السبع الذي لم يكن سبعًا: قراءة لغوية وثقافية في رمزية الاسم والمكان

حين استمعت أول مرة إلى هذا الاسم (بئر السبع)، سيطر على ذهني شيء من الرهبة، وارتسم في وعيي مشهدُ سبعٍ مهيب قابع في تلك الصحراء الفلسطينية الواسعة المعروفة بصحراء النقب، أو حتى مجموعة من السباع المتوحشة التي استأثرت لنفسها بالمكان، ووسمته بسطوة حضورها وهيمنتها الرمزية، ويؤيد هذا التصور استخدام لفظة (السبع) في الثقافة العربية؛ للدلالة على الأسود أو الوحوش الضارية، فالسبع: “واحد السباع. والأنثى سبعة…. ويقال: ترك حتى صار كالسبع لجرأته على الناس.”([1])

كما وردت لفظة (سبع) ومشتقاتها (سبعون، سبعين) في القرآن الكريم في أربعة وعشرين موضعًا، تشير كلها إلى الرقم (سبعة) مع اختلاف فيما قد يشار إليه بهذا الرقم، بينما لم تعبر عن الوحش إلا مرة واحدة فقط في سورة المائدة، في قول الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ ‌السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)﴾([2])‌.

فمجيء لفظة السبع في السياق القرآني للدلالة على الوحش المفترس، الذي يتغذى على اللحم والدماء، رغم ندرته إلا إنه راسخ في الذاكرة الثقافية، وتؤيد هذه الندرة ذلك التصور الذي تحمله لفظة (السبع) عند إضافتها إلى (البئر) ليكَوِّنا معًا مشهدية مرعبة؛ فكلمة (البئر) أيضًا تحمل في دلالتها عمقًا معنويًا وشعوريًا، يوحي بالخطر الكامن غير المتوقع، كما يكمل مشهدية الخوف ويسهم في بث الرهبة في نفس المستمع؛ لما لها من تأثير في نفس المتلقي بما تحمله من دلالة على العمق واختصاصها بالتواجد في الصحراء؛ فوجود البئر في الصحراء وارتباطها بلفظ السبع، كل ذلك من مقومات تكسب الاسم هيبة وتجعل منه حالة شعورية عجيبة، فكم مرة سمعنا عن شخص سقط في البئر، ولم يخرج؟!

تضفي دلالة الكلمة (السبع) التي تتضمن معنى (الوحش) على المكان طابعا مهيبا؛ ولأن هذه الدلالة هي أول ما يتوارد إلى ذهني عندما أسمع هذا المصطلح (بئر السبع) أقف أمامها وأتساءل: السبع؟! ما المقصود بالسبع؟ وما نوعه من بين الضواري؟ وهل تتمتع هذه المنطقة حقًا بتواجد السباع والوحوش؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا يتمتع هذا الاسم بتلك الهيبة؟ ولماذا يبعث في نفس المتلقي رهبة المكان، وتوخي الحذر، وتوقع المخاطر؟!

ثم تتوالى في ذهني افتراضات الخيال اللفظي والمعنوي لهذه الكلمة، وتاريخها مع المكان. وما أعرفه عن (بئر السبع) اليوم أنه يقع تحت سيطرة الاحتلال اللعين، فهل تشير لفظة (السبع) المقصودة إلى أيدي الاحتلال؟! إن كان الأمر كذلك، يصبح الأولى أن يصير اسم هذه المنطقة (بئر الضبع)، فلا يصير للكلمة هذا التعميم الذي يوحي بالجرأة والقوة، فقد يُنظَر إلى اسم السبع كإفراط في المدح، لا يليق بالواقع القاتم الذي تغيب فيه صفات الجسارة والشهامة التي ترتبط دلاليا بالسباع.

وبالتالي تشكل كلمة (الضبع) عند استبدالها بالسبع واقعًا حقيقيًا؛ حيث تليق بالمحتل وما يتصف به من دناءة، وحقارة، وأرى في احتفاظ المكان باسمه في ظل هذه الظروف القاسية إهانة كبيرة للسباع كافة، حيث يصعب تصور المحتل في صورة السباع، وربما في إطلاق اليهود على هذا المكان اسم (بئر شيبع) ([3])، ما يوحي برعبهم ورهبتهم الحقيقية من لفظة السبع التي قد تعني الوحش.

إن ما يعجبني بصدق في اللغة العربية قدرتها الفائقة على التواصل والاستيعاب، حين تستأثر الكلمة بتنوع دلالي يفوق تصور العقل؛ فكلمة (السبع) في اللغة لم تقتصر على معنى الوحش، بل حملت دلالات أخرى كثيرة، وعبرت عن معان مختلفة، نذكر منها ما ورد في جمهرة اللغة: “السبع من الْعدَد: مَعْرُوف. وَكَانَ الْقَوْم سِتَّة فسبعتهم أَي صرت سابعهم …. وَسبع الشَّيْء: وَاحِد من سَبْعَة”.([4])    

يتضح من ذلك التنوع الدلالي أن التصور الذهني الذي تناولناه في البداية، اقتصر على المعنى الشائع للفظ (السبع)، أو كما أسميه المعنى الأقرب لخيال المتلقي، فإذا سألنا شخصَا لا يستحضر ما للكلمة من دلالات مختلفة، قد يقتصر تصوره لمعناها على ما يرد إلى ذهنه أولا، فيقول: كلمة (السبع) تشير إلى رقم سبعة، ومنه الأسبوع فهو سبعة أيام، هذا المتلقي لا يجهل معنى السبع الذي هو الوحش، لكنه لم يفكر فيه، فكان رقم سبعة هو المعنى الأسرع تواردًا لذهنه. 

ومهما يكن من شيء فإن موطن الدهشة لا يكمن في كلمة السبع وحدها، بل ينشأ عن إضافة الكلمة إلى (البئر)، فكيف نستطيع أن نتخيل بئرًا في صحراء واسعة يحتوي على السباع؟ هل هناك سبع يحرس هذا البئر مثلًا وإليه ينسب؟ وإن كان الأمر كذلك، فما حكاية البئر؟ ولماذا يحرسه (السبع)؟

وإذا كانت الكلمة لا تشير للوحش بل إلى الرقم (سبعة)، فما خصوصية هذا الرقم؟ ولماذا ارتبط اسمه بوجود الماء؟

نتساءل عن أسباب ارتباط الاسم بالماء لا البئر؛ لأن (بئر السبع) ليس المكان الوحيد الذي اختص بكلمة (السبع)، بل إن مصرنا الحبيبة أيضًا، تضم بين أحضانها مدينة مهمة يتصل اسمها بالسبع أيضًا، تسمى (بركة السبع)، وكلما مررت بهذا المكان يتوارد إلى ذهني نفس السؤال، ولكن بتصور مختلف، ومشهدية أكثر اختلافًا، فكأن المكان مرتبط عندي بالضواري والوحوش، لكن هذا المكان في مصر يسمى (بِرْكَة) بينما ذلك المكان في فلسطين يسمى (بئرًا).

ثمة فرق واضح بين كلمتي (بئر، بِرْكَة)، فالبئر: [مفرد]: ج أَبْآر وآبار وأبْؤُر وبئار، وهو حُفْرة عَميقة يُستقى منها الماء، أو يُستخرج منها النِّفط أو الغاز، والشائع تسهيل الهمزة (بير) (مؤنثة وتذكيرها صواب، والبئر الطبيعيَّة: بئر حفرتها مياه الرَّشح، وقيل: هي بئر تنتهي إلى مجرًى مائيّ تحت الأرض. ([5])

أما البِرْكَة: فهي:” كالحوض، والجمع البرك؛ يقال: سميت بذلك لإقامة الماء فيها، والبركة مستنقع الماء. والبركة: شبه حوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض”.([6])

وفي هذا الاختلاف يبن الكلمتين، مفارقة بارزة بين ما تحمله دلالة البئر من تعبير عن العمق والامتداد، وما تحمله كلمة بِركة من دلالة على الاستقرار والسعة والبقاء، وبرغم هذا التشابه بين الاسمين (بئر السبع الفلسطينية، وبركة السبع المصرية)؛ فإن هذا التشابه في لفظ (السبع) يثير في الاذهان أصداء ثقافية متنوعة، فقد لا تحمل دلالة (السبع) في المكانين نفس المعنى، إلا إنها تذكرنا أن الأسماء في ثقافتنا، ليست محايدة.

إن بئر السبع ليست مجرد اسم على الخريطة الفلسطينية، بل رمز وكينونة وذاكرة ممتدة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.

إذن كل ما سبق يدفعنا للتساؤل عن أسباب ارتباط هذا المكان (بئر السبع) باسمه.

(بئر السبع) بلدة في صحراء النقب من أرض فلسطين، يحدها من الشمال جبل الخليل، ومن الشرق البحر الميت ووادي العربة الذي يفصلها عن شرق الأردن، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط وشبه جزيرة سيناء، ومن الجنوب خليج العقبة([7]).

عندما نراجع المصادر المرتبطة بالمكان للبحث عن مفهوم (السبع) وأسباب تسمية المكان بهذا الاسم، نجدها أسبابا دينية خالصة؛ وتروي المصادر عن السّبع أنها:

“قرية بين الرقة ورأس عين، موضع بين القدس والكرك، ويسمى ‌بئر ‌السبع”.([8])، وفي ذكر لفظ السبع في هذا السياق، معرَّفة بالألف واللام تأييد لدلالة الاسم على معنى الوحش، بينما يذكر (ياقوت الحموي) في (معجم البلدان) أن المكان به “سبع آبار سمي الموضع بذلك”([9])، وهذا يؤيد ما يذهب إليه بعض المؤرخين في سبب تسمية المكان باسمه نسبة إلى الآبار السبعة فيه.

وقد ورد في تاريخ الكامل لابن الأثير أن إبراهيم _عليه لسلام_  قد خرج بزوجه (هاجر) بعد أن ولدت له إسماعيل _عليه السلام_ إلى الشام من مصر؛ خوفا من فرعون.

“فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع مسيرة يوم وليلة، فبعثه الله نبيا، وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئرا ومسجدا وكان ماء البئر معينا طاهرا، فآذاه أهل السبع، فانتقل عنهم، فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم، فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز، وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معينا طاهرا فاشربوا منه، ولا تغترف منه امرأة حائض. فخرجوا بالأعنز، فلما وقفت على الماء ظهر إليها، وكانوا يشربون منه، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء إلى الذي هو عليه اليوم.» ([10]).

وورد في نصوص الأسفار روايات تؤيد ما ذُكر في تاريخ الكامل، أوردها (عارف العارف) قائم مقام بير السبع، في كتابه (تاريخ بير السبع وقبائلها) ([11])؛ إذ يرفض المؤلف ما قيل في أسباب تسمية المكان باسمه نسبة إلى الآبار السبعة؛ نظرًا لأن بلدة (بئر سبع) عندما سميت باسمها لم يكن بها إلا بئرًا واحد فقط، كما يرفض انتساب هذه التسمية إلى (السبع) الذي هو الوحش، ويقول إن التسمية الصحيحة هي (بئر سبع) بدون التعريف.

ويؤيد العارف في كتابه الاتجاه الذي يذهب إلى أن البلدة سميت بذلك نسبة إلى العنزات السبع التي دفع بها إبراهيم _عليه السلام_ لأبا مالك (ملك الفلسطينيين)؛ لتبقى هذه الوقعة دليلا على العهد الذي قطعه أبا مالك لنبي الله إبراهيم _عليه السلام_ واعترافا بأنه حفر البئر، كما يشير العارف في كتابه إلى أن المنطقة؛ وفقًا لهذا الحدث تسمى (بئر سبع) لا (بئر السبع).

تبقى الدهشة قائمة، وتظهر المفارقة جلية حين تتشكل صورة المكان في أذهاننا مرتبطة بالسباع والوحوش، ليتضح في النهاية إن السبع المقصود ما هو إلا عدد العنزات التي هي في الحقيقة فريسة السبع.

وهكذا تبقى بئر السبع أو بئر سبع، بين معنى لم يحسم، ودلالة تتشعب من الوحش إلى العدد، من الماء إلى الدم. ربما لا نملك جوابا يقينيا عن (السبع) في الاسم، لكننا نملك دهشة السؤال، وفتنة الكلمة حين تجرنا إلى عمق أبعد من سطح الأرض، إلى بئر تسكنه اللغة لا الماء.

وربما في كل مرة نسمع فيها عن (بئر السبع) يستيقظ بداخلنا روعة المعنى، وهيبة المكان، لا يهم إن كان فيه وحش يحرس الماء، أو رقم يحرس التاريخ، المهم أنه اسم مهيب يحتفظ لنفسه بالقوة والأثر على امتداد التاريخ.