مقال:

إذا سألني اليوم سائل، كيف صمتِ ذاك الرمضان؟ وكيف كنت تمسكين عن الطعام والشراب يوما كاملاً وتفطرين على خبز الذرة وعلبة صغيرة من الصلصة (رب البندورة) أو الكاتشب وسلطة القريس أو الخبيزة؟ سأقول لا اعرف بالتأكيد!!!
كيف صمت في ظل كل ذلك الوهن الشديد؟ وكيف تابعت صيامي كما الآلاف في شمال غزة مع اشتداد المجاعة وأصوات القذائف وزمجرة الطائرات الحربية المرعبة؟
يمكن أن تكون الإجابة واحدة لا محيص عنها؛ إنه الله هو من أعاننا على الصيام فبث القوة في أجسادنا المنهكة وقلوبنا الخائفة وأي تفسير آخر لما حدث سيكون غير منطقي وغير مقبول في الحقيقة.
رمضان الطوفان كان تجربة فريدة لا يمكن للمرء إلا أن يحياها مرة واحدة في العمر. جاء رمضان وكنا نخشى أن لا نستطيع صيامه وقيامه فلم ندري والله كيف صمناه وقمناه وأحببناه وذرفنا مدامع سخية عند فراقة. كان الطعام شحيح جدا ويكاد يكون معدوماً! كنا نتسحر على الزعتر والخبز اليابس أو لا نتسحر ونكتفي بالشاي والخبز اليابس إن وجد ونفطر على أقراص الخبيزة وهي نبتة برية تنمو في فصل الشتاء في غزة أو العدس إن حالفنا الحظ ووجدنا وكانت أدسم أكلة يمكن أن نحظى بها هي طبق المشروم (الفطر المعلب) ليكون يوم إعداد المشروم يوم عيد عند الصائمين !
كان العالم يحتفل برمضان الخير على أصوات الحصري وعبد الباسط وتواشيح النقشبندي ونحن يتخطفنا الموت والجوع والخوف! وتلك المرات الكثيرة التي داهمنا القصف وتناوشتنا الشظايا لنفر هاربين تاركين وراءنا مائدتنا الرمضانية الخحلة، ما أكثرها ،فهي لا تعد. أما أصوات المدافع التي تنطلق مع كل موعد سحور فكانت تذيب قلوبنا الواهنة وتقلق صباحتنا الرمضانية كلها.
غزة تعبت وكان رمضان الطوفان محنة كبيرة مررنا بها نحن أهل شمال غزة، لكننا كنا نجاهد ونقف على ثغر من ثغور الإسلام .
حاول الإحتلال إجبارنا على الخروج من شمال غزة بشتى الوسائل، فلم يعدم وسيلة للقتل والترهيب والتجويع إلا اقترفها فما زادنا إرهابه إلا تمسكاً بأرضنا وتجذراً بشمالنا العزيز.
كنت وحيدة في رمضان وكذلك في الحرب مع طفلتين صغيرتين سلمى التي لم تتعدى السابعة وليلى التي لم تتعدى الرابعة بعد أن ذهب أبوها مكرها إلى الجنوب ليؤدي عمله كصحفي، فكنت أحتضن طفلتي بكل ما أملك من قوة على ضعفي ووهني لكن الله ساعدني وثبتني كما ثبت أهل غزة وأعانهم، وها نحن الآن على أبواب رمضان وقد هزمنا أقوى دولة في العالم بأجسادنا الضعيفة وقلوبنا التي عمرها الإيمان.
وها نحن على أعتاب رمضان ولازالت غزة تغوص في غيابات الحزن والفقد والحصار، فلا أطفالنا ينعمون بالأمن ولا بالحياة الكريمة ولا نحن نستطيع أن نوفر لهم أدنى متطلبات الحياة الكريمة التي يستحقها طفل في الدنيا.
والد طفلتاي عاد من الجنوب لكنه عاجز تماماً، وأنا مثله عاجزة ونحن ننظر لسنوات أعمار طفلتينا تذهبان دون أن يكترث لها أحد. الحياة في غزة اليوم جحيم حقيقي في ظل انعدام مقوماتها بعد أن دمرها الاحتلال تدميرا شاملاً ليجبر أهلها على تركها والذهاب إلى حيث لا وطن ولا كرامة ولا مستقبل.