شجاع
جواد عامر
وحدها يده خرجت من بين الركام ، تبعد بما تبقى في الجسد الغض من قوة وأمل في الحياة ، يطل بعينين شقراوين إلى سماء حالكة تشبه أياما مظلمة قضاها في حيه منذ شهور لم يتوقف فيها القصف جوا وبرا عن هدم البنايات وسفك الدماء، قلب عينيه في الأرجاء فلم ير غير ركام من الإسمنت والحديد وأشياء متناثرة كانت فيما سبق أثاثا لأصحابها ، هي الآن أشياء بلا معنى كحال ” شجاع ” فتى في الثالثة عشرة كان نابغة في الرياضيات والفيزياء ، ظل يمني نفسه بخوض غمار المختبرات وإقامة التجارب العلمية ، لكن حلمه صار سرابا في بِيَدِ الخراب ، كحال كثيرين في عمر الزهور ذبلوا كما لو أتت عليهم ريح سموم لا تبقي ولا تذر إلا “شجاعا” فقد كتب له عمر جديد في هذا المكان من الحي ..، تمتد اليد الصغيرة من وسط الركام كبرعم يزحف بحثا عن قطرات أنداء على غصن رطيب ، ثم يخرج الجسد اليافع كنبتة انشقت عنها الأرض ،وطفق يمسح ببصره المكان ، هدوء رهيب يقطع الأنفاس ، أرهف السمع عله يلتقط إشارة من أحدهم وسط الركام ، لا شيء ثمة إلا دمدمة رياح في المساء كانت رطيبة ندية تبلل جسده البارد وتزيده إحساسا بالبرودة ، يرتجف الجسد الجائع والمنهك ،يسير بخطى وئيدة فوق الركام يبحث عن شيء يصلح للأكل وللشرب ،فكر في شرب بوله الذي أفرغه في علبة معدنية حملها معه ،لكنه قرر أن يجتهد في البحث قبل الإقدام على هذه التجربة ، الأوصال تتقطع جوعا والحلق جف من عطش ، تحامل على ساقيه في اتجاه مبنى لازالت بعض جدرانه واقفة بعدما نجت من قصف الدبابات والطائرات،دخل بهدوء إلى المكان وضع العلبة حيث البول في زاوية وأخذ يفتش هنا وهناك ، خابية في زاوية لاتزال واقفة كالصنم ، نظر إليها واستجمع قوة لم يدر من أين جاءت فهرول نحوها ، نظر بداخلها مليا ،تحسس بيده عمقها ، أحس برودة منداة ، لمس قاعها بأصابع يده اليمنى ، شيء كالماء تجمع في القاع ، صوت مواء بلغ مسمعه فارتعب قليلا ، أخرج يده من جوف الخابية في لمح البصر ، ونظر خلفه فإذا هو قط يموء بشدة ، كان نحيفا مغبرا لا شيء فيه ينطق بالحياة غير عينين تلتمعان في الظل وصوت آخذ في الاشتداد يعلن عن رغبة في الحياة ، توجه شجاع نحو القط وربت على رأسه وفروه فاستكان و تقدم نحو الخابية ، إنه عطش كصاحبه ،أمال شجاع الخابية وجعل يقطر ما في قعرها من ماء ، إنه لا يجاوز الكوب الواحد ، شرب منه ونظر للقط المتعلق به فترك له رشفات سرعان ما ولغها ، بل الحلق الذي توقف عن الكلام ليوم كامل تحت الركام ، كان يعرف أن الموت بسط أجنحته على كل الحي وأفراده ،الأم كانت لا تتوقف عن الدعاء على العدو والأب ماسك سبحته وسجادتهلا تفارقه ،مؤمن أن الموت قدر لا مفر منه، أخواه كانا يتابعان الأخبار من كثب وينتعشان بانتصار صغيرعلى الأعداء ويحزنان ويأسفان على كل دمار وموت، عرف شجاع من هدأة المكان أن رائحة الموت انتشرت في المكان ، أرهف سمعه عله يسمع أنين أحدهم ونظر في الأرجاء عله يظفر برؤية ناج من بين الركام، القط الصغير سيكون مؤنسه في هذه اللحظات ، لكن عليه أن يتخلص منه بعيدا فقد يلفت النظر من قبل الأعداء إلى وجود إنسان في المكان فيقتل برصاص المحتل، لكن رأفته بالقط الذي تعلق به منعته من تركه وحيدا ، صعد شجاع درجا يؤدي إلى الطابق العلوي للبناية ، تحسس الجدران مخافة أن تتهاوى كلها أو بعضها فتزيد من إصاباته بالجروح المتفرقة والخدوش التي لم يسلم منها، لم يعرها بالا لأن كل همه كان إيجاد ماء يطفئ ظمأه ويمنحه إكسيرالحياة وشيئا من طعام يسد به جوعه ريثما يبتعد عن الحطام إلى مكان قد يوحي بالأمان ، فلا شيء ثمة آمن والطائرات يملأ أزيزها الجو وهدير الدبابات والجرافات يرج الأرض من تحت الأقدام ..
يضع قدمه فوق قطعة متهاوية من الاسمنت فتهوي به داخل السقف فيعلق، يتأوه من شدة الألم والقط الصغير يرتفع صوته بالمواء وهو يمسح برأسه على صدر شجاع ، نظر إلى عيني القط وماء مواء شديدا كأنما يأمره باستجماع قوته وأسنانه تشد شجاعا، فحاول مرات ومرات حتى تمكن من إخراج ساقه من حفرة في السقف، تألم لدرجة البكاء فتحامل على ساق واحدة وهو يتبع مواء القط نحو غرفة في طرف منعزل ، رأى شيئا تغطى بقطع من الطوب في زاوية ، اقترب شجاع والقط من الركام ، مواء يتعالى يحث ” شجاع على الاقتراب وإزالة الركام ، اليدان تعملان بجد وتنحيان ما استطاعتا من الركام ، ثلاجة لاتزال سليمة ، تهلل شجاع ودعا الله لحظتها أن تكون بها مؤونة ، فتح الباب يكلتا يديه بحذرمتناسيا ألمه ، نظر إلى الداخل، قاررورات ماء، علبتا سردين، حمص مغطى بزيت زيتون ،ورق العنب وخبز مسطح وبعض القراقيش المالحة ، ” اللهم لك الحمد ياربي ” سجد لله شكرا وثناء، فتح علبة وناول القط الجائع بعضا من السمك وخبزا وشرب شجاع حتى ارتوى وسقى القط الصغير..
جن الليل في المكان ، وافترش ” شجاع ” الأرض وتكوم القط الصغير بجنبه يلتمس الدفء ، تأمل السماء قبالته، نجوم متلألئة يرسم من نقاطها أشكالا هندسية لم تغب عن فكره الكبير، الألم فظيع في ساقه والجروح على جسده اليافع تشعره بالألم ، يتحامل على نفسه في هدأة الليل وسكونه ويطلق العنان لذكريات الدار والمدرسة ، الأم تودعه عند خروجه للمدرسة ، تدعو له بالتوفيق والسداد وتعده بطبخ أكلته المفضلة ( المقلوبة ) لكن القصف حرمه لذة طعم القرنبيط والدجاج والبطاطس والأرز، مثلما حرمه لذة النظر إلى وجه أمه وسماع صوتها الشجي الذي لازال يرن في أذنه وحرمه صوت أبيه وهو يدندن بالتسابيح والاستغفار على الكنبة ، ولغط أخويه وهما يتصارعان حول شيء يدعي كل منهما ملكيته له لتتدخل الأم بحنان وتفرق بينهما بروية وحكمة يعلم الأب أنه لا حاجة له بالتدخل لأن الأمر لا يستدعي شدة أكبرفيكتفي بتدخل سريع كفعل الطوارئ: ” كريم ، عثمان كفا عن الصياح ” فيلزم الأخوان الصمت المطبق ، وتتحرك خرزات سبحته بخفه تتوازى مع تمتمات التسبيح والتكبير..، يغمض الجفنان بعد طول أرق، صوت مؤذن يصدح في مكان قريب يعلن عن صلاة الفجر، يهب شجاع كالمستفيق من غفوة ويهب معه القط ، يحمل قارورة ماء وكل الطعام في شيء يشبه الكيس ويتحامل على ساقه، ينزل بهدوء برفقة القط الصغير، تتبع مصدر الصوت ، إنه يعرف المكان، إنه قريب من المدرسة التي لم يبق منها غير ركام شاهد عليها عرفه من لون جدارها المخطوط بالأحمر،ساحة خالية هناك تجمع فيها عدد من وفود الرحمن لا تخيفهم رصاصات العدو ولا هدير محركات دباباتهم، القط ملازم لشجاع كالظل ، إنه صديق حقيقي لايمكن التخلي عنه، المقرئ يصدح صوته بقوله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } [ آل عمران 169] ، حاول كتم دموعه لكنها ما لثت أن انفجرت وصورة أفراد اسرته تتراءى له أمام عينينه الشقراوبن في موضع سجوده على التراب ، تعالت الأدعية بعيد الصلاة وتوجه الجمع زمرا نحو مكان خاص ، تقفى الفتى الخطى وعلى ظهره مؤونته وبجانبه قطه الصغير..
ملجأ من خيام اصطفت متجاورة تلحمها نفس المعاناة ، تحكي نفس الحكاية وتئن بدرجات تتفاوت من الأنين ، نسوة وصبية متكومون في زوايا من الخيام ، سطعت شمس الضحى ودبت حركة في المكان ، نساء يكسرن أعوادا جمعوها من ركامات أشياء خلفها الدمار، كل ما يصلح للاحتراق كقلوبهم المحروقة كوموه في مكان خاص ، يشعلن نارا ويطبخن للصغار ما يسد رمق الجوع ، الطبيخ هنا مرة أومرتان في أحسن الأحوال، ” شجاع ” يدخل واحدة من الخيام حيث يتكدس فتيان في مثل سنه ،على الأقل سيجد رفقة آدمية ، مكنه أحد الشبان من غطاء بسيط وأرشده إلى زاوية سيتخذها مضجعا، قطه الصغير ظل واقفا خارج الخيمة ينتظر آوامر صاحبه الذي لم يلبث أن نادى عليه فأقبل القط هرعا لكن أحدهم أمره بإخراج القط فلايمكن قبول حيوان أليف بينهم، كان يشير بعينيه وسبابته إلى القط الذي ارتاب في الأمروأحس كأن مدار الحديث حوله ..
لم يستسغ ” شجاع ” الأمر، ونظر إلى قطه نظرة أسف فماء مواء غريبا وانصرف من بين يديه إلى الخارج وانطلق يجري لا يلوي على شيء ، خرج شجاع من الخيمة وقد رمى بدثاره أرضا والحنق يملأ صدره ونسي أمر ساقه فما أن أراد أن يلحق بقطه حتى هوى كورقة خريف ذابلة ،الألم شديد يا شجاع ،أراد ان يتحامل على ساقه المضمدة للوقوف، يد قوية مفتولة تمسكه وتثنيه عن النهوض : ” اهدأ ، فأنت مصاب ، يجب أن نعالج جراحك ،وساقك قد تكون إصابتها بليغة “، أومأ شجاع إلى رجل وسيم المحيا تظهر عليه علامات البشر والصدق، أزال القماش عن الساق وكشفها وجعل يضغط بإبهامه وشجاع يتألم كلما ضغط موضعا من الساق فقال الرجل الذي بدا واثقا من صنيعه وهو يحاول أن يلهي الفتى : مااسمك أيها الفتى ؟ فأجاب :” شجاع ” فقال باسما: اسم على مسمى ، إصابة من هذا النوع يمكنها أن تعجز شابا أقوى منك وتمنعه الحراك لمسافة قصيرة ، إنك شجاع حقا ،يبدو أن ساقك تعرضت لضرريحتاج إلى علاج مستمروراحة، دعني أرى هذا الجرح ، أمم ..،إنه آخذ في التعفن يجب مداواته فورا..، قام الرجل إلى حقيبية ، فتحها وأخرج منها مرهما وأدوية وكحولا ، أفرغه على الجرح وغيره من الخدوش فصرخ شجاع من ألم الكحول الحارق فقال الرجل: اصبر قليلا يا شجاع ، فقد صبرت على ألم الجراح والخدوش وتورم الساق والمكوث بين الركام فهل سيؤلمك قليل من الكحول ؟ ، نظر شجاع إلى الرجل وأومأ إليه إيماءة مستسلم فتناسى الألم وجعل الرجل يعالج كل موضع في الجسد الغض، وضع مرهما على الورم وضمده بضمادة طبية ثم انصرف الرجل حاملا حقيبته فالتمس منه أحد الصبية حملها عنه قائلا : دعني أحمل عنك الحقيبة دكتور محمد ، ففطن “شجاع ” إلى أن الرجل طبيب يعالج المصابين وعليه أن يتجول بين الخيام ليتفقد أحوالهم ..
صبية متحلقون حول ” شجاع” لا يحركهم إحساس بالألم فهم ألفوا مثل هذه المشاهد وأكثر، كلهم فقدوا عائلاتهم ، هم فقط لحدود الساعة ناجون لا يفصلهم عن الموت غير أيام أو ساعات معدودات، منظر الأشلاء المتطايرة ، والدماء السائلة ، والأيادي والسيقان المبتورة معتاد في عقولهم ، لذلك لم يكن أمر ” شجاع ” يعني لهم شيئا مقابل فظاعة ما تعرض له كثيرون أمام أنظارهم، طفولة ذابلة ، شاحبة الملامح ، فقدت كل عنفوان الطفولة تعيش الهلع في كل لحظة من اللحظات ، دوي قنابل ، لعلعات رصاص ، أصوات قذائف ، صوت تحطم وانفجار، حرائق ، أدخنة ، أتربة ، موت أحمر في كل ناحية ، يجري الأطفال وسط كل هذا يلعبون لعبة الحجلة ، يرسمون حدودهم ، يقفزون ، يمرحون، يعبثون قليلا قبل أن يسمعوا دوي قنبلة ويشهدوا تطاير الرماد في السماء الزرقاء ، ستفقد جمالها بعد قليل ، ولن ينعموا بمتعة مطاردة الطيور وملاحقة الفراش ، فلاشيء ثمة غير موت ودمار يلوح في الأفق ، كان ” شجاع ” يمني النفس رفقة الصبية والفتيان بتوقف الحرب لينعموا بالحياة والهدوء ، يحلمون كأي طفل في العالم بحضن دافئ وسكون ناعم يأكلون فيه كسرات خبز أسمر من يد أم معطرة بالحناء والقرنفل ويشتمون عبق العود من أب عطوف ، ويشربون ماء من سقاية كعصفور يبلل من فرحة جناحيه بالقطر..
يموت الحلم سريعا ، أزيز دبابات وجرافات تهز الأرض هزا ، تقترب من المخيم ، القدور ترتج فوق النار، والنسوة يأخذن أطفالهن يخلون المكان إلى وجهة أخرى ، طفلة تحمل أخاها الأصغر في ظهرها ، شاب يحمل أخته بين يديه يخبئها في صدره ، يشتم عبقها أكثر فأكثر، رجل يدفع بالصبية إلى الخارج يأمرهم بالأنطلاق بعيدا عن صوت الدبابات القادمة ، فالقصف موشك على ابتلاع المكان ، شجاع طريح الفراش ، الكل خرج ، ساقه لا تقوى على الحراك ، مواء يدنو شيئا فشيئا ، قطه يرتمي في حضنه ، يتمسح به ويموء ، رجل في الخارج طويل القامة بش الوجه ، إنه الطبيب “الدكتور محمد ” لقد أحضر عربة لنقل “شجاع ” بنفسه إلى وجهة أبعد عن عبث العدو ..، خلا المخيم من الأحياء ، تمر الدبابات فوق الخيام المنصوبة فتجعله دكا، ينزل الجنود يبحثون عن وجود بشري يطلقون الرصاص استمتاعا وضحكاتهم تتعالى بما صنعوه من إجلاء وصاح أحدهم قائلا: لقد فروا كالجرذان لكننا سنواصل ملاحقة هؤلاء العرب الأوغاد..
قذيفة ” ياسين ” تصيب دبابة ، تشتعل النيران فيها يحترق الجندي ، يفر كل من معه رهبة من المشهد ، تتراقص النيران في الدبابة ويبقى الجرذ وحده مشتعلا.
مخيم آخر، دوي قذائف دبابات ولعلعات رصاص ، توقف الصبية عن اللعب ، نظروا إلى السماء، الأدخنة والرمادات تحجب زرقتها وتحيلها سوادا ، مواء غريب حزين ، القط يروح ويجيء ، يبحث عن صاحبه ، يشتم رائحته مخلوطة برائحة سمك العلبة ، رآه مكوما وسط الركام ، فقط يده اليمنى كانت تعلن عن رغبة في الحياة، غرق القط الصغير داخل الركام ونام في جانب صاحبه يموء مواءات يتردد صداها في عتمة الهدوء.