عشق دمشق

————

أَلَا يَــا لَائِـمِـي فِــي الْـحُبِّ رِفْـقًا

فَـكَمْ مِـنْ فَـارِسٍ قَدْ مَاتَ عِشْقًا

وَكَـمْ مِـنْ هَـائِمٍ فِـي حُـبِّ لَيْلَى

فَـكَيْفَ بِـحَالِ مَـنْ يَـهْوَى دِمَشْقَا

هَـوَاهَا فِـي سَـوَادِ الْـعَيْنِ رَسْـمٌ

سَـيُـخْـبِـرُهَا إِذَا أَعْـيَـيْـتُ نُـطْـقًـا

إِذَا أَبْـصَـرْتُ وَجْـهَـكِ مِــنْ بَـعِـيدٍ،

رَأَيْــتُ الْـكَوْنَ فِـي عَـيْنَيْكِ أَرْقَـى

أَنَـا الْـوَلْهَانُ، فِـي عِـشْقٍ وَقَلْبِي

إِذَا ذُكِـــرَ الْـحَـبِـيبُ يَـزِيـدُ خَـفَـقَا

وَلَــوْ خُـيِّـرْتُ فِــي مَـوْتِـي بِـيَـوْمٍ

عَـلَى رِمْـشِ الْـعُيُونِ أَمُوتُ شَنْقَا

أَرَاكِ بِـعَـيْـنِ قَـلْـبِي حِـيـنَ أَغْـفُـو

وَأَمَّــــا إِنْ صَــحَــوْتُ أَرَاكِ حَــقَّــا

عَـلَى خَـدَّيْكِ زَهْـرُ الـرَّوْضِ يَـزْهُو

وَفِـي شَـفَتَيْكِ شَـهْدٌ فَـاضَ دَفْقَا

أرَى بَــوْحَ الـنَّـسِيمِ لَـهَـا يُـنَاغِي

عَـلَـى الْـخَـدَّيْنِ طَـلُّ الـصُّبْحِ رَقَّـا

فَـفِـيكِ الــرُّوحُ تَـسْـمُو لِـلْمَعَالِي

إِلَــى حَــدِّ الـسَّـمَاءِ تَـكَادُ تَـرْقَى

أَيَـــا نَــفْـحَ الـرَّبِـيعِ يَـضُـوعُ طِـيـبًا

فَـتَـنْـشَقُ عِـطْـرَهُ الْأَرواحُ نَـشْـقَا

وَيَـسْـكَرُ مَــنْ يَــرَى يَـوْمًـا رُبَـاهَا

بِــــلَا خَــمْــرٍ وَلَا يَــحْـتَـاجُ زِقَّــــا

أَيَــا بَــرَدَى وَفِــي قَـلْـبِي حَـنِينٌ

يَــكَـادُ يُــحَـرِّقُ الْأَحْــشَـاءَ حَـرْقًـا

دِمَشْقُ هَوَاكِ فِي الشِّرْيَانِ نَبْضٌ

وَمَــنْ يَـهْـوَاكِ يَـعْـرِفْ ذَاكَ صِـدْقَا

دِمَـشْـقُ وَفِـيـكِ لِــلْأَرْوَاحِ سِـحْـرٌ

أَرَى الْـعُشَّاقَ فِـي عَيْنَيْكِ غَرْقَى

رُبَــــاكِ تُــعَـانِـقُ الْــجَـوْزَاءَ تِـيـهًـا

فَـتَـضْرِبُ حَـوْلَـهَا الـنَّجْمَاتُ طَـوْقَا

فَـهَلْ لِـلْعَاشِقِ الْمَجْرُوحِ سُكْنَى

سِـوَى قَـلْبٍ عَـلَى كَفَّيْكِ يُلْقَى؟

وَفِــي نَـجْوَى الْـمَآذِنِ بَـوْحُ صَـبٍّ

سَــتُــدْرِكُـهُ، إِذَا الــنَّـاقُـوسُ دَقَّ

دِمَـشْقُ، وَفِـيكِ لِـلْمَعْنَى طَـرِيقٌ

إِذَا كُـــلُّ الـــدُّرُوبِ تَـصِـيرُ زَلْـقَـى

تَـلِـينُ الــرُّوحُ مِــنْ طِـيبِ الـتَّكَايَا

وَمِـنْ زَيْـتِ الـسِّرَاجِ تَـصِيرُ أَنْـقَى

هَـــوَى الْأَوْطَـــانِ تَــيَّـارٌ شَــدِيـدٌ

وَيُـصْـعَقُ نَـبْـضُهُ الْـعُشَّاقَ صَـعْقًا

فَــهَـلْ بَــعْـدَ الْــهَـوَى إِلَّا افْـتِـتَانٌ

مَـتَى ألْـقَى لِـهَذَا الْـعِشْقِ عِتْقًا

وَكَـمْ هَـبَّتْ عَـلَى الـشُّهَدَاءِ رِيـحٌ

تُـقَـبِّـلُ جُـرْحَـهُـمْ صَــبًـا وَشَـوْقَـا

دِمَـشْـقُ، وَسَـيْـفُكِ الْـفُولَاذُ رَمْـزٌ

لِأَنَّـــكِ مَـــا رَضِـيـتِ الـدَّهْـرَ رِقًّــا

كَــرَرْتِ عَـلَى الـطُّغَاةِ بِـكُلِّ حَـزْمٍ

فَـمَـا لِـلـظُّلْمِ فِــي دُنْـيَـاكِ حَـقًّـا

فـفِي نَـقْشِ الْـعُصُورِ لَـهَا سُطُورٌ

لِــذَا فِـيـهَا الْـبَـيَانُ يَـفِيضُ عُـمْقَا

هُـنَـا الـتَّارِيخُ كَـمْ سَـجَّلْتِ فَـخْرًا

وَكَــمْ رَفَـعَـتْ بــكِ الْأَيَّــامُ عُـنْـقَا

هُـنَـا الْـفَـارُوقُ قَـدْ خَـطَّ الْأَمَـانِي

وَفَـجْـرُ الـنُّـورِ فِـي الْأَرْجَـاءِ شَـقَّ

أَتَـى الْـجَرَّاحُ وَابْـنُ الْـعَاصِ سَعْيًا

يَـقُـودَانِ الْـجُـيُوشَ إِلَـيْـكِ سَـبْـقًا

مُــعَـاوِيَـةُ الَّــــذِي بَــهَـرَ الْـبَـرَايَـا

وَدَعْــكَ مِــنَ الَّــذِي قَـالُـوهُ لَـفْقًا

لَــقَـدْ سَــاسَ الْـخَـلَائِقَ بِـاقْـتِدَارٍ

وَأَحْـدَثَ فِـي مَـجَالِ الْـحُكْمِ فَـرْقَا

بِـفِـطْنَتِهِ الَّـتِـي أَعْـطَـتْ دُرُوسًــا

بِـشَـعْرَتِهِ الَّـتِـي سَـتَـظَلُّ وُثْـقَى

لَــقَـدْ دَانَــتْ لَــهُ الْـبُـلْدَانُ غَـرْبًـا

كَـمَـا دَانَــتْ لَــهُ الْأَمْـصَـارُ شَـرْقًا

وَيَــأْتِـي جَــاهِـلٌ كَـالـتَّـيْسِ غِــرٌّ

تَـشَـبَّعَ مِــنْ حِــذَاءِ الْـقَـوْمِ لَـعْقًا

يَــحُــكُّ بِــقَـرْنِـهِ جَــبَـلًا عَـظِـيـمًا

يَـظُـنُّ الْـحَـكَّ يُـحْـدِثُ فِـيهِ خَـرْقًا

بَـلَاهَـا الـدَّهْـرُ فِــي نَــذْلٍ جَـبَانٍ

بِـــهِ رَحِـــمُ الْـخَـبَاثَةِ كَــانَ عَــقَّ

كَـجِـيفَةِ هِــرَّةٍ فِــي حَـمْـئِ بِـئْرٍ

إِذَا نَــاوَلْـتَـهَـا كَــلْــبًـا لَأَعْـــقَــى

وَكَـــانَ مُـهَـرِّجًـا يَــهْـذِي كَـثِـيـرًا

تَـجَـمَّـعَ حَــوْلَـهُ بُــلْـهٌ وَحَـمْـقَـى

غَــبِــيٌّ أَحْــمَــقُ وَبِــــهِ جُــنُـونُ

وَقَــالُـوا حَـــازَ فَـلْـسَـفَةً وَحِـذْقَـا

يَـــظُــنُّ بِـــأَنَّــهُ دِيــــكٌ فَــصِـيـحٌ

إِذَا خَــضَــعَ الــدَّجَـاجُ لَـــهُ وَنَـــقَّ

وَسَــلَّـطَ كُـــلَّ مُـنْـحَـرِفٍ دَعِـــيٍّ

لِتُزْهَقَ أَنْفُسُ الضُّعَفَاءِ زُهْقًا

وَلَــمَّـا جَـــاءَ أَهْــلُ الْـحَـقِّ حَــالًا

بِـعُـمْقِ الـلَّـيْلِ قَــدْ وَلَّــى وَهَــقَّ

أَتَــى الـدَّجَّـالُ بِـاسْمِ الـدِّينِ زُورًا

لِـيُـنْـقِـذَ فِـيـهَـا طَـائِـفَـةً وَعِــرْقًـا

بِــجَـيْـشٍ مِــــنْ بَــرَابِـرَةٍ فِــظَـاظٍ

لِـيَـقْـتُـلَ أَهْـلَـهَـا ذَبْــحًـا وَخَـنْـقًـا

حَـقِـيـقَـتُهُ بِــــهِ حِــقْــدٌ دَفِــيــنٌ

مُـذِ الْإِسْـلَامُ طَـحَّ الـشِّرْكَ مَحْقًا

فَــظَـنَّ سَـيَـهْدِمُ الْإِسْــلَامَ دِيـنًـا

وَيَـنْـشُـرُ بَـعْـدَهُ شِـرْكًـا وَفِـسْـقًا

وَلَــكِـنْ كِـلْـمَـةُ الْأَحْـــرَارِ كَــانَـتْ

أَلَا تَـــبًّــا لِــمُـنْـحَـرِفٍ وَسُــحْـقًـا

سَـنَـقْـطَعُ دَابِـــرَ الْأَعْـــدَاءِ حَــالًا

لِـتُـصْـبِـحَ أَوْجُــــهُ الْأَشْـــرَارِ زُرْقَ

يَــمُـوتُ الْأَعْـــوَرُ الــدَّجَّـالُ قَـهْـرًا

لِـنَـجْعَلَهُ، بِـذَاتِ الْـكَأْسِ يُـسْقَى

وَمِـنْ هَـوْلِ الْـمُصِيبَةِ بَـاتَ يَـبْكِي

وَيَــضْــرِبُ رَأْسَـــهُ لَـطْـمًـا وَلَــقًّـا

وَمِــنْ بَـعْـدِ الْـمَـخَاضِ أَتَـى وَلِـيدٌ

بِــهِ رَحِــمُ الـرِّجَـالِ هَـمَـى وَبَـقَّا

أَتَــى مِــنْ بَـعْـدِ إِرْهَــاصٍ طَـوِيلٍ

لِـيَـنْزِعَ عَـنْ رِقَـابِ الـشَّعْبِ رِبْـقَا

وَيُــعْـلِـنُ فَــجْــرَ مِــيـلَادٍ جَــدِيـدٍ

يَـفِـيـضُ سَـحَـابُـهُ غـيـثـا وَوَدْقًــا

دِمَـشْـقُ وَوَجْـهُـهَا الْأُمَـوِيُّ فَـخْرٌ

لِـنَـفْـخِ الـصُّـورِ عَـامِـرَةً سَـتَـبْقَى

السبع الذي لم يكن سبعًا: قراءة لغوية وثقافية في رمزية الاسم والمكان

حين استمعت أول مرة إلى هذا الاسم (بئر السبع)، سيطر على ذهني شيء من الرهبة، وارتسم في وعيي مشهدُ سبعٍ مهيب قابع في تلك الصحراء الفلسطينية الواسعة المعروفة بصحراء النقب، أو حتى مجموعة من السباع المتوحشة التي استأثرت لنفسها بالمكان، ووسمته بسطوة حضورها وهيمنتها الرمزية، ويؤيد هذا التصور استخدام لفظة (السبع) في الثقافة العربية؛ للدلالة على الأسود أو الوحوش الضارية، فالسبع: “واحد السباع. والأنثى سبعة…. ويقال: ترك حتى صار كالسبع لجرأته على الناس.”([1])

كما وردت لفظة (سبع) ومشتقاتها (سبعون، سبعين) في القرآن الكريم في أربعة وعشرين موضعًا، تشير كلها إلى الرقم (سبعة) مع اختلاف فيما قد يشار إليه بهذا الرقم، بينما لم تعبر عن الوحش إلا مرة واحدة فقط في سورة المائدة، في قول الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ ‌السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)﴾([2])‌.

فمجيء لفظة السبع في السياق القرآني للدلالة على الوحش المفترس، الذي يتغذى على اللحم والدماء، رغم ندرته إلا إنه راسخ في الذاكرة الثقافية، وتؤيد هذه الندرة ذلك التصور الذي تحمله لفظة (السبع) عند إضافتها إلى (البئر) ليكَوِّنا معًا مشهدية مرعبة؛ فكلمة (البئر) أيضًا تحمل في دلالتها عمقًا معنويًا وشعوريًا، يوحي بالخطر الكامن غير المتوقع، كما يكمل مشهدية الخوف ويسهم في بث الرهبة في نفس المستمع؛ لما لها من تأثير في نفس المتلقي بما تحمله من دلالة على العمق واختصاصها بالتواجد في الصحراء؛ فوجود البئر في الصحراء وارتباطها بلفظ السبع، كل ذلك من مقومات تكسب الاسم هيبة وتجعل منه حالة شعورية عجيبة، فكم مرة سمعنا عن شخص سقط في البئر، ولم يخرج؟!

تضفي دلالة الكلمة (السبع) التي تتضمن معنى (الوحش) على المكان طابعا مهيبا؛ ولأن هذه الدلالة هي أول ما يتوارد إلى ذهني عندما أسمع هذا المصطلح (بئر السبع) أقف أمامها وأتساءل: السبع؟! ما المقصود بالسبع؟ وما نوعه من بين الضواري؟ وهل تتمتع هذه المنطقة حقًا بتواجد السباع والوحوش؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا يتمتع هذا الاسم بتلك الهيبة؟ ولماذا يبعث في نفس المتلقي رهبة المكان، وتوخي الحذر، وتوقع المخاطر؟!

ثم تتوالى في ذهني افتراضات الخيال اللفظي والمعنوي لهذه الكلمة، وتاريخها مع المكان. وما أعرفه عن (بئر السبع) اليوم أنه يقع تحت سيطرة الاحتلال اللعين، فهل تشير لفظة (السبع) المقصودة إلى أيدي الاحتلال؟! إن كان الأمر كذلك، يصبح الأولى أن يصير اسم هذه المنطقة (بئر الضبع)، فلا يصير للكلمة هذا التعميم الذي يوحي بالجرأة والقوة، فقد يُنظَر إلى اسم السبع كإفراط في المدح، لا يليق بالواقع القاتم الذي تغيب فيه صفات الجسارة والشهامة التي ترتبط دلاليا بالسباع.

وبالتالي تشكل كلمة (الضبع) عند استبدالها بالسبع واقعًا حقيقيًا؛ حيث تليق بالمحتل وما يتصف به من دناءة، وحقارة، وأرى في احتفاظ المكان باسمه في ظل هذه الظروف القاسية إهانة كبيرة للسباع كافة، حيث يصعب تصور المحتل في صورة السباع، وربما في إطلاق اليهود على هذا المكان اسم (بئر شيبع) ([3])، ما يوحي برعبهم ورهبتهم الحقيقية من لفظة السبع التي قد تعني الوحش.

إن ما يعجبني بصدق في اللغة العربية قدرتها الفائقة على التواصل والاستيعاب، حين تستأثر الكلمة بتنوع دلالي يفوق تصور العقل؛ فكلمة (السبع) في اللغة لم تقتصر على معنى الوحش، بل حملت دلالات أخرى كثيرة، وعبرت عن معان مختلفة، نذكر منها ما ورد في جمهرة اللغة: “السبع من الْعدَد: مَعْرُوف. وَكَانَ الْقَوْم سِتَّة فسبعتهم أَي صرت سابعهم …. وَسبع الشَّيْء: وَاحِد من سَبْعَة”.([4])    

يتضح من ذلك التنوع الدلالي أن التصور الذهني الذي تناولناه في البداية، اقتصر على المعنى الشائع للفظ (السبع)، أو كما أسميه المعنى الأقرب لخيال المتلقي، فإذا سألنا شخصَا لا يستحضر ما للكلمة من دلالات مختلفة، قد يقتصر تصوره لمعناها على ما يرد إلى ذهنه أولا، فيقول: كلمة (السبع) تشير إلى رقم سبعة، ومنه الأسبوع فهو سبعة أيام، هذا المتلقي لا يجهل معنى السبع الذي هو الوحش، لكنه لم يفكر فيه، فكان رقم سبعة هو المعنى الأسرع تواردًا لذهنه. 

ومهما يكن من شيء فإن موطن الدهشة لا يكمن في كلمة السبع وحدها، بل ينشأ عن إضافة الكلمة إلى (البئر)، فكيف نستطيع أن نتخيل بئرًا في صحراء واسعة يحتوي على السباع؟ هل هناك سبع يحرس هذا البئر مثلًا وإليه ينسب؟ وإن كان الأمر كذلك، فما حكاية البئر؟ ولماذا يحرسه (السبع)؟

وإذا كانت الكلمة لا تشير للوحش بل إلى الرقم (سبعة)، فما خصوصية هذا الرقم؟ ولماذا ارتبط اسمه بوجود الماء؟

نتساءل عن أسباب ارتباط الاسم بالماء لا البئر؛ لأن (بئر السبع) ليس المكان الوحيد الذي اختص بكلمة (السبع)، بل إن مصرنا الحبيبة أيضًا، تضم بين أحضانها مدينة مهمة يتصل اسمها بالسبع أيضًا، تسمى (بركة السبع)، وكلما مررت بهذا المكان يتوارد إلى ذهني نفس السؤال، ولكن بتصور مختلف، ومشهدية أكثر اختلافًا، فكأن المكان مرتبط عندي بالضواري والوحوش، لكن هذا المكان في مصر يسمى (بِرْكَة) بينما ذلك المكان في فلسطين يسمى (بئرًا).

ثمة فرق واضح بين كلمتي (بئر، بِرْكَة)، فالبئر: [مفرد]: ج أَبْآر وآبار وأبْؤُر وبئار، وهو حُفْرة عَميقة يُستقى منها الماء، أو يُستخرج منها النِّفط أو الغاز، والشائع تسهيل الهمزة (بير) (مؤنثة وتذكيرها صواب، والبئر الطبيعيَّة: بئر حفرتها مياه الرَّشح، وقيل: هي بئر تنتهي إلى مجرًى مائيّ تحت الأرض. ([5])

أما البِرْكَة: فهي:” كالحوض، والجمع البرك؛ يقال: سميت بذلك لإقامة الماء فيها، والبركة مستنقع الماء. والبركة: شبه حوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض”.([6])

وفي هذا الاختلاف يبن الكلمتين، مفارقة بارزة بين ما تحمله دلالة البئر من تعبير عن العمق والامتداد، وما تحمله كلمة بِركة من دلالة على الاستقرار والسعة والبقاء، وبرغم هذا التشابه بين الاسمين (بئر السبع الفلسطينية، وبركة السبع المصرية)؛ فإن هذا التشابه في لفظ (السبع) يثير في الاذهان أصداء ثقافية متنوعة، فقد لا تحمل دلالة (السبع) في المكانين نفس المعنى، إلا إنها تذكرنا أن الأسماء في ثقافتنا، ليست محايدة.

إن بئر السبع ليست مجرد اسم على الخريطة الفلسطينية، بل رمز وكينونة وذاكرة ممتدة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.

إذن كل ما سبق يدفعنا للتساؤل عن أسباب ارتباط هذا المكان (بئر السبع) باسمه.

(بئر السبع) بلدة في صحراء النقب من أرض فلسطين، يحدها من الشمال جبل الخليل، ومن الشرق البحر الميت ووادي العربة الذي يفصلها عن شرق الأردن، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط وشبه جزيرة سيناء، ومن الجنوب خليج العقبة([7]).

عندما نراجع المصادر المرتبطة بالمكان للبحث عن مفهوم (السبع) وأسباب تسمية المكان بهذا الاسم، نجدها أسبابا دينية خالصة؛ وتروي المصادر عن السّبع أنها:

“قرية بين الرقة ورأس عين، موضع بين القدس والكرك، ويسمى ‌بئر ‌السبع”.([8])، وفي ذكر لفظ السبع في هذا السياق، معرَّفة بالألف واللام تأييد لدلالة الاسم على معنى الوحش، بينما يذكر (ياقوت الحموي) في (معجم البلدان) أن المكان به “سبع آبار سمي الموضع بذلك”([9])، وهذا يؤيد ما يذهب إليه بعض المؤرخين في سبب تسمية المكان باسمه نسبة إلى الآبار السبعة فيه.

وقد ورد في تاريخ الكامل لابن الأثير أن إبراهيم _عليه لسلام_  قد خرج بزوجه (هاجر) بعد أن ولدت له إسماعيل _عليه السلام_ إلى الشام من مصر؛ خوفا من فرعون.

“فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع مسيرة يوم وليلة، فبعثه الله نبيا، وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئرا ومسجدا وكان ماء البئر معينا طاهرا، فآذاه أهل السبع، فانتقل عنهم، فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم، فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز، وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معينا طاهرا فاشربوا منه، ولا تغترف منه امرأة حائض. فخرجوا بالأعنز، فلما وقفت على الماء ظهر إليها، وكانوا يشربون منه، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء إلى الذي هو عليه اليوم.» ([10]).

وورد في نصوص الأسفار روايات تؤيد ما ذُكر في تاريخ الكامل، أوردها (عارف العارف) قائم مقام بير السبع، في كتابه (تاريخ بير السبع وقبائلها) ([11])؛ إذ يرفض المؤلف ما قيل في أسباب تسمية المكان باسمه نسبة إلى الآبار السبعة؛ نظرًا لأن بلدة (بئر سبع) عندما سميت باسمها لم يكن بها إلا بئرًا واحد فقط، كما يرفض انتساب هذه التسمية إلى (السبع) الذي هو الوحش، ويقول إن التسمية الصحيحة هي (بئر سبع) بدون التعريف.

ويؤيد العارف في كتابه الاتجاه الذي يذهب إلى أن البلدة سميت بذلك نسبة إلى العنزات السبع التي دفع بها إبراهيم _عليه السلام_ لأبا مالك (ملك الفلسطينيين)؛ لتبقى هذه الوقعة دليلا على العهد الذي قطعه أبا مالك لنبي الله إبراهيم _عليه السلام_ واعترافا بأنه حفر البئر، كما يشير العارف في كتابه إلى أن المنطقة؛ وفقًا لهذا الحدث تسمى (بئر سبع) لا (بئر السبع).

تبقى الدهشة قائمة، وتظهر المفارقة جلية حين تتشكل صورة المكان في أذهاننا مرتبطة بالسباع والوحوش، ليتضح في النهاية إن السبع المقصود ما هو إلا عدد العنزات التي هي في الحقيقة فريسة السبع.

وهكذا تبقى بئر السبع أو بئر سبع، بين معنى لم يحسم، ودلالة تتشعب من الوحش إلى العدد، من الماء إلى الدم. ربما لا نملك جوابا يقينيا عن (السبع) في الاسم، لكننا نملك دهشة السؤال، وفتنة الكلمة حين تجرنا إلى عمق أبعد من سطح الأرض، إلى بئر تسكنه اللغة لا الماء.

وربما في كل مرة نسمع فيها عن (بئر السبع) يستيقظ بداخلنا روعة المعنى، وهيبة المكان، لا يهم إن كان فيه وحش يحرس الماء، أو رقم يحرس التاريخ، المهم أنه اسم مهيب يحتفظ لنفسه بالقوة والأثر على امتداد التاريخ.


وفي عينيــــــك نور الصــــــــبر يبدو

سِــــــــــــنون القهر وارثُها اغـــترابُ

ومـا وُجـــد الكلامُ ولا اصطلاحُ[1]

وســـــــيم يا صديقي أنـت نــــــــور

 يعـــــــود إلى بــلادك، وانشـــــراحُ

ترى الأحبابَ، يملؤهم ســــــــــرور 

وفي عـــــــينيك بِشْــــــــــــر وارتـياحُ

رجـــعتَ اليومَ تُربَ الدارِ شـــــوقا

كـأنّ الأرضَ ينظرها الـصــــــباحُ

تُقَــــبِّل تُـــــربَ شــــــامٍ مِن قُراها

فتذْكــــرُ منه رائحــــةً تُــــــــــراحُ[2]

فقـــــال لـك التــــــرابُ أيا غـــلامُ

نزلتَ على جبــــينٍ فـــــــــيه فــــاحُ[3]

تعـــــــــطّرْ مِن عُطورِ الشــــــام شَمّا

وعـــــــطَّرَهُ كِـــــــفاحُك والسّـــلاحُ

هنا وطــــــــنٌ بنى مجـــــــدَ النـــضالِ 

وها قدْ عاد يـبـتـســــــــمُ الكِفـاحُ

وفي عينيــــــك نور الصــــــــبر يبدو

تعافى منه قَــــــرحُـك والجِــــــراحُ

رأى خِــلّا [4]خلـيلا في صِــــــباهُ 

فعانقَه إخاءَ الـودّ، صاحُــــــــــــــوا[5]

فــــــقال لـــه أيا صــــاحٍ[6] زمـانُ

تــــــــفـــــــرقنا به والناسُ راحُـــــوا

وها قــــــد عـــــادت الأيــــام عـودا

جـــــــــــــميلا، عاد هـــــزلك والمزاح

ســــــترجـــــــــع دارنا ودّا وأمـــــنا

ليســــــــــكن في رُباها الاســـــتراحُ


[1] . ما وجدت المبررات أو المصطلحات في قواميس العالم الجديد عن هذا القهر والاغتراب الذي لا مثيل له في تاريخ سوريا

[2] . تُراحُ بمعنى تُشَمّ رائحة، أي تُوجد فيها رائحة تعبق بالحنين

[3] . رائحة العطر

[4] . صديق حميم

[5] . بكى الصديقان عند اللقاء بعد سنين وأطلق كل واحد منهما صوتا عاليا من الألم حتى بكى كل من كان حولهما

[6] . صديق

رُفعت الجلسة

…………………

(1) حديثُ الميزانِ المقلوبِ

مِنْ نَعيمٍ يُزهِرُ الحياةَ إِلى عَذابٍ مُقيمٍ،

أَهكذا حَكَمْتِ؟

أمْ هيَ لُعبةُ الأقدارِ العَمياءِ؟

تُصارِعينَ في جَلسةٍ خاطِفَةٍ،

صَرخَةٌ تُمَزِّقُ نَسيجَ الأيّامِ،

وضَربَةٌ بِعَصاكِ الثَّقيلةِ،

تَهدِمُ حُلمًا قد وُلِدَ في رَحِمِ اللَّيلِ الطَّويلِ.

كَيْفَ تَقضينَ؟

أَم تَستقينَ دُستورَكِ مِن شَريعةِ إبليسَ؟

كَيْفَ تُحوّلينَ الكَمالَ نَقصًا،

وتَخلُقينَ القُبحَ مِنَ الجَمالِ؟

يا مَن أَحلَلتِ المَلَاكَ شيطانًا،

وسَكَبتِ كَمالَ الرّوحِ في كأسِ النُّقصانِ.

أَسلَمتِني إِلى أَحضانِ الهلاكِ،

حيثُ تُسكِنُ رُوحي بَينَ الشَّياطينِ.

أيُّ قَضاءٍ هذا؟

يُبَدِّلُ مَعاييرَ الحياةِ،

ويُقَلِّبُ كفّتَيِ الميزانِ.

تَبًّا لِذلِكَ الحُكمِ الجائرِ،

ولألفِ لَعنَةٍ تَصدَحُ في وَجهِ الظُّلمِ،

حتى يَنهارَ قَصرُ القَهرِ،

وتَعودَ الكفّةُ لِتَزِنَ الحَقيقةَ.

……

(2) حديثُ الفناءِ والعدمِ

ما كنتُ لِأحكُمَ بقلبِكِ،

لَكِنَّكِ أَنزَلْتِ صاعِقَةً أَشْعَلَتْ ظَلامَ رُوحي،

وَتَرَكْتِنِي عَالقًا في رَحِمِ ذِكراكِ،

حُبِّي لَكِ… لَيْسَ اختيارًا،

بَل هُوَ نَبضٌ يَنسَابُ في دَمي،

وَزَفْرَةُ رُوحٍ تُنادِي بِاسمِكِ في أَبَديَّةِ الصَّمتِ.

أنتِ…

جُزءٌ لا يَفنى مِنِّي،

الفَرَحُ يَتألَّقُ في وَهجِ قُربِكِ،

وَالأَلَمُ يَطولُ في مَسَافَاتِ الغِيابِ.

إِذا فَقَدتُكِ،

تَسقُطُ السَّماءُ على رُوحي،

وَإِذا امْتَلَكْتُكِ،

تَفيضُ الدُّنيا حَياةً في صَدري.

أنتِ النُّورُ الَّذِي يَغزِلُ فَجْرًا مِنْ ظَلامِ أَيَّامي،

وَأنتِ المَاءُ الَّذِي يَروي عَطشي الأبَديَّ،

حَتَّى حِينَ تَذوبُ الأحلامُ في نَهْرِ اللَّيلِ،

تَشْرُقِينَ في داخِلِي كَمَا لا يُشْرِقُ أَحَدٌ.

……

(3) حديثُ الدفاعِ

اِسمَعي دِفاعِي،

ما كُنتُ يَومًا صَخرًا أَصَمَّا،

بَل كانَ صَوْتِي يُسَبِّحُ بحُبِّكِ،

فَتَأَلَّقَ كِبْرِياؤُكِ كالقَمَرِ فَوْقَ أَمْواجِ البِحارِ.

تَأمَّلِي عَيْنَيَّ،

أَمَا رَأَيْتِ فِيهِمَا نُورًا شَقَّ طَرِيقَهُ عَبْرَ وِسَادَتِكِ المُعْتَمَةِ؟

وَحِينَ كانت يَدَايَ تَحْتَضِنُكِ،

أَلْقَيْتُ بكِ في حَضْنِ المَلائِكَةِ،

هَارِبًا بكِ مِن شِبَاكِ صَيَّادٍ لا يَرْحَمُ.

وَقَدَمَيَّ، لَطالَمَا حَمَلْتُكِ،

تَسَابَقَتْ بِكِ الرِّيَاحُ إِلَى جَنَّاتٍ لَمْ تَرَيْهَا عَيْنَاكِ قَطُّ،

جَنَّاتٍ تُزهِرُ بِأَلْوَانِ الأَمَلِ.

وَالآنَ،

هَلْ يَجُوزُ لِلفِرَاقِ أَنْ يَغْلِبَنَا؟

أَلَا نَلْتَقِي مَرَّةً أُخْرَى،

لِتُصَدِّقِي تَارِيخِي الْمَكْتُوبِ بِنَبْضِ قَلْبِي؟

وَلِتَأوِينِي فِي رَحِمِ رُوحِكِ، كَمَا كُنتُ أُوَلَّ مَرَّةٍ.

……

(4) حديثُ الصَّاعِقَةِ

حِينَ رَفَعْتِ كَفَّكِ وَأَعْلَنْتِ القَرَارَ،

كانَ صَوْتُكِ كَسَيْفٍ يَشُقُّ الضَّبابَ،

فَتَصَدَّعَ كِيَانِي،

وَتَاهَتْ جُدْرَانُ قَلْبِي كَقَلْعَةٍ عَتِيقَةٍ،

تُحَطِّمُهَا مَوْجَةُ زَحْفٍ لا يَرْحَمُ.

غَادَرْتِني،

وَتَرَكْتِني وَاقِفًا عَلَى حَافَّةِ العَدَمِ،

حَيْثُ الصَّمْتُ يَحْتَضِنُ صَدَى خُطُواتِكِ،

يَضِيعُ فِي مُتَاهَةِ الزَّمَانِ.

كَأَنَّنِي وَرَقَةُ خَرِيفٍ،

اِقْتُلِعَتْ مِنْ غُصْنِهَا،

تَتَلَوَّى فِي الهَوَاءِ،

بَاحِثَةً عَنْ أَرْضٍ تَحْتَضِنُهَا أَوْ تَبْتَلِعُهَا.

لَمْ أَصْرُخْ،

فَصَوْتِي كَانَ مَكْبَّلًا بِقُيُودِ الحَيْرَةِ،

لَكِنَّ دَمِي فَاضَ فِي عُرُوقِي صَرَاخًا،

وَكُلُّ خَلِيَّةٍ فِيهِ شَهِقَتْ أَلَمًا.

رَأَيْتُ العَالَمَ يَنْطَفِئُ مِنْ حَوْلِي،

أَضْوَاؤُهُ تَتَلاشَى وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ،

حَتَّى أَصْبَحَتْ عَيْنِي سَجِينَةَ ظَلاَمٍ أَبَدِيٍّ.

وَأَخِيرًا،

أَصْبَحْتُ قَفَصًا مِنَ العَذَابِ،

أَسِيرًا فِي مَحْكَمةِ الفَقْدِ،

حَيْثُ لا حُكْمَ إِلَّا الأَلَمُ،

وَلا قَاضِي إِلَّا الذِّكْرَيَاتِ.

……

(5) حديثُ اللَّعنةِ

اِنْشَقَّتِ السَّماءُ لِسَطْوَةِ حُكْمِكِ،

وَخَطَفَ بَرْقُها الأبْصارَ،

تَصَلَّبَتِ الصُّخورُ ذُعْرًا أمامَ قَسْوَتِكِ،

وَارْتَجَّتِ الأرضُ مِنْ وَطْأَةِ الألَمِ،

وَفَرَّ النُّورُ مُذْعُورًا، لِيَذُوبَ في أَحْضانِ العَدَمِ.

دَفَنْتِ العَدالَةَ تَحْتَ رُكامِ الغابِ،

وَأَعْلَنْتِ شَريعَةَ الوَحْشِ وَالدَّمِ،

وَتَظُنِّينَ أَنَّكِ أَصَبْتِ!

لَكِنَّ التّاريخَ سَيَحْكُمُ عَلَيْكِ، بِجَلْدِ السِّنينِ،

وَسَيَلْعَنُكِ في كُلِّ صَفْحَةٍ مِنْ صَفَحاتِهِ.

أَنا، سَأَكْتُبُ عَنْكِ،

وَسَأَظَلُّ أَكْتُبُ،

حَتّى لَوْ نَفِدَتْ أَحْبارُ الوُجودِ،

سَأَكْتُبُ بِدِمائي على جَبِينِ الأبَدِ،

وَأُجْعِلُ الثَّقَلَيْنِ يَشْهَدونَ خَطاياكِ،

كَمَا يَلْعَنونَ إبْلِيسَ،

في المَشْرِقَيْنِ،

وَفي المَغْرِبَيْنِ.

……

(6) حديثُ الفَجْرِ الجَديدِ

لا زِلْتُ أَخِيطُ العَزيمَةَ،

أَجْدِلُها خَيْطًا خَيْطًا،

أَنْسُجُ مِنْ صَبْرِها حِبالًا لا تَنْقَطِعُ،

تُحَلِّقُ بي بَعيدًا عَنْ أَشْواكِ الطَّريقِ وَأَفْخاخِ الظَّلامِ.

لَنْ أَسْتَسْلِمَ،

سَأَغْمُرُ جِراحي العَميقَةَ بِآياتٍ

تَشْفِي الألَمَ،

وَتُبَدِّدُ الظُّلْمَ،

وَتَطْرُدُ شَياطِينَ البُؤْسِ مِنْ رُوحي.

لَنْ أَسْتَسْلِمَ،

سَأَبْنِيَ سَماءً جَديدةً، لَيْسَتْ كَسُحُبِكِ المُظْلِمَةِ،

بَلْ كَسُحُبِ غَيْثٍ يَرْوي وُجوهَ المَوْتى بِابْتِسامَةٍ،

وَيُضِيءُ لَيْلي بِنُجومِ الأمَلِ السّاطِعَةِ.

سَأَشُقُّ أَرْضًا لَيْسَتْ كَأَرْضِكِ،

فَأَرْضُكِ مَزَّقَتْها الزَّلازِلُ،

وَدُروبُها أَشْواكٌ تَمْتَصُّ الرِّقابَ،

لَكِنَّ أَرْضي… سَتَكونُ خَضْراءَ،

تُنْبِتُ أَحْلامًا ناضِجَةً،

تَمُدُّني بِالقُوَّةِ في كُلِّ خُطْوَةٍ.

لَنْ أَسْتَسْلِمَ،

سَأُبْصِرُ في العَتْمَةِ بِبَصيرَتي،

وَأَشُقُّ طَريقي بِنُورٍ لا يُطْفَأُ،

حَتّى أَكْتُبَ على وَجْهِ الحَياةِ حِكايةَ فَجْري الجَديدِ.

……

(7) حديثُ الوِلادَةِ

مِنْ أَعْماقِ السَّماءِ،

يَصْرُخُ الأمَلُ،

يُلَوِّحُ بِشُعْلَةِ النَّصْرِ،

تَتَوَهَّجُ في قَبْضَتِهِ.

تَشَقَّقَ صَدْرُ الغَمامِ،

وَأَطَلَّتِ الشَّمْسُ مُوَدِّعَةً عَتْمَةَ اللَّيْلِ البَهيمِ،

لِتَفيضَ شِفاهُها بِماءِ الحَياةِ،

يَنْثُرُ قَطَراتِهِ الأُولى على أَرْضٍ عَطْشَى،

يَسْقِي جُذوري الذّابِلَةَ بِالخُضْرَةِ وَالنَّماءِ.

تُصْغي أُذُني لِصَهيلِ الخُيولِ،

جِيادٌ تُعانِقُ أُفُقَ البُطولَةِ بِنَشْوَةِ الانْتِصارِ،

وَأَنا أَهْتِفُ: تَعالَ، أَيُّها الفارِسُ!

فَالتّاريخُ ما زالَ يَنْتَظِرُ خُطاكَ،

وَالمَعْرَكَةُ لَمْ تُطْوَ صَفَحاتُها بَعْدُ،

وَأَحْلامُنا الجَريحَةُ تُضِيءُ جِراحَها بِنُورِ الخُلودِ،

وَتَرْتَوي مِنْ دُموعِكَ أَمَلًا لا يَفْنى.

                          

شكوى

لاقاني الهم يومئذ ملاقة،

متميزة مخيفة، ما جربتها من قبل.

كنت مسروراً لا أهتم بشيء حولي،

مشغول بشغلي لنجاحي الحسين.

تبسمته ولم أعرض جاهلاً عداوته،

حتى دخل جوفي وأقام يوماً،

يعرف أحوالي وطبيعتي ولم يخرج.

فاتخذ بيتاً واسعاً في قلبي ولا إذن

ما أكبر بيوت، جعل نفسي ضيقاً،

ولم يكف حتى خرج ورجع بأهلها،

قاصد الاستقرار معي ليظلمني.

أقام سنوات وما يمل وأنا حزن،

حجبني الجنود أحاطني إحاطة

أمامي ورائي شمالي يميني،

فوقي تحتي كلها محجوب.

تقودني أشيع خلفها متكلفاً،

ما تقدمت قدمي وما تخلفت لحظة،

إلا والقهر ضربني سياطاً.

لجأت يوماً آخذاً سقف بيتي،

واقف وحيداً، حولي أشجار

ونهر واسع، قوارب تجري صامتة.

قطار تسير صغيرة بعد صغيرة،

ولكن نهر الهموم أوسع من النهر

صامت، أنا محيط بالأفكار، فإذا حمامة

بيضاء تقف أمامي فعشقت لها.

لو كانت تكلمني وأشكو حزني

أنظر إليها نظر البث وتنظرني.

بدأت سلام لك صباحاً طيباً

حالي تعرف ما هي حبيبتي..

غريق في بحر الهموم إلى عنقي،

بين الموت والحياة في ضيق عميق.

هل لك حل تساعدني إلى كشفها؟

عجباً لأمر الحبيبة لا تكلمني!

نظرتني تحولا وتحولاً صامتة،

عشت لو كانت تصاحبني هما وفرحاً

فيا إلهي إله كل شيء إلها واحداً

أشكو بثي وحزني إليك سلمني!

أنتم خصومهم أمام الله يا أمة الخذلان

أكبر خيانات مرّت على العرب منذ فجر التاريخ بدأت مع الخائن أبورغال الذي أرشد أبرهة إلى الطريق لمكة حينما عزم على هدم الكعبة المشرفة، وكان ذلك مقابل المال، وكانت نهاية أبرهة كما يعلم الجميع وأنزل الله سورة تُصوّر النهاية العظيمة لهذا المجرم وجيشه.

أما الخيانة الثانية فكانت من نصيب ابن العلقمي الذي خان الخليفة العباسي المستعصم بالله عندما استأمنه على الدولة وأعطاه كامل الصلاحيات في القرارات المصيرية، فقد كان هو الدولة ومفاتيحها بيده، إلا أن غلّه على الإسلام وأهله ودولته، جعله سبباً رئيسياً في سقوط الدولة العباسية التي حكمت الأمة لأكثر من خمسة قرون، حيث كاتب هذا الخائن التتار وزعيمهم هولاكو وشجعه على احتلال بغداد وتدميرها وقتل أكثر من مليون ونصف من سكانها، وطمع هذا الخائن في وعود هولاكو له بحكم العراق، ولكن هولاكو أهانه أشد إهانة وندم حيث لا ينفعه الندم، ومما يحكى عنه أن عجوزاً مرّت عليه في آخر أيامه مطأطئ الرأس عليه أمارات الذل، فقالت: أهكذا كان يعاملك بنو العباس ؟

فمات كمداً وحسرة على مجد ضيّعه، وسلطة بدّدها، بعدما ارتمى تحت أقدام التتار، وباع دينه ووطنه.

أما الخيانة الثالثة فهي للملك الصالح إسماعيل الذي كان يحكم دمشق وفلسطين، فطمع في ضم مصر إلى مملكته، فاستعان بالصليبيين لمساعدته على حرب ابن أخيه الملك الصالح أيوب ملك مصر، مقابل إعطائهم فلسطين، فدعا الصالح أيوب الخوارزميين والذين يشكلون قوة إسلامية في الشرق وتحالف معهم وعبر بهم وبجيشه إلى بلاد الشام وتوجهوا إلى بيت المقدس فحرروه من الاحتلال الصليبي، وبقي تحت حكم المسلمين حتى عام 1914 باحتلاله من قبل البريطانيين.

ومنذ ذلك العام وحتى يومنا هذا والأمة تعيش في خيانات متعاقبة ليست أقل سوءا ودناءة من سابقاتها، فما يعيشه إخواننا في قطاع غزة من قتل وتشريد وتجويع منذ السابع من أكتوبر 2023 لهو أكبر خيانة وهوان وذلة تعيشها أمة الملياري مسلم، فلم تشفع استغاثات ولا استصراخ أهل غزة لحكام وشعوب أمة العرب والإسلام، ولم تتحرك نخوتهم لكسر هذا الحصار الجائر الذي أطبقه عليهم الكيان الصهيوني المحتل ومنع عنهم الغذاء والدواء وكل شيء يبقيهم على قيد الحياة، يُمارس ضدهم مجزرة ممنهجة ضاربين بكل النداءات الإنسانية عرض الحائط غير مبالين بهذا الشعب الأعزل الذي تحيط بحدوده دولا عربية شقيقة وملايين من الشعوب الغفيرة التي لا حول لها ولا قوة!.

فلا تتأسّف عليهم يا أبا عبيدة ولا تتحسّر على هوانهم وذلهم، يكفي أن تتحسّب عليهم وتجعلهم خصومكم أمام الله، فوالله من كان الله خصيمه فلن يهنأ في عيشه مهما طال به الزمان، فلا خير في هذه الحياة ونحن نرى إخوتنا يُقتّلون وتمارس فيهم صنوف العذاب من تجويع وتشريد، وحسبنا وحسبهم الله فيمن خذلهم وساهم في إطالة مدى معاناتهم.

فاصلة أخيرة

تابعنا خلال الأيام الماضية كيف تدخلت العشائر السورية الأصيلة الشهمة واستجابت لاستغاثات إخوانهم البدو من أهل السويداء ودحروا عصابات الهجري، تخيلوا معي لو تحركت مشاعر ونخوة الشعوب العربية وانتفضت أمام حدود الدول العربية المتاخمة لحدود فلسطين المحتلة، والله لن تمر ساعات إلا وسنرى الصهاينة يرفعون الحصار عن غزة ولزال الاحتلال الصهيوني ولتحررت كامل أرض فلسطين من براثن بني صهيون، ولكنه مستبعد ومستحيل أمام أمة لا إرادة لها.

كربلاء: ملحمة الإيمان والثبات

تاريخ البشرية كتاب عظيم. كُتب بالتضحيات والشجاعة والإيمان والحكمة. ومن بين صفحاته، تبرز كربلاء كأغناها بالدماء. أولئك الذين يدافعون عن الحقيقة سيظلون محلَّ احترام دائمًا، ولن يتراجعوا، ولو كان الثمن حياتهم. كانت كربلاء هكذا، حيث تجلت فيها الشهادة الإيمانية، فأصبحت رمزًا ساطعا ليس للتضحية فحسب، بل للقوة الروحية، والمحبة الإنسانية، والعدالة، والقيم.

كربلاء ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي رسالة الحق والثبات، وهي انتصارُ رسالةٍ مفادُها: «ليبقَ الحقّ، ولنمتْ»، تلك التي انتشرت في الصحراء. قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». أما الحسن والحسين رضي الله عنهما، فلم يكونا يمثلان عائلة عادية، بل كانا يجسدان الإسلام الأصيل. وقد أصبح هذا النجم الساطع من هذه السلالة المقدسة، أهل البيت، رمزا ثمينا لمقاومة الظلم وعدم المساواة في واقعة كربلاء . وقعت كربلاء كظلال تُحيي نور الإيمان في مواجهة الظلام وجهاً لوجه.

تبدأ هذه الفترة التاريخية عندما أعلن الحسين رضي الله عنه بحزم أنه لن يسمح ليزيد، المتعطش للسلطة، بأن يقوض قيم العدالة والسلام والتسامح في الخلافة. كان للحسين والمؤمنين معه، الذين بلغ عددهم اثنان وسبعون، موقف فولاذي ضد كل ظلم واضطهاد، حيث ثبتوا على التقوى رغم المجاعة الجسدية في الصحراء، ووجود جيش العدو الذي بلغ عدده حوالي ثلاثين ألفًا، والوديان القاحلة التي تفتقر إلى الماء. لكن لم يتخل الحسين رضي الله عنه عن عائلته وأولاده الذين كانوا معه. راقب الحسين الجيش بعين الصبر، حتى أنهم أزعجوا ابنه علي أصغر رضي الله عنه البالغ من العمر ستة أشهر بحجب الماء عنه.

وأخيراً قال الحسين رضي الله عنه: “إن كان دين محمد صلى الله عليه وسلم لم يستقم إلا بقتلي، فيا سيوف خذيني”. لو لم يكن الحسين رضي الله عنه لما بقي من الإسلام اليوم إلا ظلاله الفاسدة.

من الحقيقة العارية، عندما يمر كل منا بيوم كربلاء، فليكن موقف الحسين موقفنا. وبذلك نكون جديرين بأن نسمع هذه الكلمة من الحديث وتُهمس في قلوبنا: «حسين مني، وأنا من حسين». لا يمكن أن يُمحى ألم كربلاء، ولا يزال سيل الدم الذي سقط على ترابها صرخة للعدالة. ولا تزال صرخات الأطفال، ووقوف النساء عاجزات والمشاهد الأخيرة للحسين رضي الله عنه محفورة في أذهان العالم.

تذكرنا هذه الواقعة التي لم يستسلم فيها أحد، حتى لو ضحى بحياته، بأن الإيمان يظل دائما ذا قيمة. إن العالم الذي نعيش فيه اليوم مليء بالظلم وإساءة استخدام السلطة والفساد. وفي هذا العصر، تشير كربلاء إلى أن الحق ثابت لا يتغير مهما تغير الزمان؛ ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتحلى بالشجاعة لمواجهة الظلم.

لا ينبغي أن نفهم كربلاء إلا من خلال العيش مع الحق، مثل الحسين رضي الله عنه. إذا لم نستطع أن نعيش مع الحق، فلا فائدة من تذكر كربلاء. إنها دعوة إلى حدود الإيمان والحقيقة. ولذلك، ينبغي أن تتجلى في أذهاننا في كل مرة نتذكر كربلاء رسالة واحدة وهي أن نتمسك بالحق مهما كلفنا الأمر، وأن نعيش مع العدل، وأن نبقى قائمين مع الحق مهما كثرت المعارضات. وليبقى دم الحسين رضي الله عنه السمة الخالدة لذلك.