✍ عبد الرحمن بن حبيب
الساعي وراء الحقيقة والباحث عن الله: سلمان الفارسي سلمان الخير
……………………..
قرأنا في القصص وسمعنا من التاريخ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شخصياتهم البارزة الشريفة، وتفانيهم العميق في إدراك الإسلام وحفظه طوال حياتهم، وعن شدة حرصهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّته، حتى أبكتنا قصصهم ولامست قلوبنا. فقد أدرك الصحابة وواجهوا شدائد وعنفًا شديدًا في سبيل دعوة الإسلام، من اليهود والنصارى، بل ومن كفار مكة والمشركين، مرارًا وتكرارًا. ولكن ما وجدته غريبًا خلال قراءتي في هذه الأيام هو قصة إسلامِ صحابيٍّ تذوّق قبلها من ينابيع المجوسية والنصرانية واليهودية، فلم يجد فيها طَعمًا يُقنع قلبه، ولم يطمئن لها، حتى بعد تحقيقٍ وبحثٍ دام عقودًا، أدرك الحقيقة واعتنقها. إنه سلمان الفارسي، الساعي وراء الحقيقة، والباحث عن دين الله الإسلام. ومن الجدير أن نَصِفَ حياته الشريفة بأنها انعكاسٌ للآية القرآنية: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، حيث زهد في كل ما يملكه من أموال وثروات في سبيل إدراك دين الله الإسلام. وكانت معظم حياته رحلةً وسفرًا في طلب الحق، حتى وفقه الله فاهتدى إلى الإسلام واعتنقه مباشرة من حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه المقالة يحاول الكاتب لتسليط الضوء على شخصية سلمان الفارسي قبل اعتناقه الإسلام وبعده بطريق سهل يسير.
سلمان الفارسي: نبذة من حياته قبل الإسلام
سلمان الفارسي، المُكنّى بأبي عبد الله، ويُعرف أيضاً بسلمان الخير وسلمان بن الإسلام، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان مجوسياً، سادن النار، وعابد الشمس قبل اعتناقه الإسلام. وكان اسمه مابه بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك، من وَلَدِ أب الملك. وقد وُلد في “جي”، وفي رواية “جيان”، وهي مدينة أصبهان بوسط إيران، التي تقع بين مدينة طهران ومدينة شيراز. وفي عنفوان شبابه عاش عيشة الفخر والبذخ، لأن أباه كان دهقان أرضه، وأغنى القوم مالاً، وأعظمهم شرفاً. وكان سلمان قرة عين أبيه، ولذلك كان أكثر أوقاته في بيته كمحبوس، لأن أباه خاف فقدانه وبُعده منهوكان لأبيه ضيعة ذات ثمار غزيرة، فقد اعتاد أن يذهب إليها ويأتي بالثمار عندما تثمر، ولكن في يوم ما كان أبوه مشغولاً، لذلك طلب من سلمان أن يذهب إلى الضيعة ويأتي بالثمار. هنا أُتيحت لسلمان فرصة للخروج خارج البيت لأول مرة، وهنا تبدأ رحلته في طلب الحق والحقيقة. فخرج يريد ضيعته، وفي منتصف الطريق، مرّ بكنيسة من كنائس النصارى، فسمع أصواتهم فيها وهم يصلون، وكان لا يدري عمّا حوله بشيء لحبسه في بيته. فلما مرّ بهم وسمع أصواتهم، دخل سلمان عليهم ينظر ما يصنعون، فلما رآهم أعجبته صلاتهم، ورغب في أمرهم، وظنّه خيرًا من الدين الذي هو عليه. ودخل معهم يبحث عن أمور دينهم حتى غربت الشمس، وبشغله هذا نسي ضيعة أبيه، ولم يأتها حتى الآن. وقبل مغادرته من هناك، سألهم عن أصل هذا الدين لشدة شوقه به، فعرفوه أنه بالشام. ثم رجع إلى أبيه، وقد كان بعث رسولاً في طلبه، وعند وصوله إلى البيت أخبر سلمان أباه ما رأى وما فعل في النهار في الكنيسة، فخاف أبوه على دينه، فجعل في رجله قيدًا لئلا يخرج مرة أخرى. ولكن كان سلمان قد اعتزم قبول دين النصارى وترك دينه، حتى كتب إلى الكنيسة أن تُعلِمه بقدوم ركب من الشام إذا قدموا. حتى بعد أيام، قدم ركب من الشام للتجارة، فقطع سلمان من حبسه، وخرج مع الركب إلى الشام حتى وصل، فطلب منهم أفضل أهل هذا الدين، فعرفوا سلمان بأسقف في الكنيسة، فأتاه وصحبه بإذنه. فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزها لنفسه ولم يُعطِها المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورِق (فضة). وقد غضب سلمان غضبًا شديدًا لما رآه يصنع، لأنه لم يرجُه أن يفعل كذلك. ومضت الأيام حتى مات الأسقف حتف أنفه، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فأخبرهم سلمان ما فعل بهم هذا الأسقف من سوء، ودلهم على الكنوز التي اكتنزها. ولم يصبر أهل النصارى على عمل الأسقف، فصلبوه، ثم رجموه، حتى بعد تيقّنهم من موته، ثم عيّنوا مكانه شخصًا آخر.
فصاحب سلمان الأسقف الجديد، وأقام عنده زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقال له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حبًا لم أحبّه أحدًا من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟ فقال: أي بُني! والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدّلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالموصل (مدينة قديمة على نهر دجلة بالعراق)، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالْحَقْ به. فلما مات وغُيّب، لحق سلمان بصاحب الموصل، فقال له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فأذن له بالإقامة عنده، فوجده خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات. فلما حضرته الوفاة، قال له مثل ما قال للأول، فسأله: إلى من يوصي به؟ وما يأمره؟ فقال: أي بُني! والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه، إلا رجلًا بنصيبين (على طريق القوافل من الموصل إلى الشام، سفر ثلاثة أيام)، وهو فلان، فالحق به. فلما مات وغُيّب، لحق سلمان بصاحب نصيبين، فجاءه فأخبره بخبره وما أمره به صاحبه، فأذن الأسقف له بالإقامة، فوجده على أمر صاحبيه، فلما حضره الموت، سأله سلمان مثل سؤاله للآخرين، فأخبره برجل بعمورية، وأمره باللحاق به. فلما مات وغُيّب، لحق بصاحب عمورية، وأخبره خبره، فأذن له بالصحبة، واكتسب عنده حتى كان له بُقيرات وغنيمة. ثم نزل به أمر الله، فلما حضره، سأله مثل سؤاله للآخرين، فقال: أي بُني! ما أعلمُه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس، آمُرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلّك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجرًا إلى أرض بين حرتين (أرض ذات الحجارة السوداء) بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم مات الأسقف وغُيّب، فمكث سلمان بعمورية ما شاء الله أن يمكث، ثم مرّ به نفر من كلب، تُجّار، فطلب منهم أن يحملوه إلى أرض العرب عوضًا عن بقراته وغنيمته، فحملوه، حتى إذا قدموا به وادي القُرى (بين المدينة والشام)، ظلموه، فباعوه لرجل من اليهود عبدًا، فكان عنده. فبينما هو عنده، قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعه منه، فاحتمله إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رآها فعرفها بصفة صاحبه، فأقام بها.
وفي يومٍ ما، كان سلمان في رأس عِذقٍ لسيده يعمل فيه بعض العمل، وسيده جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: فلان! قاتل الله بني قَيْلَة (الأوس والخزرج)، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء، على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي. فلما سمعها أخذته العُرُواء (برد الحمى)، حتى ظن أنه سيسقط على سيده، فنزل عن النخلة. فلما أمسى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بقباء، فاختبره بالعلامات التي عرفه بها الأسقف في عمورية؛ مرة بإعطائه صدقة فلم يأكل، ومرة بإعطائه هدية فأكل، وأخيرًا رأى علامة النبوة بين كتفيه، فبكى وأسلم من حضرة رسول الله، ثم قصّ عليه قصته، فعجب رسول الله وعجب أصحابه. هذه هي قصة إسلام سلمان الفارسي، الذي عُرف بعد بـ”سلمان المحمدي” و”سلمان الخير”.
في الحقيقة، هنا أمامنا عبر ونُصح من حياة سلمان الفارسي، ولنا أن نستلهم منها وأن نغترف من مناهلها العذبة، وللكفار والمشركين فيها نظر واستدلال. وأصبح إسلام سلمان ردًّا واضحًا على المستشرقين، وعلى من يزعم أن الإسلام مزيف وغير حق، لأن سلمان إنما اعتنق الإسلام بعد أن قضى حياته في النصرانية واليهودية والمجوسية، وبعد أن أدرك بعقله وبصيرته ما في تلك المذاهب من خللٍ وبعدٍ عن الحق، حتى أدرك أن الإسلام هو الدين السديد الموافق للعقل والمنطق، فاعتنقه، ووجد فيه اللهَ الخالقَ الحقيقيَّ المستحقَّ للعبادة، بعد رحلته الطويلة في التعلم والاكتشاف.
سلمان المحمدي: نبذة من حياته بعد الإسلام
أصبح سلمان بعد إسلامه من خيار أصحاب رسول الله، وأحد أحبهم إليه، حيث قال رسول الله: “إن الله يحب من أصحابي أربعة، وأمرني أن أحبهم: علي، أبو ذر، سلمان، مقداد .ووصفه أيضًا بقوله: “هو منّا أهل البيت”. وأول مشهد شهده سلمان هو مشهد الخندق، الذي كان هو العقل المدبر لفكرة حفر الخندق في معركة الخندق، حيث استشار رسول الله أصحابه، فطرح سلمان هذه الفكرة لما كان له من خبرة في الحرب ودهاء المجوس. ولم يتمكن سلمان من حضور بدر وأُحد، وإن كان قد أسلم قبلهما، لأنه كان رقيقًا عند يهودي، فأخبر سلمان رسول الله خبره، فطلب النبي منه أن يكاتب، فكاتب سيده على ثلاثمائة نخلة يحييها له بالفقير، وبأربعين أوقية، فساعده رسول الله وأصحابه حتى أتم المكاتبة، فحرر سلمان من الرق إلى الأبد.
سلمان المحمدي: صفاته الشخصية
كان سلمان طويل القامة، كثيف الشعر، قوي البنية، معروفًا بقوة جسمه، وكان متواضعًا خاشعًا لله، زاهدًا في نفسه وماله. كان إذا اشترى لحمًا أو سمكًا، نادى المحتاجين ليأكلوا معه، ولا يأكل وحده، وقد ورد في أسد الغابة لابن الأثير أنه تصدق بأكثر من خمسة آلاف درهم. وأدل دليل على زهده: منزله، حيث إذا قام أصاب السقف رأسه، وإذا نام أصاب الجدار قدميه. وقد عاش مع زوجته من بني كندة، وله بنت في أصفهان، وبنتان بمصر، وولدان عبد الله ومحمد. وكان له مكانة كريمة عند رسول الله والخلفاء، وقد روت السيدة عائشة حديثًا يدل على مكانته، قالت: “كان لسلمان مجلس من رسول الله بالليل حتى كاد يغلبنا عليه”. وروى عن النبي عدة أحاديث، وأخرج له البخاري أربعة، ومسلم ثلاثة.
سلمان المحمدي: الأخوّة مع أبي الدرداء
آخى رسول الله بين سلمان وأبي الدرداء. وفي قصة معروفة: زار سلمان أخاه أبا الدرداء، فوجده غائبًا، ووجد زوجته متبذّلة، فقالت له: إن أبا الدرداء لا حاجة له في الدنيا. ثم جاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال له سلمان: كل. قال: إني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل، وفي الليل أراد أبو الدرداء القيام، فقال له سلمان: نم، وكرّرها ثلاثًا، ثم قال له: “إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقّه”. فلما أخبر النبي بذلك، قال: “صدق سلمان” (رواه البخاري). وكتب أبو الدرداء يومًا إلى سلمان: “سلام عليك أما بعد، إن الله رزقني مالًا وولدًا، ونزلت الأرض المقدسة”. فرد عليه سلمان: “سلام عليك أما بعد، فإنك كتبت إلي أن الله رزقك مالا وولدا، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك، وكتبت إلي أنك نزلت الأرض المقدسة، وإن الأرض لا تعمل لأحد واعمل كأنك ترى، واعدد نفسك من الموتى.” هكذا كان سلمان الفارسي رضي الله عنه حيث قال رسول الله “إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان” (رواه أنس بن مالك).
سلمان المحمدي: في آخر الأيام
عاش مع رسول الله أخًا وصاحبًا، وبعد وفاته، وفي عهد عمر بن الخطاب، ولاه أميرًا على المدائن (منطقة بالعراق)، وكان أميرًا على أكثر من ثلاثين ألفًا، ومع ذلك كان ينسج ويبيع من كسب يده، ويقسم المال بين نفسه وأهله والمساكين. توفي سنة 34 هـ، وقيل 45 هـ، ودفن في المدائن قرب بغداد، في مكان عُرف باسم “مقام سلمان باك”، ومعناه بالفارسية: “الطاهر”.
وأخيرًا…فمن الواضح كالشمس في رابعة النهار أن قصة سلمان ستبقى صفحة ذهبية في التاريخ، وعبرة منوّرة في قلوب المسلمين إلى الأبد. فلنستلهم من حياته وشخصيته، ولا ننسى قول النبي: “أصحابي كالنجوم، فبأيّهم اقتديتم اهتديتم”. وفقنا الله، وجعلنا من عباده الصالحين، آمين.
……………………
المراجع والمصادر
- سير أعلام النبلاء،(362-405)
- تاريخ الإسلام للذهبي،(158-163)
- أسد الغابة،لابن الأثير،(328-332)
- طبقات الشعراني،(30-31)
- الاستيعاب،(56)
- الإصابة،(62)