رؤية واهنة

على ضفّة النهر، في ظلّ أشجار الجوز والصفصاف، جلس ابنُ فلاحٍ يتأمّل الماء الجاري بهدوءٍ وسكينة، حيثُ تتحدّث الطبيعة بصمتها، الأغصانُ تتعانق، الأزهارُ تتمايل، والطيورُ تتغنّى. كلّ شيءٍ هناك ينادي بقيمة الحياة، يبشّر بالروح.
عاد من المدرسة ذات مساء، فدخل بيته فلم يجد فيه أحدًا. لم يرَ سوى بابٍ موصد، وسكونٍ عميق. خرج متسائلًا، فصادف جارَه، فسأله، فأجابه بكلمة واحدة اختزلت كل شيء: “زواج”. سادَه شعور بالوحدة والضياع، فبدأ يركض، كأنّ الأرضَ تجذبه أو يفرّ منها، حتى أوصلته خطاه إلى طرف المدينة، ثم إلى الغابة.
ركض عبر الجسور والساحات، جاب جبالًا جرداء، وسلك طرقًا لا يعرفها، إلى أن وصل غابةً موحشة، يسمع فيها زئير الأسد فيختلجه الرعب، وتغريد الطيور فيسلّيه شيء من الأمان.
ركض بسرعة دون أن يلتفت، حتى رأى من بعيد دخانًا يرتفع. اقترب ليستطلع، فإذا هو بتنّورٍ نارٍ يلتفّ حوله أربعة رجال يشربون الخمر. انضمّ إليهم حتى لا يشعروا بغربته، وشاربهم حتى ترنّح معهم سُكرًا، وسلكوا جميعًا طريقًا ملتفًّا تتدلّى الأشجار من جانبيه.
ثم وصلوا إلى أجمةٍ كثيفةٍ مظلمة، تختلف عن باقي الغابة، فدخلوا إليها واحدًا تلو الآخر، ثم خرجوا وثيابهم بأيديهم، ووجوههم غريبة الملامح.
اقترب خفية، فإذا بصوت امرأة يهمس بألم، خافتًا متقطعًا، يشبه الأنين. شعَر في أعماقه أنها أمّه، فتمتم في نفسه:
“ليت هذه الأجمة الحالكة… هالكة.”
وفجأة… نبح الكلب:
“واه… واه…”
فاستيقظ من نومه مفزوعًا.
كانت شياه تمرّ أمامه، وصوتُ نباحٍ في أذنه، وذكرياتٌ غامضةٌ تتلاشى.
فتح عينيه، فإذا هو في بيته… وأمّه أمامه، تقدّم له كوب ماء.
………….