حياة الماعز: حوار بين البطل الحقيقي للقصة وبين الممثل في الفيلم

فيلم “حياة الماعز” أثار ضجة كبيرة في العالم العربي، حيث يتهم البعض بأنه يشوه صورة المملكة العربية السعودية، بينما يرى آخرون أنه لا يشوه أي شعب أو بلد، بل يؤدي مهامه السينمائية من خلال الجمع بين الواقعية والخيال السينمائي. وفي هذا السياق، نقوم هنا بنشر ترجمة لحوار دار بين نجيب، البطل الحقيقي للقصة، وبين الممثل الذي جسد شخصيته في الفيلم. هذا الحوار تم نشره على يوتيوب باللغة المليالامية مع ترجمة إنجليزية من قبل ويشوال رومانس.

– على ما أذكر، قد مثلت شخصيتين أو ثلاث شخصيات حقيقية في الأفلام، سواء كانوا على قيد الحياة أو متوفين. هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بشخصية مثلتها. كممثل، أعتبر هذه تجربة رائعة، وهذا هو شعوري.

– عام 1991 كان هو عام سفري للخارج. غادرت بسبب الوضع الصعب والفقر في بيتنا، ولتحسين وضعنا. عندما خرجت من المطار، جاءني رجل وأخذني بالسيارة، ولم أكن أعلم إلى أين سيأخذني.

– منذ حوالي أربعة عشر عاماً نحن وراء هذا المشروع، في عام 2008، عندما تحدث معي المخرج بليسي عن إخراج هذا الفيلم لأول مرة. أول فكرة خطرت في بالي كانت: كيف أتعامل مع الموضوع؟ هل آتي إليك وأتحدث معك لأفهم من هو نجيب؟ وكيف تكون شخصيته في الواقع؟ أم أفهم نجيب بطل الرواية الذي صوّره بنيامين؟ أم أفهم نجيب الذي في خيال المخرج بليسي؟ كنت متردداً. وأخيراً قررت أنا وبليسي أنني سأقوم بدور نجيب بناءً على فهمي للرواية وبعد سماعي لرؤية بليسي عنه. وهذا هو نجيب البطل الذي صورناه في الفيلم. الآن أود أن أعرف الفرق بين نجيب الذي تخيلته ونجيب الحقيقي. لا بد أن هناك فرقاً، لأننا شخصيتان مختلفتان. لم أعش الحياة التي عشتها، أنا فقط تخيلتها. فرق كبير لا بد أن يكون. أول سؤال أود طرحه هو: لم يكن لديك هاتف جوال في ذلك الوقت. هذا معروف. لكن هل كانت لديك ساعة في يدك عندما وصلت هناك؟

– نعم، كان لدي ساعة. بعد وصولي إلى المزرعة ورؤية الوضع فيها من وحشة وحالة، نسيت كل شيء.

– ما خطر في بالي عندما بدأنا تصوير الفيلم في الصحراء هو أن كل يوم كان مثل الآخر. كل يوم نستيقظ في الصحراء، وصباحه لا يختلف عن أي صباح آخر. وقت الظهيرة هو نفسه، لا يختلف عن الأمس. والمساء مثل مساء الأمس. هل كنت تحسب الأيام والأسابيع والشهور؟

– لا، لم أكن أحسب.

– طيب، كيف كنت تعرف مرور الوقت؟

– كنت أعرف من شروق الشمس وغروبها.

– كم يوماً استغرقت حتى جاءت فكرة الهروب إلى ذهنك؟ أم فكرت أنك ستبقى هناك إلى الأبد؟

– فكرت أنني لا أستطيع الهروب أبداً.

– هل كنت واعياً بأنك لا تستطيع الهروب؟

– نعم، كنت واعياً.

– كنت دائماً أدعو الله بكل ما أستطيع. وبعدها فكرت أن الموت أرحم من البقاء هناك. مرات كثيرة كنت أستلقي على الرمل حتى تلسعني أي كائنات سامة لأموت. لكن فجأة أقوم وأفكر في الوضع الحالي في بيتي وأوضاع عائلتي ووضع زوجتي التي كانت حاملًا في شهرها الثامن عندما غادرت المنزل.

– (تتدخل زوجته) راح الذي راح. لم تكن لدينا أي معلومات عنه، هل هو حي أم ميت؟ كنا ننتظره بفارغ الصبر أن يتصل بنا أو على الأقل يرسل لنا رسالة. لكن لم يصلنا أي خبر. حتى وصلت إلى مرحلة من التوتر.

– في أحد الأيام عندما استيقظت في الصباح، كان جسمي مغطى بالرمل تقريباً. هل رأيت رياح الصحراء؟

– نعم، رأيت. أنا متأكد تماماً أن ما ظهر في الفيلم والذي يشاهده الجمهور لن يوصل حتى 1٪ مما مررت به، ولا يمكننا إظهاره على الشاشة. أعتقد أن من استلقى على الرمل ليموت، يستيقظ ويقوم كل يوم من جديد. هل تعتقد أن الله أجلك لتقص على العالم هذه القصة؟

– نعم، أجلني الله لهذا. وبعد نشر الرواية، زرت أماكن كثيرة وتعرفت على العديد من الناس. عشت كل هذا أيضاً في وقت لاحق من حياتي.

– أفكر أحياناً أن الله ربما اختارك. ربما هناك الكثير من الناس الذين مروا بنفس القهر في الحياة. واختار الله واحداً منهم ليقص القصة، صحيح؟ إذا فكرنا. من وجهة نظر أخرى، أنت واحد من الأشخاص الذين اختارهم الله. ألم تفكر في الهروب وقتها؟ أم لم تحاول القيام بذلك؟

– نعم، فكرت. فكرت في الهروب بعد قتل الكفيل. وقتها كنت أفكر في الحياة بالسجن لو قتلته. وكنت أفكر في زوجتي التي كانت حاملاً في شهرها الثامن. هل ولدت أم لا؟ كلما أفكر في الموت، هذا ما يخطر في بالي.

– (تتدخل زوجته) بعد أيام، رأيته في المنام وهو يهرب، وشعره طويل منكوش وقذر. جاء إلي يطلب الماء، وعندما أحضرت له الماء، اختفى.

– نقسم مراحل هذا البطل إلى ثلاث مراحل بناءً على شعوره. الأولى، مرحلة ما بعد وصول نجيب هناك، وما جرى له من إحساس بالعجز من كل جهة، صحيح؟

– نعم.

– لا يعرف اللغة، ولا يعرف المكان، ولا يدري أين يذهب أو ماذا يفعل. ولا يفهم ما يقوله الناس. أول شيء شعر به هو العجز العميق. والثانية شعور بالغضب الشديد. حتى فكرت في قتله، صحيح؟ هذا شعور طبيعي لأي إنسان. غضب شديد. والثالثة شعورك كأنك أصبحت كواحد من الحيوانات. وعشت حياتك منذ تلك اللحظة على هذا الأساس. صحيح؟

– نعم.

– كأنك ستبقى هنا إلى الآخر؟

– نعم كأني سأبقى هنا.

– كواحد من الحيوانات؟

– نعم شعرت هكذا.

– كيف كنت تشعر عندما تمر بين الحيوانات؟ كنت أشعر أن هذا شيء مزعج جدا عندما صورنا الكثير من المشاهد مع الأغنام. عندما صورناها لأول مرة في 2019 شعرت بنوع من الاشمئزاز من رائحتها الكريهة. لكن أذكر أنه عندما تدربت عليها وعندما صورنا المشاهد في 2022 لم يكن هناك أي إحساس من الرائحة أو اشمئزاز أبداً لأنني تعودت عليها لشهور. هل أصبحت مثلها؟

– نعم، أصبحت، ما كنت أهتم برائحتها.

– هل كنت تتحدث معها كثيراً؟

– نعم. كان هناك ذكور وإناث، وكان هناك حوالي عشرة كبيرة الحجم بين المئات. عندما نقترب منها لإطعامها كانت تهاجمني وأسقط على الأرض. كانت فكرتي حينها أن الموت أفضل.

– ماذا كنت تفعل إذا أصبت بأي جروح أو مرض؟

– لم يكن لدي شيء أفعله حينها إلا سأموت.

– هل أصابك شيء خلال هذه الأيام؟

– لما كنت في بلدي، كلما وقعت في المطر يصيبني الحمى. لكن في تلك الأيام في الصحراء لم يصبني شيء حتى لو كنت في المطر أو الحر.

– ماذا نقول غير أنه تدخل إلهي، صحيح؟

– هكذا عشت. وهذه نعمة عظيمة.

– أمر عجيب، رجل يصاب بالحمى دائماً في موسم الأمطار حين كان في بلده ولم يصبه شيء في بيئة الأمطار ولا في الحر في الصحراء؟

– هذه قوة إلهية. هو الذي نجاني. لأن هذا المكان لا يمكن لأحد أن يصل إليه.

– هذا ما يسمونه اختيار إلهي، صحيح؟

– نعم.

– هل أنت مستاء من شيء؟

– لا.

– من أحد؟

– لا.

– لا يوجد أي شيء؟

– لكن ما زلت مستاء من الكفيل.

– هل أنت مستاء من شيء في أنك قضيت أياماً طويلة من حياتك هكذا؟

– بعد نشر الرواية، أصبحت أكثر سعادة.

– يعني ذهب الغضب؟

– نعم.

– لو كان بإمكانك العودة إلى ذلك المكان مرة أخرى، هل ستزوره؟

– لا، أبداً.

– مثل كابوس؟

– نعم. لن أزوره أبداً. ثم عندما ذهبت إلى البحرين، كان عملي جمع البلاستيك من المخلفات. وكان كأنني وصلت إلى الجنة.

– أنا أعرفه.

– مقارنة بما كنت عليه هناك.

– هل ترى تلك اللحظات في المنام؟

– بالتأكيد.

– الصحارى؟ هكذا؟

– بالتأكيد.

– تذكر كل شيء من الأغنام ورائحتها والطعام؟

– نعم. لا زلت أذكرها ولا أستطيع نسيانها.

– هل أخبرت أولادك؟

– فقط بعد نشر الرواية، تمكنوا من معرفة القصة كاملة.

– حتى عائلتك؟

– نعم.

– حتى زوجتك؟

– نعم. حينها عرفت القصة كاملة.

– (يتدخل ابنه) كنت طفلاً صغيراً وقتها وكان عمري اثنين فقط. لا أذكر ما حدث، ولكن بعد نشر الرواية، عرفت القصة كاملة. والدي لم يتحدث معنا عن هذا الموضوع أبداً. ربما لأنه لا يريد أن يحزننا. أنا بكيت عندما قرأت الرواية.

– هل عرفوا فيما بعد أن الأب هو شخص نادر؟

– نعم.

– أنا لم أكن أعرفك قبل أن أمثل دورك في الفيلم.

– نعم.

– مثلت نجيب الذي في مخيلتي. هناك فرق كبير بين نجيب الذي مثلته وبينك.

– نعم.

– لكن كانت أفكارك وأفكار نجيب هي نفسها.

مشاهدٌ من خيمة العزاء وصورٌ من بيت الشهيد

على مدى ثلاثة أيامٍ متواليةٍ قد انتهت، هي أيام العزاء المضنية للروح والجسد، التي نظمت في العاصمة القطرية الدوحة، للرجال في سرادق كبيرٍ قد نصب من أجله، وجهز لهذه المناسبة الحزينة الأليمة، وخصصت له مساحة كبيرة من الأرض، ضمن إجراءاتٍ أمنية خاصة، وأسباب حمايةٍ مشددة، ورعايةٍ قطريةٍ كريمةٍ، حيث أَمَّه آلاف المعزين من المواطنين القطريين والمقيمين، وآخرون قد جاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ، من الجوار القريب ومن كل أنحاء عالمنا العربي والإسلامي القصي والبعيد، قدموا العزاء بأنفسهم، ونيابةٍ عن أهلهم وشعوبهم، بعضهم مثل بلاده رسمياً، وهم سفراءٌ نحبهم ونجلهم، ونقدر عالياً مشاركتهم، وغيرهم وهم كثير مثلوا شعوبهم الصادقة، وقدموا العزاء باسم أهلهم الذين يحبون فلسطين وأهلها، ويعشقون أرضها وقدسها، ويتألمون لما أصابها ونزل بها، ويتمنون نصرتها والدفاع عنها، والقتال مع أهلها والشهادة على أرضها.

وفي مكانٍ غير بعيدٍ، في بيت الشهيد الذي سيبقى مفتوحاً، ولن تغلق أبوابه باستشهاد سيده ورحيل صاحبه، الذي بناه ورفع بالمقاومة عماده، وأعلى بالصدق والتواضع أسواره، وحمى بالرفق واللين أهله وأحبابه، وربى فيه على المقاومة وحب الشهادة أولاده وأحفاده، كان بيت عزاءٍ آخر مهيبٌ وكبيرٌ، خصص للنساء، اللاتي أقبلن فرادى وزرافاتٍ، فلسطينيات وعربياتٌ، وأخرياتٌ من كل الجنسيات، وأخرياتٌ لا يخفين حزنهن، ولا يقوين على حبس الدموع في عيونهن، التي ملأت المآقي وفجعت قلوبهن، فأظهرن من الحزن والألم ما أخفاه أزواجهن، وما تعالى عليه أبناؤهن.

إلا أن رفيقة دربه، زوجته وأم أولاده، أم العبد التي واكبته وعانت معه، وصبرت معه وما جزعت، وقدمت معه أبناءها وأحفادها وما وهنت، واحتسبت أجرهم عند الله عز وجلٍ، وبصمتٍ عليهم حزنت، وبعيداً عن العيون شوقاً إليهم بكت، استقبلت المعزيات برأسٍ عالٍ مرفوعٍ، ونفسٍ واثقةٍ غير مكلومةٍ، وكانت معهن كالطود الشامخ في مواجهة استشهاده، امرأة صابرةً محتسبة، حبست دمعها، ونهضت وكأنها ما كبت، وانتصبت أمام أبنائها والمعزيات تفخر بشهادة زوجها، التي أقبل عليها وكان يتهيأ لها من قبل معها، وقد قال لها مراراً تهيأي لملاقاة الله عز وجل، وصحبة رسوله الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أراني إلا شهيداً ها هنا، في هذا البيت وفي هذه البلاد.

وفي ركنٍ قصيٍ في سرادق العزاء، وغير بعيدٍ في بيت الشهيد، كنت أرقب ثلةً من الشبان المتقدين حماسةً وقوةً، المشرقة وجوههم، البهية هيئاتهم، المتلحفين بالصمت والمتوارين بأسفٍ، يبحث عنهم الجميع ويسألون، ويذهبون إليهم حيث يقفون ويصطفون، يصافحونهم ولهم يقدمون العزاء، ويقفون معهم بصمتٍ وخشوعٍ، وتقديرٍ واحترامٍ، عرفت أنهم مرافقو الشهيد ومساعدوه، وفريق عمله ومستشاروه، والعاملون في مكتبه والمتابعون لمهامه، وإخوة الشهيد وسيم أبو شعبان، الذي قضى مع الشهيد اصطفاءً، واختاره الله عز وجل من بينهم انتقاءً.

رأيت الحزن يسكن عيونهم، والأسى يطغى على وجوههم، وقد كساهم الألم والوجوم، والحسرة والهموم، فقد رحل والدهم، وغاب سيدهم، وفقدوا أخاهم، وسبقهم إلى جنان الخلد من رباهم، وشعروا بالخيمة التي ظللتهم سنين طويلة قد سقط عمادها، وانهارت فجأةً ساريتها، وهم الذين تعاهدوا على حمايته والتضحية بأرواحهم دونه، وقد رأوا صدقه وإخلاصه، وتفانيه وتجرده، ورحمته ورأفته، ولينه ورقته.

قد عرفوه صغاراً، ورافقوه منذ أن اشتد عودهم، وقرروا العمل معه وإلى جانبه، فأصبحوا مرافقين له طول عمرهم، ومضى عليهم أكثر من خمس عشر سنة وهم في صحبته، في غزة والدوحة، وفي كل مكانٍ يذهب إليه زائراً أو يقيم فيه عملاً، وقد اعتادوا العيش معه وبرفقته، يحرسونه بأرواحهم ويحمونه بمهجهم، ولا يغيبون عنه برهةً من زمانهم ولا ساعةً من أيامهم.

يخفون إليه قبل أن يدعوهم، ويلتفون حوله كأنه أبوهم، يحنو عليهم ويسأل عنهم، يتفقدهم ويزورهم، يهتم بشؤونهم ويعنى بحاجاتهم، يجلس معهم ويسامرهم، يصلي معهم ويؤمهم، ويسبقهم إلى موائدهم ويقدم الطعام لهم، يتفقد غائبهم، ويهتم لمريضهم، ويسأل عن حاجة كلٍ منهم، كأنهم أولاده، أو بعض أهله، وهم في جلهم من أهل بيته العزيز وسكان مخيمه الأصيل، مخيم الشاطئ الذي جمعه بهم وعرفه عليهم، واستبقاهم إلى جانبه منه، يذكرونه به، ويأنس لوجودهم معه، وكأنه ما زال معهم في مخيمه لم يفارقه، وبين أهله لم يغادرهم.

أما همامٌ وعبد السلام، فقد كانا على قدر المحنة والابتلاء، تصدرا المعزين، ووقفا ثابتين في استقبال المهنئين، وكانا قد صَبَّرا أهلهما والمحبين، واحتسبا عند الله عز وجل والدهما كأعظم شهيد، ووقفا في مواجهة التحديات والتصدي للاستحقاقات القادمة كأعظم ما يكون أبناء الشهداء، الذين لا يروعهم الخطب، ولا يخرجهم عن طورهم الجزع، ولا يقعدهم الفقد أو يضعف نفوسهم الرحيل، وقد أحسن عبد السلام خاتمة العزاء، فكانت كلمته شاملة، ومعانيها كاملة، ورسائلها كثيرة، وأبعادها استراتيجية، ورؤيتها بصيرة، وثقتها بالله عز وجل كبيرة.

قد كانا فخورين بأبيهما، سعداء بما تراه عيونهما، وهم يرون آلاف المعزين، وآلاف المتصلين، ويسمعون عن مئات ملايين المسلمين وقد صلوا في بلادهم صلاة الغائب على أبيهم، في سابقةٍ لم يشهد مثلها المسلمون من قبل، وكأن شهادته كانت نصراً، واغتياله كان فتحاً.

وفي الأقصى كان اسم أبيهم علماً، يرج الأرض ويرتفع إلى الجوزاء علواً، يغيظ العدو ويقهر الاحتلال، ولا يأبه بعقابهم ولا يخاف إجراءاتهم شيخ الأقصى وإمامه، الذي دعا له وصلى عليه، واستبشر بشهادته وتوعد قاتله بيومٍ فيه على جرائمه يندم، وتحل عليه اللعنة قريباً ويرحل.

رحمة الله عليك أبا العبد، نستودعك الله عز وجل وقد سلمت الأمانة كاملةً، ورحلت وما فرطت فيها ولا هنت، وحافظت عليها وما استسلمت، وحمل الراية من بعدك خلفك، القوي الأمين، الصادق الوعد المتين، وأخذ الكتاب بقوةٍ، ومضى على عهدك بثقةٍ ويقينٍ، فسلام الله عليك في الخالدين، وعلى رفيقك وسيم، وغفر لك ووفق من بعدك، وكان معهم وأيدهم، وأخذ بأيديهم ونصرهم وبه أعزهم.

قضايا الأدب المعاصر

عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه وينزع لباس البناء، وحينما يلقي بركانه حمم الكراهية لأسباب عدوانية لا علاقة لها بالمعرفة، والتهذيب، والأخلاق، والجمال. لقد تطور العالم في القرن التاسع عشر ونصف القرن العشرين بشكل لم يشهده في قرون مضت. تغيّر خلاله جوهر الثوابت والقيم الاجتماعية، وأخذ يتوسع ويتمدد، وبدأ للعيان ما نراه من تحوّل أدبي، إذ لم تكن مقولة “البقاء للأصلح” لتتناقض مع شبيهتها “البقاء للأقوى”.

المعرفة والتهذيب لبسا لباسًا يعكس ما تتركه جرّافات التقدم من واقع حال، قضى على الذاكرة المهترئة. الإدراك الساخط بات مما لا يدعو للريبة، حيث أصبحت المسلمات محددة، ثم يأتي عليها زمن لتصبح كلها أخطاء! بعيدًا تمامًا عن الحقائق، ضمن أفكار العدمية والعبثية. هذا يقودنا إلى التساؤل: ما قيمة الأدب؟ وهل تحوّلاته مع مسيرة الزمن تجعله في فترة ما يتطاول على الحقائق المكتسبة؟! وهل هو محتاج لتحديث دوري ليصير الإنسانية أداة لآلة الذكاء الصناعي، وصولًا إلى التزييف المضمر في ظاهره، مما يتم تزكيته من شخصيات لها باعها ومكانتها واسمها الأدبي؟

في وقت يحتفل فيه الذين استحوذوا على مقاليد تتويج الجدارة والبراعة الأدبية العليا بوجود الأدب وماهيته، وتنظيم وتوجيه حركية الأدب بكل مكوّناته من إبداع، ومتلقٍ، وتاريخ يضم مكتسبات جمّة في حقل الأدب الخضمّ. كل ذلك بغية خلق مناخ سليم يحفظ معتقداتنا الإيمانية، ويكفل دوام النبوغ المحقق، وكل ذلك في إطار واحد يعدّ ينبوعًا يضمن تماسك بنية الفرد، ومن ثم المجتمع، وصولًا للرقي الحضاري. وانطلاقًا من هذا الأساس، يكون البناء غاية عليا، والهدم ما هو إلاّ تمحيص وتنقيح كوسيلة لا أكثر.

إذ يقوم الأدب بتحقيق الفائدة والمتعة والتعبير عن النفس الإنسانية، ومن ثم التعبير عن المجتمع. الأدب لكل الناس، للصغار والكبار، للمثقفين وغير المثقفين، للأغنياء والفقراء، وللشعوب كافة. ولكن لكل فئة من الناس أدبها، فما يصلح للصغير قد لا يصلح للراشد، وما يستمتع به إنسان معين قد لا يلبي ذوق إنسان آخر، أو قد يتخطاه الإنسان نفسه في مرحلة أخرى من عمره.

إن الوظيفة الدائمة للأدب هي تلبية حاجة فطرية غير مكتسبة لدى الإنسان. وقد لاحظ هذه الملاحظة الروائي الروسي ليف تولستوي (1828-1910) عندما افتتح مدرسة لأطفال الفلاحين في قريته بأسنايا بوليانا، وأخذ يسرد على الأطفال الحكايات، فوجد أن الأطفال يشعرون بمتعة كبيرة. ففهم أن الأدب ليس وسيلة من وسائل التسلية التي تلجأ إليها الطبقات البرجوازية من أجل قتل الوقت، وإنما هو حاجة من حاجات الإنسان الفطرية، بدليل أن الطفل يستمتع بالأغنية والحكاية.

يتميز الأدب بالواقعية في تصوير الحياة اليومية والمعاناة الإنسانية، وتسليط الضوء على الظلم والفساد والاستغلال. إن المبدع الحديث لا يتورع عن استعمال الكلمات المتداولة التي كان الأدب يترفّع عنها فيما مضى، حريصًا على تخيُّر وانتقاء الألفاظ الشريفة، مع معرفة أسباب ارتقاء اللغة وانحطاطها، على اختلاف وتنوع هذه الأسباب؛ لتصبح هذه المعرفة وسيلة لسلوك سبل الارتقاء، واجتناب أسباب الانحطاط.

يقول الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب: “وقد كانت وظيفة الأدب، أو بالحري وظيفة الرائع منه، تصوير هذا الصراع القائم بين الشر وبين الإنسان، وما زالت تلك وظيفته حتى يومنا هذا.” وأود أن أبين ناحية مهمة هي أن الأديب لا يقف كالمتفرج.

القبيح، لغةً، هو كل ما ينفر منه الذوق السليم ويأباه العرف العام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ، فاصنع ما شئت”؛ رواه البخاري. هنا نستحضر معكم مقولة علي بن أبي طالب: “قُرِنَت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان.”

عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه، ذاتيًا، تكون الكلمة الدواء التي تؤثر في النفس، وتكون في نشأتها محملة بالدمار الذاتي، يرمي بها الكاتب إلى القراء، وقد تكون مفاعل شعوري خالداً سلبياً. هنا يكون انتحار جماعي لا يموت فيه الكاتب المتوّج (مؤقتًا) فحسب، بل يأخذ معه أناس كثر.

لا شيء يأتي من فراغ؛ فإذا توفرت كل الأسباب لانتشار رواية معينة، فذلك يعود لا محالة إلى عدم التحكم في الذوق الجماعي. إذ كما يعمل الأدب على تحقيق نموذج راقٍ لدى المجتمع أو يعكس المدى الذي وصل له، فإنه يؤدي للرذيلة والانحطاط كذلك. من هنا يصبح الذوق العام (المتلقي) خاضعاً قابلاً للتزعزع والانجراف، تابعاً لأشكال شتى، همه هو ضجة الجديد فقط حتى لو كانت على حساب ثوابته ومبادئه. وكل هذا يدل على مؤشرات غير صحية على حالة الأدب (شعر، رواية، قصة، مقال، مسرح، …إلخ).

بالرغم من المطالب السابقة، على الأقل بالمحافظة على المنجزات الكبيرة التي تعد لصالح أدبنا العربي على مر العصور، وبعد ظهور أعراض تحذر من ترهّل قوته وسلامته نظرًا لإهماله واحتقاره والانحياز نحو الذكاء الصناعي والتكنولوجيا وعالم الشهوات الزائلة والكنوز من الذهب والأموال، تحت عنوان كبير هو الزيف.

عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه ذاتيًا، وحينما يلقي بركانه حممه المكروهة لأسباب عدوانية لا علاقة لها بأطروحات الخير والحب والجمال.

في ظل غياب الاهتمام بالأديب على مستوى عالٍ من المؤسسات الرسمية ومنهج استشرافي يكفل بلوغ أهداف تنمية ثقافية حاضنة لمشاريع كبرى يبلغ بها المبدع أقصى مدى ممكن، كجائزة نوبل للآداب أو خلق جوائز مماثلة، أو جعل المواهب تظهر من خلال تسخير الظروف التي تنعش هؤلاء المبدعين وتبعث فيهم روح المساهمة والإبداع كغيرهم من المجالات الأخرى.

لم يلبث مشهد الإبداع الأدبي على واقعه حتى ظهر محمود سامي بن حسن حسين بن عبد الله البارودي المصري، رائد مدرسة الإحياء والبعث، كحل من الحلول رغم ما يعاب على مضمونها من غثاثة عامة. يمكن تصوّر حال الوهن الذي أصاب الأدب بسبب غياب مدرسة مجددة منذ سقوط بغداد سنة 1258 في أيدي التتار، الذين قضوا على الخلافة العباسية وخرّبوا بغداد وهدموا دور العلم، وألقوا بألوف المخطوطات التي تضم الثقافة العربية وتحوي تراثها في النهر هباءً. حتى ظهر روّاد جدد، أخذوا على عاتقهم المسؤولية على أساس النوعية، كالأديب محمود تيمور، الذي تأثر بالقصصي الفرنسي الشهير موباسان، ويظهر ذلك في واقعيته الصادقة، واتجاهه إلى الأحداث العادية والمشكلات اليومية، واهتمامه بالأناس البسطاء. كما نجد في قصص محمود تيمور الأولى تأثرًا كبيرًا بموباسان. كان كذلك على صلة بالمحاولات التي سبقته في الأدب المصري الحديث، وكان متأثرًا أيضًا بما كتبه المنفلوطي. يقول محمود تيمور: “لم تلبث ظلال هذه النزعة المحافظة أن انحسرت على أثر تتابع البعثات إلى ممالك أوروبا، وازدياد أسباب الاتصال بيننا وبين العالم المتحضِّر. وأخذنا نسمع نغمة تدعو إلى التجديد في اللغة والأدب العربي.”

الاهتمام بالأديب على مستوى عالٍ من المؤسسات الرسمية ومنهج استشرافي يكفل بلوغ أهداف تنمية ثقافية حاضنة لمشاريع كبرى، يمكن أن يبلغ بها المبدع أقصى مدى ممكن، كجائزة نوبل للآداب أو خلق جوائز مماثلة، أو إظهار المواهب من خلال تسخير الظروف التي تنعش هؤلاء المبدعين وتبعث فيهم روح المساهمة والإبداع كغيرهم من المجالات الأخرى.

يعاني الأدب العربي من انخفاض معدلات القراءة في العالم العربي، وهذا يؤثر على الإنتاج الأدبي ويقلل من قيمة الكتابة والكتاب. الضعف في دعم الثقافة والفنون لا يتم توفير الدعم الكافي للثقافة والفنون في العالم العربي، خاصة في توحيد رؤية عربية في الإشكاليات الأكاديمية التي تواجه موضوعنا.