قضايا الأدب المعاصر
عادل قاسم (بسكرة، الجزائر)
عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه وينزع لباس البناء، وحينما يلقي بركانه حمم الكراهية لأسباب عدوانية لا علاقة لها بالمعرفة، والتهذيب، والأخلاق، والجمال. لقد تطور العالم في القرن التاسع عشر ونصف القرن العشرين بشكل لم يشهده في قرون مضت. تغيّر خلاله جوهر الثوابت والقيم الاجتماعية، وأخذ يتوسع ويتمدد، وبدأ للعيان ما نراه من تحوّل أدبي، إذ لم تكن مقولة “البقاء للأصلح” لتتناقض مع شبيهتها “البقاء للأقوى”.
المعرفة والتهذيب لبسا لباسًا يعكس ما تتركه جرّافات التقدم من واقع حال، قضى على الذاكرة المهترئة. الإدراك الساخط بات مما لا يدعو للريبة، حيث أصبحت المسلمات محددة، ثم يأتي عليها زمن لتصبح كلها أخطاء! بعيدًا تمامًا عن الحقائق، ضمن أفكار العدمية والعبثية. هذا يقودنا إلى التساؤل: ما قيمة الأدب؟ وهل تحوّلاته مع مسيرة الزمن تجعله في فترة ما يتطاول على الحقائق المكتسبة؟! وهل هو محتاج لتحديث دوري ليصير الإنسانية أداة لآلة الذكاء الصناعي، وصولًا إلى التزييف المضمر في ظاهره، مما يتم تزكيته من شخصيات لها باعها ومكانتها واسمها الأدبي؟
في وقت يحتفل فيه الذين استحوذوا على مقاليد تتويج الجدارة والبراعة الأدبية العليا بوجود الأدب وماهيته، وتنظيم وتوجيه حركية الأدب بكل مكوّناته من إبداع، ومتلقٍ، وتاريخ يضم مكتسبات جمّة في حقل الأدب الخضمّ. كل ذلك بغية خلق مناخ سليم يحفظ معتقداتنا الإيمانية، ويكفل دوام النبوغ المحقق، وكل ذلك في إطار واحد يعدّ ينبوعًا يضمن تماسك بنية الفرد، ومن ثم المجتمع، وصولًا للرقي الحضاري. وانطلاقًا من هذا الأساس، يكون البناء غاية عليا، والهدم ما هو إلاّ تمحيص وتنقيح كوسيلة لا أكثر.
إذ يقوم الأدب بتحقيق الفائدة والمتعة والتعبير عن النفس الإنسانية، ومن ثم التعبير عن المجتمع. الأدب لكل الناس، للصغار والكبار، للمثقفين وغير المثقفين، للأغنياء والفقراء، وللشعوب كافة. ولكن لكل فئة من الناس أدبها، فما يصلح للصغير قد لا يصلح للراشد، وما يستمتع به إنسان معين قد لا يلبي ذوق إنسان آخر، أو قد يتخطاه الإنسان نفسه في مرحلة أخرى من عمره.
إن الوظيفة الدائمة للأدب هي تلبية حاجة فطرية غير مكتسبة لدى الإنسان. وقد لاحظ هذه الملاحظة الروائي الروسي ليف تولستوي (1828-1910) عندما افتتح مدرسة لأطفال الفلاحين في قريته بأسنايا بوليانا، وأخذ يسرد على الأطفال الحكايات، فوجد أن الأطفال يشعرون بمتعة كبيرة. ففهم أن الأدب ليس وسيلة من وسائل التسلية التي تلجأ إليها الطبقات البرجوازية من أجل قتل الوقت، وإنما هو حاجة من حاجات الإنسان الفطرية، بدليل أن الطفل يستمتع بالأغنية والحكاية.
يتميز الأدب بالواقعية في تصوير الحياة اليومية والمعاناة الإنسانية، وتسليط الضوء على الظلم والفساد والاستغلال. إن المبدع الحديث لا يتورع عن استعمال الكلمات المتداولة التي كان الأدب يترفّع عنها فيما مضى، حريصًا على تخيُّر وانتقاء الألفاظ الشريفة، مع معرفة أسباب ارتقاء اللغة وانحطاطها، على اختلاف وتنوع هذه الأسباب؛ لتصبح هذه المعرفة وسيلة لسلوك سبل الارتقاء، واجتناب أسباب الانحطاط.
يقول الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب: “وقد كانت وظيفة الأدب، أو بالحري وظيفة الرائع منه، تصوير هذا الصراع القائم بين الشر وبين الإنسان، وما زالت تلك وظيفته حتى يومنا هذا.” وأود أن أبين ناحية مهمة هي أن الأديب لا يقف كالمتفرج.
القبيح، لغةً، هو كل ما ينفر منه الذوق السليم ويأباه العرف العام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ، فاصنع ما شئت”؛ رواه البخاري. هنا نستحضر معكم مقولة علي بن أبي طالب: “قُرِنَت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان.”
عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه، ذاتيًا، تكون الكلمة الدواء التي تؤثر في النفس، وتكون في نشأتها محملة بالدمار الذاتي، يرمي بها الكاتب إلى القراء، وقد تكون مفاعل شعوري خالداً سلبياً. هنا يكون انتحار جماعي لا يموت فيه الكاتب المتوّج (مؤقتًا) فحسب، بل يأخذ معه أناس كثر.
لا شيء يأتي من فراغ؛ فإذا توفرت كل الأسباب لانتشار رواية معينة، فذلك يعود لا محالة إلى عدم التحكم في الذوق الجماعي. إذ كما يعمل الأدب على تحقيق نموذج راقٍ لدى المجتمع أو يعكس المدى الذي وصل له، فإنه يؤدي للرذيلة والانحطاط كذلك. من هنا يصبح الذوق العام (المتلقي) خاضعاً قابلاً للتزعزع والانجراف، تابعاً لأشكال شتى، همه هو ضجة الجديد فقط حتى لو كانت على حساب ثوابته ومبادئه. وكل هذا يدل على مؤشرات غير صحية على حالة الأدب (شعر، رواية، قصة، مقال، مسرح، …إلخ).
بالرغم من المطالب السابقة، على الأقل بالمحافظة على المنجزات الكبيرة التي تعد لصالح أدبنا العربي على مر العصور، وبعد ظهور أعراض تحذر من ترهّل قوته وسلامته نظرًا لإهماله واحتقاره والانحياز نحو الذكاء الصناعي والتكنولوجيا وعالم الشهوات الزائلة والكنوز من الذهب والأموال، تحت عنوان كبير هو الزيف.
عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه ذاتيًا، وحينما يلقي بركانه حممه المكروهة لأسباب عدوانية لا علاقة لها بأطروحات الخير والحب والجمال.
في ظل غياب الاهتمام بالأديب على مستوى عالٍ من المؤسسات الرسمية ومنهج استشرافي يكفل بلوغ أهداف تنمية ثقافية حاضنة لمشاريع كبرى يبلغ بها المبدع أقصى مدى ممكن، كجائزة نوبل للآداب أو خلق جوائز مماثلة، أو جعل المواهب تظهر من خلال تسخير الظروف التي تنعش هؤلاء المبدعين وتبعث فيهم روح المساهمة والإبداع كغيرهم من المجالات الأخرى.
لم يلبث مشهد الإبداع الأدبي على واقعه حتى ظهر محمود سامي بن حسن حسين بن عبد الله البارودي المصري، رائد مدرسة الإحياء والبعث، كحل من الحلول رغم ما يعاب على مضمونها من غثاثة عامة. يمكن تصوّر حال الوهن الذي أصاب الأدب بسبب غياب مدرسة مجددة منذ سقوط بغداد سنة 1258 في أيدي التتار، الذين قضوا على الخلافة العباسية وخرّبوا بغداد وهدموا دور العلم، وألقوا بألوف المخطوطات التي تضم الثقافة العربية وتحوي تراثها في النهر هباءً. حتى ظهر روّاد جدد، أخذوا على عاتقهم المسؤولية على أساس النوعية، كالأديب محمود تيمور، الذي تأثر بالقصصي الفرنسي الشهير موباسان، ويظهر ذلك في واقعيته الصادقة، واتجاهه إلى الأحداث العادية والمشكلات اليومية، واهتمامه بالأناس البسطاء. كما نجد في قصص محمود تيمور الأولى تأثرًا كبيرًا بموباسان. كان كذلك على صلة بالمحاولات التي سبقته في الأدب المصري الحديث، وكان متأثرًا أيضًا بما كتبه المنفلوطي. يقول محمود تيمور: “لم تلبث ظلال هذه النزعة المحافظة أن انحسرت على أثر تتابع البعثات إلى ممالك أوروبا، وازدياد أسباب الاتصال بيننا وبين العالم المتحضِّر. وأخذنا نسمع نغمة تدعو إلى التجديد في اللغة والأدب العربي.”
الاهتمام بالأديب على مستوى عالٍ من المؤسسات الرسمية ومنهج استشرافي يكفل بلوغ أهداف تنمية ثقافية حاضنة لمشاريع كبرى، يمكن أن يبلغ بها المبدع أقصى مدى ممكن، كجائزة نوبل للآداب أو خلق جوائز مماثلة، أو إظهار المواهب من خلال تسخير الظروف التي تنعش هؤلاء المبدعين وتبعث فيهم روح المساهمة والإبداع كغيرهم من المجالات الأخرى.
يعاني الأدب العربي من انخفاض معدلات القراءة في العالم العربي، وهذا يؤثر على الإنتاج الأدبي ويقلل من قيمة الكتابة والكتاب. الضعف في دعم الثقافة والفنون لا يتم توفير الدعم الكافي للثقافة والفنون في العالم العربي، خاصة في توحيد رؤية عربية في الإشكاليات الأكاديمية التي تواجه موضوعنا.