن تكرهني أو تنساني!”

الملك: أيها الأمير الصياد أنا لا أنسى قلبا أحببته لوجه الله”
الصياد: سنلتقي، إلا الجبال لا تلتقي.
الملك:” لكن أتمنى لو تبقى، فصحبتك عزيزة وغالية”
الصياد :”لا أريد أن تكرهني وتقول ليتني لم أعرفه”
الملك:” لكني لم أقل ذلك”
الصياد: “عندما غبت شكوت من تقصيرك للوزراء ولكثير من الحاشية وأبكاني فراقك الطويل وهذا سيوغر قلبك علي مهما عاد الود بيننا.”
الملك:” أيها الأمير الصياد عد إلى غابتك فأنت قد كنت ابنها وستبقى وسأذكرك ما حييت وربما سنعود كما كنا نعم الرفاق”

كيف أصبحت كاتبا؟

لقد ألهمتني حادثة عندما كنت طالبا في المدرسة الثانوية بكتابة قصص قصيرة.

أم عجوز أمية عانت الكثير من الصعوبات، باعت كل ممتلكاتها لتربية وتعليم ابنها بشكل مريح، وتفانت في خدمة الآخرين كخادمة في البيوت المجاورة. تحقق حلمها بأن يصبح ابنها موظفا، لكنه تركها ورحل بعيدا مع حبيبته التي تعرف عليها في مكان عمله. وظلت الأم العجوز الفقيرة الأمية تلجأ إلي لأكتب إلى ابنها رسائل طويلة لإثارة مشاعره.

لا يزال ذلك المشهد يتردد في ذهني، المشهد الذي رأيت تلك المرأة وهي تتسلق السلالم نحو شرفة بيتي أثناء قيامي بواجباتي المدرسية، وفي يدها ورقة صفراء متسخة وقلم اشترتها من المحلات القرطاسية القديمة. كانت تضعها على مكتبي ثم تجلس على الأرض أمامي، تحكي لي بصوت متقطع عن تضحياتها ومعاناتها من أجل ابنها، تمسح دموعها بطرف المنديل وتتخبط في أنفها وتتوسل قائلة: “يا ولدي، اكتب له واسأله إذا كان يتذكر، كيف رعيته وتربيته؟ أو يتذكر الذهب الذي كان معلقا في تميمة بحزامي وبعته لشراء صندوق الأدوات الرياضية له؟ والآن أصبح ينكر وجودي، يُعاملني ككلب مريض. اكتب كل هذا يا ولدي وأرسله ليثير ضميره. وقل له ألا ينسى ربه وأن يخشى اللعب معه.” ومع كل هذا، لم تكن لديها أدنى شيء من الكراهية نحو ابنها الذي كان يتصرف بجحود لا ينتهي.

تأثرت بشدة بحالة تلك المرأة العجوز، قصتها المؤثرة هزتني. واستمريت في كتابة وإرسال الرسائل إلى ذلك الابن العاق، وأضفت شيئا مني في الرسالة.

وبعد شهرين أو ثلاثة، بدأ بإرسال بعض الأموال إلى والدته دون أن تعرف زوجتها. لا أعرف إذا كان قد عاد إلى رشده أخيرًا أم أنه قد تأثر ببلاغة رسائلي. لقد طننت بفخر طفولتي أن الأمر الثاني هو الحقيقة. جاء ذلك الابن ذات مرة لرؤية والدته وسأل والدته من الذي كان يكتب له كل هذه الرسائل وأجابت الأم بأنها من إنشاء طالب في المدرسة. بلغ كبريائي قمته حينما سمعت هذا الخبر.

ولكن قبل أن تتمكن الأم من الاستمتاع بمساعدات ابنها لفترة طويلة، راحت بحثا عن السلام الأبدي. تلك الأم العجوز هي كانت معلمتي الأولى في كتابة القصة القصيرة. كانت قصصي القصيرة الأولى هي الرسائل التي كتبتها لابنها في تلك الأيام. لا أعرف إذا كنت قد تمكنت من كسب قلوب الآخرين بالقصص القصيرة. لكنني أفتخر بأنني نجحت في مواساة أم فقيرة كانت تعاني بصدر حزين وبطن جائع، وفي إثارة شعور شاب ضال في مسار الحب، من خلال تصوير قلب أم عجوز.

التقيت بهذا الابن العام الماضي في كالكوت. وكنا نعرف بعضنا البعض من طريق آخر. وعندما سألته عن رفاهية أسرته، قال: “لقد تركت زوجتي العام الماضي بسبب سوء السلوك، والأطفال معي.” نظر بحزن إلى البعيد وظل صامتًا لفترة، مستغرقًا ومغمورا في أفكاره. شعرت بأنه ربما يتذكر كلمات والدته بالندامة، وهو لا يدرك أن الشخص الذي يقف أمامه هو الطالب الذي استلهم كل شيء من قصص أمه ونقلها له بمزيج من الإضافات المثيرة.

شعرت بالتعاطف حينها، وبقيت أضحك في داخلي. وشعرت بالتعاطف عندما ذكرت قصص تلك الأم التي ماتت حزينة بسوء حظها. وضحكت عندما فكرت بأن هذا الأحمق قد استغرق سبعة عشر عامًا ليكتشف سلوك زوجته.

أيامنا الحلوة

وغادر الطبيب بعد أن أخبر هدى بالحقيقة، وقد مثلت تلك الحقيقة صدمة كبيرة لها، وطفقت تفكر في مآل مَن حولها والصلة التي تربطها بهم.

انهمرت الدموع من عينيها، هاتان العينان البريئتان الخضراوان اللتان ما نظرتا قط ما في أيادي غيرها من نعمة؛ بل كانتا تنظران فحسب إلى الأيادي الفارغة لتملأها من نعمة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

لكن اليوم قد لطخ المرض العينين بالشحوب والهرم، وغلت اليدان في جراح قلبها.

ووضعت كلتا يديها على وجهها، ذاك الوجه المستدير الرقيق ذو الأنف الصغير والشفاه الرقيقة يبسوا كالصحراء الجرداء، وذهب منه نضج الفتاة الشابة العذراء ليحل محلها شحوب المرأة العجوز الشمطاء.

وتحاول أن تبكي بشدة بيد أنها لا تستطيع لأن البكاء الشديد يسبب لها آلاما في قلبها الذي أجري له عملية جراحية خطيرة منذ نحو ساعتين.

وقالت لنفسها في حزن بالغ: البكاء راحة للنفوس بيد أنه صعب المنال بالنسبة لي، فما أنأى الضحك عني إذن، فقد التصقت الشفاه بجراح قلبي.

 وكانت تسعل، تحاول أن تمتص سعالها حتى تخرج رقيقة خفيفة حتى لا تضربها في جراح قلبها الذي لأمه الطبيب في العملية.

قالت في نفسها: لن أستطيع أن أنفق على نفسي لأن الحركة وحدها كفيلة بأن تودي بحياتي، كما أن الزواج فيه خطر على حياتي ولو بعد حين، إذن فما قيمة الحياة بعد ذلك! وفكرت في الخلاص من الحياة بيد أنها لم تعزم هذا الأمر بعد بصفة نهائية.

 ***

جاءها خبر بقدوم ثلاثتهم إليها، كان الطبيب المعالج نقلها إلى قسم الجراحة حجرة 3.

طلبت من الممرضة آنذاك بصوت منخفض يصاحبه سعال رقيق خفيف أن تزين حجرتها وتنظفها لاستقبالهم.

فنظفتها كلها، بيد أن الزهرية التي كانت على منضدة الزينة هوت وتكسرت، وليس هي فحسب، بل سقطت المرايا التي فوقها. فلملمت الممرضة الزهرية والمرايا وألقتها في سلة المهملات لحين إلقائها فيما بعد في التراب.

وكانت الممرضة تقول: لا أدري كيف حدث هذا؟ ولست أدري أيضا كيف ذبلت تلك الأزهار وقد كانت بالأمس ناضجة تلذ الأعين.

لم تنزعج هدى لما حدث، بل كانت تعتقد في قرار نفسها أن تلك المرايا وهذه الزهرية قد حان أجلهم.

وسعت الممرضة نحو النافذة لتفتح الستارة قليلا لدخول أشعة الشمس بالقدر الكافي وهي تقول: تلك الستارة على وشك التهتك والسقوط.

وولت قائلة: الكحكة في إيد اليتيم عجبة.

 ***

استقبلتهم هدى بوجه مبتسم، لم يشعروا حيالها بشيء من الانزعاج أو الخوف حيث كانت طبيعية لأقصى درجة.

نظرت إلى حبيبها أحمد نظرات إشفاق وهي أحوج من تكون لهذه الشفقة، لذلك حثته دون أن تعلمه بما قال به الطبيب لها بوجوب الارتباط ببنت خاله، متعللة بأنها مريضة وأنها بنت ملاجئ، وعلى النقيض، بنت خاله حسنة الخلق والخلقة وذات حسب ونسب فضلا عن ثرائها.

فاستنكر رأيها بشدة، وطلب منها أن لا يسمع منها هذا الكلام مجددا.

فأخذت تفكر في أمره إن هي ظلت على قيد الحياة، لم تنس أنه حاول أن يسرق من أجل أن يوفر لها ثمن العملية وقد لطف الله به، وأنه لن يتورع أن يفعل ذلك مجددا من أجل توفير العلاج والدواء لها لاحقا فضلا عن استحالة زواجه ببنت خاله.

فأدركت أنها حجر عثرة على درب سعادته.

حينئذ أطرقت في حزن بالغ قد ألجم مشاعرها وأخرس لسانها.

ثم ما لبثت أن نظرت إلى علي، سألته عن حاله وهي تسعل، فقال لها متصنعا السعادة بأنه ارتبط ب “خاطرها”

تلك الفتاة دميمة المظهر رديئة الخلق سيئة المعشر، هكذا أخبرها من قبل، كما أخبرها أن الزواج بها أشبه بالجحيم.

وهي تعلم أنه فعل ذلك من أجل أن يوفر لها ثمن العملية الجراحية التي أجرتها منذ نحو ساعتين.

كما تعلم أن بقاءها على قيد الحياة سيجعله يعيش في هذا الجحيم دائما، وإذا رحلت سيتحرر ويخرج من هذا الجحيم.

 فباتت حجر عثرة في حياة علي أيضا، ذاك الفتى الذي تعتبره أغلى من أخيها الذي لم تعلم به.

ثم نظرت إلى رمزي الذي انتفخ وجهه من كثرة اللكمات التي أصابته في المباراة التي أقيمت بينه وبين وحش الإسكندرية.

 كما أنه أصيب بقطع حاد في المنطقة التي بين حاجبه وأذنه اليمينين.

أما ذراعه فمكسور، وقد حُمل على شريط ملتف حول رقبته ومتدل أسفل ذراعه كقاعدة ارتكاز.

فرفعت يدها نحوه متسائلة عن تلك الإصابات التي ألمت به.

فلم يجبها وأمال رأسه إلى الأرض.

فتأكدت أنه لعب مباراة الملاكمة أمام بطل إسكندرية.

فكيلت له تلالا من الملامة معللة بأنه أشبه بالوحش وأنه لا يتواني أن يقتل خصمه تحت ذريعة المباراة.

 وأدركت أن رمزي لن يمانع في أن يخوض مباراة أخرى من أجل أن يوفر لها ثمن الدواء والعلاج اللاحقين.

فقهت الأمر وقالت له في ألم بالغ وهي تسعل: من أجلي طبعا، من أجل أن توفر لي ثمن العملية.

نحى وجهه عنها ولم ينبس بكلمة.

شعرت حينئذ كم هي عبء على كل من حولها.

أدركت هدى عن يقين تام أنها إن عاشت سوف تكون عبئا على المجتمع رغم أنه ضربها في ظهرها ألف ضربة منذ مولدها، حيث رماها هذا المجتمع في ملجأ وهي تصرخ من شدة الجوع والعطش والبرد.

لذلك عزمت على قرارها الذي فكرت فيه قبل دخولهم عليها.

 ***

فلما غادروا ظهرت عليها ملامح الألم والحزن بعد أن شاهدتهم وهم يلتفون حولها ويحيطون بها إحاطة الأم على أولادها.

وجسدت في مخيلتها المستقبل البائس لثلاثة من الشباب كلهم يحبونها إن بقيت على قيد الحياة.

لم يكن بجديد عليها ما سوف تفعله الآن فقد فعلتْ فعلا أشبه بذلك عندما كانت في الملجأ وهي في الخامسة عشر من عمرها؛ حيث كانت لها رفيقة في حجرتها أصابها حادث فنزف دمها إلى حد بلغها رائحة الموت.

ولم يجدوا فصيلة دم صديقتها إلا فيها، وبعد أن أجريت الفحوص عليها تبين أن التبرع بدمها فيه خطورة على حياتها هي أيضا ورغم ذلك وافقت أن تتبرع بدمها لها بكل إصرار وتحد.

وعندما دخلت الحجرة ورقدت على السرير لسحب الدم من يدها دخل عليها عم عامر الذي انتشلها من أمام المسجد عندما كانت حديثة الولادة.

أول ما رأته تذكرت قوله لها عندما سألته عن حالها يوم أن انتشلها.

قال: كنتِ يا ابنتي تصرخين، ولا أدري أكنتِ تصرخين من الجوع أم من البرد.

فأجابته: ربما كنت أصرخ من لعنة الزمن.

قال: كانت ليلة شديدة المطر، ولم يكن على جسدك شيئا.

نظرت إليه وهي مستلقية على ظهرها وقالت: ماذا تريد مني يا عم عامر؟

قال وهو يمسح دموع عينيه بأنامله: يا ابنتي، لا أوافقك على فعلك هذا، فقد علمت أن التبرع بالدم فيه خطورة على حياتك وأنت لم تري الدنيا بعد.

قالت: أريد أن أرد جميل القدر الذي جعلك سببا في انتشالي يا عم عامر، وها أنا ذا أفعل فعلك وأنقذ صديقتي من الموت.

قبلها في جبهتها ثم انصرف متأثرا بصفاء قلبها وعظمة وفائها.

 ***

حينئذ نهضت وقالت في نفسها: لابد أن أكون عند حسن ظن عم عامر.

نظرت بعد مغادرتهم في أركان الحجرة، وقد قررت أن تكون هي موضع نهايتها إلى الدار الآخرة، وقد حمدت الله أنها عرفت نهايتها وتأسفت على أنها لم تعرف بدايتها.

قررت أن تودعهم بطريقتها هي، وداع من طرف واحد، وداع المضحين بأنفسهم في سبيل راحة من حولهم.

تنفست أنفاس رماد متهالكة، من رئتين أرهقهما قلبها  المثقل بالمرض.

وضعت يدها اليسرى على قلبها حتى تتمكن من النهوض لتودعهم قبل أن يدركها الموت وحتى تتمكن من الوصول إلى النافذة.

تحاول النهوض شيئا فشيئا وفمها مفتوح لتتمكن من إخراج زفيرها المتهالك من صمامات قلبها الضيقة الجريحة، تحاول أن لا تحرك جسدها حتى تتحاشى الألم الناتج عن الحركة والذي قد يودي بحياتها قبل أن تودعهم فتموت حسرة وكمدا قبل أن تحقق هدفها المنشود.

انزاحت حتى وصلت طرف السرير، ورفعت الغطاء بيدها اليسرى من على قدميها، ثم وضعتها مرة أخرى على قلبها.

وقفت على قدميها بجسد مرتخ، واتكأت على المنضدة التي كانت عليها الزهرية، ومشت خطوتين أو ثلاثة حتى أدركت ستارة النافذة فأمسكتها بيدها اليمنى بينما لا زالت يدها اليسرى تمسك بقلبها حتى لا يتوقف عن النبض قبل إدراك لحظة وداع الأحبة.

ونظرت من النافذة، فوجدت علي ورمزي في المقدمة، بينما أحمد يمد خطواته كي يدركهما.

انهمرت دموع الوداع، وقد نسجت بين خيوطها التضحية في أسمى معانيها، نسجت اللحظة الأخيرة من حياتها.

فلما قرت عينيها، جاءها الموت رغما عنها وهي لم تشبع رغبتها بعد في النظر إليهم وهم يغادرون فناء المستشفى.

وتبين ذلك أنها كانت تمسك بستارة النافذة، كانت تحاول أن تسعفها الستارة في استمرار وقوفها لتملي عينيها من النظر إليهم.

لكن الستارة لم تتحمل وتهتكت في يدها لتسقط على الأرض وتودع الحياة، تودع الحياة التي جاءتها ملقية على الطرقات وهي وليدة، لتخرج منها شابة لم تذق من الحياة إلا مرارتها، ولتقدم رسالة من الرضا والتضحية والوفاء إلى المجتمع الذي خانها وغدر بها وفتح لها أبواب الجنة ثم ما لبث أن أغلقها في وجهها بكل قوة.

تحديّات الجيل الجديد

وصلت اليوم الى الكلّية مبكّرا في الصباح الباهر. والطقس ممزوجا من البرد والحرّفي موسم الربيع. تقع أبنية الكلّية شائقة عريقة حافلة بالتاريخ في وسط حديقة خلّابة. وبها أزهار متنوّعة الأشكال والألوان. وأشجارها عالية مع أثمار يانعة طازجة. وعلى أغصانها عصافير مغرّدة مختلفة الألحان الشجيّة. والطلّاب دائما يجري ويمرح في مروجها الخضراء تحت أشعّة الشمس الذهبيّة، مظاهر خلق الله تعالى البديع وقدرته. كنت جالسا في مكتبي الخاص في بهجة وسرور في هذه الحالة المنعشة في سكوت الصباح الباكر. ولم يدخل الطلاب والأساتذة الى رحاب الكلّية حتى الآن ولم أزل أكتب في وصف الكون ما جرى في خاطري من الالهامات والنزعات من جمال هذا الصباح حتى الساعة التاسعة.

وما ان اتنتقلت الى مهمّاتي والتقطت بضعة الأوراق المهمّة اذ جاء ني الناطور وأخبرني أنّ رجلا يستأذن لزيارتي فأذنته. دخل رجل  نحيل شاحب  في الخمسينيّات على ما ظننت. وكان ذاهلا واجما مرتبكا ويأدّي أقصى احترام لي. لم أتذكّره كيفما حاولت، وعصرت ذاكرتي ولم أنجح. حينما كنت في حيرة قليلة اذ أسرع اليّ الناطور لعوني وأخبرني أنّ هذا الرجل والد ذالك الطالب الذي يواجه إجراءات تأديبيّة منذ أسبوعين. ولمحت برقا خاطفا في خاطري عن الطالب الذي تمّ القبض عليه اثر سلوك غير صالح وسبّبت صراخا هتافا بين الطلّاب.

ومع الأسف، دهشت كيف يكون ابن هذا الرجل الضئيل الكئيب مشاركا في الحادثة التافهة التي انتهت في تعليقه. على كلّ حال طلبت من الناطور أن يحضر لي المحفوظات والشكاوى ضدّه. التمست من الرجل بيانا عن تصرّفات ابنه وموقفه تجاه العائلة والأقرباء. تردّد قليلا ولكن بعد اصراري بدأ أن يقول: ” أنا بائع في متجر صغير حيث أعمل صباح مساء وزوجتي تشتغل في بيوت الأغنياء طبّاخة. وهي تطهي الأطعمة وتغسل الصحون والأقمشة وتربّي الأطفال، ولكنّ المال في أيدينا لم يكن كافيا والمعيشة كانت باهظة التكلفة للغاية”. يكاد يبكي ويصرخ أنّ له أربعة أطفال، ابنان وابنتان وعلى عاتقه عبئ أسرة كبيرة، وحياته في شدّة. “ولم أكشف قطّ عن صعوباتي الى الأطفال حتى لا يضطربوا ولا يحزنوا. والزوجة أيضا كرهت أن يدرك الأطفال عن فقرهم وعدمهم. وهي دائما تذكّرني في تثقيف الأطفال في أقصى وسعهما. هكذا الولد الأكبر أتقن دراسته في الصفّ الثاني عشرة مع علامات عالية وامتياز. رغبت أن يدخل في بعض المتاجر كما أنا، بل الزوجة حالت دوننا وألحّتني في التحاقه بالكلّية. ولم أسترح بعد، طالت لي عمليّة حسابيّة عن تكليفات الكلّية والرسوم الجامعيّة. وأصبحت أبا لطالب جامعيّ وشاركت زوجتي هذه الأخبار السّارّة مع العائلات التي تزورها للخدمة. ووعدوا مالا ومساعدة لاكمال دراسته كما دعوا للتوفيق من الله.”

وهو الآن في رجاء وثقة في أنّي سأصفح لابنه على ما حدث. وينتظر من ثغري بما ينتظر الظمآن لشرب ماء. وكان الرجل يعتذر مرارا حتى يكون ذاهلا متعبا، وفي هذا الفراغ سألته عمّا يعرف عن حالة ابنه في الكلّية ومستوى علاماته في الامتحانات الفصليّة والجامعيّة وما هي انجازاته الدراسيّة وغير الدراسيّة. ولم يتكلّم قطّ ولم يكن لديه أيّ المام عن هذه الامور. منعتني الدموع المنحدرة عل خدّيه من الاسئلة. فات الوقت في هذا المأزق. وفي هذا الأثناء جاءني الموظّف وذكرّني عن النّدوة الوطنيّة مقرّرة، وأنّ المنظّمين ينتظرونني. لا بدّ لي أن أخرج، ونظرت الى الرجل في التعاطف والحنان وأخبرته عن حاجتي للخروج. مشيت الى قاعة الندوة والموظّف ورائي. سرعان ما فكّرت لم أتعهّد بعد لالقاء خطبة افتتاحيّة في الندوة. ولم أر بدّا الّا أن أتراكم بعض الملاحظات التي تحيط موضوع الندوة، بل الوقت ضيّق. وكان ذهني خال الوفاض كما كان قلبي مقلقا ومضايقا. دخلت القاعة ولفتت انتباهي لوحة ملوّنة مكتوبة عليها عنوان الندوة وهي: “تحديّات  الجيل الجديد”. جلست على المقعد المخصّص لي.

القاعة مملوئة بالطلّاب والطالبات وعلى المنصّة شخصيّات بارزة من مختلف مناحي الأكاديميّة. نظرت الى أعين الطّلّاب واحدا واحدا حتى شعرت مع أنّهم في شرخ الشّباب وهم في  انهيار آمالهم وفقدوا حماستهم وأصابهم اليأس والاحباط. كما شعرت، في الحقيقة،  أنّ لهم آمال وأمنيّات وحبّ استطلاع. وهم ينظرون الى البعيد في حدّ ذاتهم. وعائلتهم تنتظر أوبتهم في تقديم حمايتهم وعونهم الى حدّ كبير. والمجتمع أيضا يجبر عليهم نصيبا وافرا. وهم مشدودون ومقيّدون بعمرهم وجيلهم ويحاولون محاولة جادّة صادقة ليخرجوا أنفسهم من حبال المجتمع الفاسدة وشدائده. ألآن أحسست بعزاء وركّزت في ذهني بعض والملحوظات والأفكار عن موضوع الندوة.

حان وقت خطبة افتتاحيّة وبدت النقاط تظهر أمامي. بعد الحمد والصلا ة والتحيّة بادرت قولي في مدح الشّبّان والشّباب. وهم يخالطون فيما بينهم مع أنّهم ينتمون الى مختلف الأسر والخلفيّات الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. يتعلّم الطالب فنّ الحياة من البيئة أكثر ممّا يتعلّم من الدّروس. وحكيت لهم بعض الحوادث التي مضت في واقع حياتي في الأيّام الجامعيّة، وذكريّات تلك الأيّام الغابرة لا تمحوها الشهور والأعوام مهما طالت. ما أحلاها وأجملها. ولكن ذكّرتهم أنّ الذكريّات لم تكن دائما عذبة الّا اذا لم ينجح الانسان في تحقيق امنيّاته وقضاء مسؤوليّاته. والحياة الجامعيّة فرصة رائعة لإثبات الكثير من التميّز والابداع. وعلى الطالب الذي يعي مصلحته جيّدا أن يحرص على هذا التميّز بكلّ ما يملك من قوّة وبكلّ ما لديه من شبابه واندفاعه. وليست الدراسة الجامعيّة لقرائة النصوص واجتياز الامتحانات فحسب، وانّما هي لإعداد المستقبل والاستزادة من العلم والمعرفة والتجربة. وفي كلّ خطوة يسير الطالب ويدنو إلى مصيرته في حياته. وهودائما يصمّم حياته متأثّرا بحياة الآخرين وخبراتهم الواقعيّة ومعاناتهم الشخصيّة. الانطوائية لدى الشباب تعتبر ظاهرة اجتماعية معقدة تستدعي فهمًا عميقًا لعوامل متعددة تشمل النفسية والاجتماعية. وهم يواجهون تحديات فريدة تتطلب فهمًا دقيقًا ودعمًا فعّالًا. الانطوائية تتجلى عادة في تجنب المشاركة الاجتماعية والحلّ الوحيد لمعالجة هذه القضية، هو تعزيز الوعي الذاتي لدى الشباب والتشجيع على تطوير مهارات اجتماعية والتفاعل مع الآخرين بطرق إيجابية.

عالجت قضايا الشباب ومشكلات المجتمع وواقع الحياة الانسانيّة طوال خطبتي. واقتبست آراء العلماء والفقهاء وخواطرهم حول البشريّة والحياة. ضمن هذه الهتافات في الحياة  نحن في حاجة ماسّة لمتابعة أشخاص نثق بهم ليقودنا ويهدينا ويزكّينا في مواقف شتّى تهمّنا، والذين يقيمون بدوورهم القيادي في نموّنا وتطوّرنا. ولا أذكر تماما بقية ما قلت عن الموضوع.

وما ان أتممت كلامي حتى أسرعت الى مكتبي حيت ينتظر الرجل أوبتي. وهو يذرف دموعا قليلة يحاول إخفاءها. واعتذر لي عن ابنه عمّا حدث ووعدني بعدم تكراره. وكان واضحا أنّه نادم على ما جرى وخطف يديّ وقبّلها معتذرا. وهو متأثّرا بتفكير خاطئ أنّني الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ ولده من هذا المأزق، ولا يدري الاجراءات القانونيّة لإعادة قبول الطالب بعد تعليقه. ولم تكن عندي وسيلة لأواسيه واهمال  ايقاف ولده مباشرا. وعليّ أن أننتظر قرارا نهائيّا من قبل الهيئة الاداريّة الكلّية. اضطرب قلبي وتنهدر الدموع من عينيّ ومسحتها فورا بأكمامي لأن لا يشاهدها أحد.

بعد طول التفكير أذنت الرجل ليغادر المكان لعلّني أتحدّث الى الطالب. بعد مغادرته لاحت في خاطري فكرة بديعة وظهر في قلبي نور جديد ووقع في نفسي حلّا مثاليّا.طلبت من مأدّب الطالب أن يحضر أمامي مع الطالب مساء.