الذات والآخر (الإخوة)

نهلة ناصف

قال الله تعالى في سورة يوسف الآية ٦: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين)

كثيرًا ما نجلس مع أنفسنا ونتساءل: لماذا فعل أخي هذا بي؟ أو لماذا يعاملني أخواتي بهذه الطريقة؟ ونحن دائمًا نعاملهم باللطف ونكون معهم داعمين، حتى لو تخلى الجميع عنهم، ولكن دعونا نتذكر بداية الزمان، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، لماذا؟ هل فعل هابيل شيئًا له؟ هل ارتكب حقًا معصية ضده؟ هل كان حبه لأبيه أكبر من حبه له؟ لا، كل هذا كان بسبب الحقد والكراهية التي كان يحملها في قلبه تجاه أخيه، تمامًا كما فعل أخوة يوسف. فهل كان هذا الصغير يسبب ضررًا لأخواته؟ هل كان يفهم معنى تفرقة الأب في المعاملة؟ لا، وحتى عندما قرر قابيل قتل أخيه، قال له: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي لأقتلك) سورة المائدة الآية ٢٧.

هل شعر بالرأفة تجاه أخيه؟ هل أثرت فيه مشاعر الحنين والانتماء لأخيه وتساؤل كيف يفعل ذلك بشخصٍ ينتمي لنفس العائلة؟ لا، بل أصر على تنفيذ ما كان ينوي فعله، تمامًا كما فعل أخوة يوسف الذي كان صغيرًا وضعيفًا، لم يكن قادرًا على الدفاع عن نفسه أو الفرار منهم، بل تعرض للكراهية والعداء وقتل بدمٍ بارد. وهنا يكمن مفهوم الآية الكريمة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) سورة الشمس من الآية ١٠:٦  

لم يرتكب كلاً من هابيل ويوسف أي ظلم أو ضرر لأخوتهم، إذ كانوا أولاد أنبياء صالحين. ولكن يتضح من خلال هذه القصص أن الإنسان هو المسؤول الأول عن نجاحه أو فشله، وأن سلوك الإنسان يتحكم به ما بداخله من حسد أو حقد. ولهذا السبب ذكر الله في الآية الكريمة: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) سورة يوسف، الآية ٧:٦

فإذا واجهت صعوبات مع أخوتك، فلا تحزن، فكان نبي الله يوسف يعاني من مشاكل مع إخوته ولكنهم أجمعوا علي كرهه لم تكن وحدك في هذه المحنة ولكن أراد الله أن يعلمنا أيضآ أن الاخ أخ وسيظل سندا حينما قال لموسي عليه السلام ( سنشد عضدك بأخيك) سورة القصص من الآية ٣٥:٣٤

لكي نتجسد بهذا المثل ونكون سندًا وعونًا لبعضنا البعض، يجب علينا أن لا نكون مثل أخوة يوسف ولا قابيل. وفي المرات القادمة، يجب علينا أن نفهم النفس واختياراتها إذا أردنا أن نكون من الصالحين وأن نختار أن نكون سندًا وعونًا مثل هارون. بينما إذا اخترنا الفساد في الأرض، فنكون مثل أخوة يوسف وقابيل. ولا يقتصر هذا على الأشقاء الذين يحملون نفس الدم، بل جميعنا إخوة في الله، ويجب علينا أن لا نحمل حقدًا أو حسدًا أو غيرةً تجاه بعضنا البعض. فقد حرم الله الجنة على الحاسد والحاقد، وجميع هذه الخيارات تعود إلى نفوسنا، وعلينا أن نحسن أنفسنا ونصبح أفضل منها. إذا وجدنا من إخوتنا من يحمل لنا الكراهية، فلا نحزن ونتذكر قصة يوسف مع أخواته وقابيل حينما غدروا به أخوه. وعلينا أن نصلح ما بيننا وبين الله حتى يصلح ما بيننا وبين الناس، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) سورة البقرة، الآية ٢٣٥.

أعاذنا الله وإياكم من الحقد والحسد فهو كالنار تأكل في صدورنا مثلما تأكل النار في غصون الشجر.

الله أمركم بعمارة الأرض والشيطان يعدكم الفقر

بقلم بسمة الجوخى

ما يحدث في وقتنا الحالى من أزمة اقتصادية ليس بشئ غريب لأننا بعدنا كل البعد عن تطبيق النظام الاقتصادى الإسلامى. فالنظام الرأسمالى ما هو إلا نظام شيطانى يعد بالفقر فهذا النظام نشأ على أنقاض النظام الإقطاعى فى بيئة علمانية فصلت الدين عن الدولة مثل فصل جزء مهم من الجسد فهذا النظام قتل الضعيف وامتص دماؤه وسرق ثروات البلاد وجعل العالم أشبه بغابة ؛والذين يطبقون هذا النظام يسمعون كلام الشيطان فهو من يعد بالفقر فهم يريدون التخلص من معظم العنصر البشرى فهم أصحاب نظرية الندرة النسبية للموارد الاقتصادية ؛فكرة أن الموارد نادرة نسبيا ولا تكفى لإشباع الحاجات الاقتصادية؛ وهذه نظرية خاطئة لا محالة ونظرية شيطانية فهذا الفكرة غير موجودة فى الدين الإسلامى وتخالف الشرع فهذه الفكرة يدندن بها دائما الكيان الغربى فهل يعقل أن الله سبحانه وتعالى يخلق البشر ولا يوجد ما يكفيها من موارد؛ وقد أمرنا الله تعالى أن نمشى فى مناكب الأرض وأمرنا بعمارة الأرض والبحث عن الموارد واستغلالها على أكمل وجه .

والله سبحانه وتعالى خلق لنا الطبيعة فهى الموارد والقوى التى نستطيع أن نتحصل عليها بدون تحكم من أحد فهى هبة من الله لنا فكيف نرضى بتدخل اتباع الشيطان فى ذلك؟! ففى الوقت الذى حث الإسلام فيه على إتقان العمل وتحسينه واستغلال الموارد وتوزيعها بما يرضى الله لتحقيق العدالة الاجتماعية وفى الوقت الذى حث فيه الإسلام تنمية الموارد الطبيعية واستخدامها بالأساليب المفيدة والمحافظة على المال وتوظيفه وفقا للشريعة؛ فمعروف فى الإسلام أن الإنتاج عصب الحياة وأساس لتعمير الحياة فهو يعين الإنسان على عبادة الله وتلبية احتياجاته.

والمال فى المجتمع المسلم خادم له فهو وسيلة ومعين على حوادث الزمن وزينة الحياة. فكيف تدندن معظم الدول العربية بلسان النظام الرأسمالى وتوافق على نظرية ندرة الموارد ؟! فهم يأخدون المال غاية لدمار الحياة البشرية. لماذا لم تتعامل الدول العربية بنظام الدين الإسلامى ديننا الحنيف بدلا من صناديق الخراب الدولى وما هى إلا صناديق شيطانية تخالف الشرع فكيف نطلب أن الله يزيح علينا غمة ارتفاع الأسعار وهم يحاربون الله وحاشاه ؟! 

فمن المعروف أن العمل فى أى مؤسسة مالية إسلامية قائم على البنود المطابقة للشريعة الإسلامية وهى قواعد أمر الله بها وبالتالى التعامل بالفائدة الربوية تجلب الخراب وهذا شرعا محرم ومردود العائد لابد أن يقوم بنظام العمل والمشاركة والربح والخسارة وليس بدائن ومدين وأيضا بالاستفادة من الموارد والمال وكل عناصر الإنتاج لسد احتياجات البشر فى جميع المجالات فلماذا نترك الكيان الغربى الرأسمالى الشيطانى يتحكم بنا ؟! 

ينبغى التخلى عن النظام الرأسمالى ( نظام الخراب ) ولابد للعمل بالأيدى وبالإكتفاء الذاتى فحين سئل الرسول صل الله عليه وسلم) عن أطيب الكسب فقال ( عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) فقد اشتغل الرسول صل الله عليه وسلم) بالتجارة وعمل بالرعى أجيرا وزرع النخيل بيده الشريفة ولم يرضى ابدا أن يكفية أحد شأن من شؤونه. فلماذا نحن نعتمد على غيرنا فى حين أننا نملك موارد نحسد عليها ونملك عقول نابغة ونملك أيدى عاملة ونملك المال؛ فينبغى أن لا ننتظر أى أراء أو تدخل من الغرب فالنظام الاقتصادى الذى وضعه الله لنا فى الشريعة الإسلامية كفى ووفى.

وقبل ٢٥ يناير كان ممنوع بأوامر الكيان البجح الصهيونية الشيطانية أن يتم زراعة أشجار مثمرة بل زراعة أشجار الزينة فقط وحكومة اتباع الصهيونية وافقت ونفذت الأوامر مثل العبيد فهم ينفذون بدم بارد. أما الآن فيوجد أشجار مثمرة تمت زراعتها وأصبحنا نزرع بالفعل؛ ولكن إلى الآن لم نصل إلى الاكتفاء الذاتي فلماذا تأثرنا بهذه الطريقة المؤسفة من الأزمة الاقتصادية العالمية ؟ فمن ضمن الأسباب هى الهجوم الذى أصبح علنا على مصر والحرب التى أصبحب مكشوفة على الدين الإسلامى ومن ضمن الأسباب أيضا القروض لأنها ليست من قواعد الشريعة الإسلامية فرؤية الإسلام للمشكلة الاقتصادية تكون من خلال رؤية المشكلة نفسها والمشكلة لا تكون فى نقص الموارد أو بخل الطبيعة مثل ما يغنى به النظام الشيطانى الرأسمالى؛ فالله سبحانه وتعالى سخر الموارد وهى تحت طلب الإنسان متى طلبها وأراد استغلالها استغلال صحيح فيجد حاجته ؛ولكن قدرة الفرد الواحد لا تمكنه من الحصول على الكفاية لذلك لابد من العمل الجماعى منظم ومحكم ليصبح الإنتاج كافى للمجتمع؛ والإدارة والتنظيم هى حلقة الوصل بين كل عناصر الإنتاج التى وهبها الله لنا سواء الأرض التى بها موارد يستطيع الإنسان أن يتحصل عليها بدون مجهود كبير ويوجد العنصر البشرى الذى لابد أن يعمل فهو أساسى فى حل المشكلة ويوجد المال الذى لابد وضع حد لعدم سرقته من الخونة وعدم استغلاله فى المحرمات أو إهداره بلا منفعة ويوجد آلات وسائل كثيرة مع المال لاستغلالها بصورة تحل هذه الأزمة ؛فالإدارة ينبغى أن تكون قائمة على تحسين استغلال جميع هذه العناصر لتحقيق الأهداف المنشودة وتحقيق العدالة الاجتماعية ولكفاية الفرد لجميع متطلباته وكفاية المجتمع بضمان جودة انتاج وتوزيع للموارد بما يرضى الله وفق الشريعة الإسلامية والمنهج الذى حبانا به الله عز وجل .

والرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس فعل كثير من هذه الأشياء ولكنه وقع فى أكبر خطأ أوقعه فيه النظام السابق بسبب سرقة مصر مع الصهيونية وهى القروض؛ وما هى إلا شروط لدمار اقتصاد البلاد وإهدار للمال وقبل كل ذلك والأهم فهى حرب مع الله فلنا أن نتخيل ما يمكن حدوثه! إذا ظلت هذه القروض تدخل مصر، فينبغى على الرئيس عبد الفتاح السيسى أن يسير فى طريقه للاكتفاء الذاتى وفى التطوير ولكن يتخلى عن القروض تماما لأنها حرب مع الله وخطة مكحمة لدمار اقتصاد مصر ؛وينبغى على الحكومة السير بالشريعة الإسلامية فى الإدارة والتنظيم لتحقيق الأهداف المنشودة لتحقيق الإكتفاء والعدالة الاجتماعية. 

فالكيان الصهيونى صاحب فكر الرأسمالية كيان جبان لا يجب أن نتركه يتحكم أكثر من ذلك فلابد من وقفة حاسمه لهذا الكيان الشيطانى الضعيف. وكما قلت أن الإسلام ينظر إلى المشكلة الاقتصادية من خلال رؤية المشكلة نفسها ويرى أنها بسبب ظلم الإنسان لنفسه بكفرانه بالنعم التى وهبها الله له ؛وتتجسد المشكلة الاقتصادية فى الاسلام فى سوء التوزيع وفى إهمال الإنسان لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبى تجاهها ؛فمحرم علينا تصديق نظرية الندرة النسبية للموارد وحرام شرعا من يأخد هذه النظرية منهج يسير عليه ؛فهو كفران بنعمة الله وكفران بوعده وكلامه فلا يوجد شئ يسمى نظرية الندرة النسبية فى الإسلام ولا فى كتاب الله بالعكس تماما فقال الله تعالى فى كتابه الكريم ( الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم .

( هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور. وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) 

فهذه الأيات كافية بما وعد الله به الإنسان من تسخير كل شئ للإنسان بإرادة الله؛ فينبغى أن لا يكون الإنسان ظالم لنفسه كافر بنعمة الله؛ يصدق ما تغنى به الرأسمالية وعلى الحكومة أن لا تسمع كلامهم الذى هو كلام الشيطان الذى يعد بالفقر. فينبغى استخدام القدرات التى أودعها الله فى الإنسان لاستغلال الموارد التى أودعها الله فى الأرض ؛للإنتاج الذى يوفر احتياجات الإنسان فالنظام الاقتصادى فى الإسلام شامل فهو منظومة محكمة وضعها الله لصالح الإنسان وينبغى التعامل فى الأزمة الاقتصادية وفق أسس ومبادئ إسلامية مع الإستفادة فقط من أى جوانب إيجابية فى النظريات المختلفة وفقا للنظرة الإسلامية ؛وعلى الفرد والحكومة أن لا تكرر كلام نقص الموارد أو بأن العالم يدخل على مرحلة صعبة بسبب نقص الموارد فهذه نظرية شيطانية ومحرمة ونظرة سلبية وموقف سلبى لا يمد للدين الإسلامى بصلة .

فالسير بالنظام الاقتصادى الإسلامى مع الأخذ بالإيجابيات من النظريات المختلفة فى مواكبة ما يحدث فى عصرنا الحالى وفقا للنظرة الإسلامية فهذا هو الحل للمشكلة الاقتصادية التى نواجهها الآن …

وزير الثقافة يهتم بالثقافة

د.محمد صباح الوتودي

تلعب وزارة الثقافة في قطر دورًا هامًا في تعزيز الثقافة والفنون في البلاد، وتعمل بشكل مستمر على دعم المؤسسات الثقافية وتعزيز الهوية الثقافية للدولة. ولقد عقدت وزارة الثقافة في قطر موسمًا من الندوات والمؤتمرات تحت عنوان “موسم الندوات”، الذي استقطب الكثير من المهتمين في مختلف المجالات. وقد شمل برنامج “موسم الندوات” العديد من المحاضرات في مجالات متعددة، مثل الفن والثقافة والعلوم والتكنولوجيا وغيرها. وتم تنظيم هذه الفعاليات بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وجامعة قطر.

في برنامج “موسم الندوات” الذي عقدته وزارة الثقافة في قطر، كان المتحدث المعماري عبد الواحد الوكيل الذي يعد أحد أهم الشخصيات العربية في مجال المعمار، إذ امتلك مسارًا مهنيًا مميزًا في هذا المجال واستطاع أن يحقق إنجازات مميزة ومشاريع رائعة في مختلف دول العالم. وتكلم المعماري عبد الواحد الوكيل حول موضوع “المعمار في ثقافتنا”، حيث أثرى هذا الموضوع بكلامه عن أساسيات الهندسة المعمارية والفرق بين المجمعات السكنية والأحياء ، وفي خلال حديثه ذكر مشروعا كان قد اشتغل عليه في إحدى الدول وجهز كل الملفات لعرضه على وزير الثقافة آنذاك الذي لم يعره اهتماما ، فعلق على هذه الحادثة بسخرية وذكر أن وزير الثقافة في هذه الدولة يهمه الرقص والفن الهابط ، ولا يهتم بمجال المعمار وتطوره ولا بمجالات تهم بلاده . فأنقذ محاوره الموقف وقال بأسلوب فكاهي، مؤكدًا أن وزير الثقافة لقطر مهتم جدا بمثل هذه الأمور. والملفت هنا أن سعادة الوزير الشيخ عبد الرحمن بن حمد بن جاسم بن حمد آل ثاني كان يجلس في الصفوف الأولى مع الجمهور، فهذا التدخل أثار موجة من الضحك وسط الحاضرين حتى لدى الوزير وكبار الشخصيات الآخرين.

تأتي هذه الحادثة لتؤكد أهمية الثقافة والاهتمام بها، حيث أنها تشمل مجموعة من المجالات المهمة والتي يجب أن يتم الاهتمام بها جميعها، سواء كانت مجال المعمار أو الفنون وغيرها. ولذلك، يجب على الأفراد والجهات المعنية بالثقافة أن يعملوا معًا من أجل تطوير هذه المجالات وتعزيزها، حتى تتمكن المجتمعات من الاستفادة منها والتمتع بها.

ومما أثار إعجابي ودهشتي في آن واحد هو حضور وزير الثقافة لكل جلسات برنامج موسم الندوات. فقد كان يجلس مع الجمهور ويتابع الجلسة من البداية إلى النهاية. فقلت لأصدقائي – من الجزائر والمغرب الذين حضروا معي الندوات – : أن هذا أمر عجيب، وفي بلادنا الهند الديموقراطية قد يأتي الوزير في البداية ليفتتح الجلسة ثم ما يلبث أن ينصرف بعد عشر دقائق على الأكثر.

وفي جلسة أخرى من جلسات موسم الندوات التي كان موضوعها “تاريخ الاندلس”، تدخل شيخ كبير في السن من الجمهور أثناء أوقات طرح الأسئلة (لا أعرف من هو، ربما يكون وزيرا سابقا أو يشغل منصبا حساسا في الدولة)، وقال: “أن نرى لوزير ثقافتنا هذا الاهتمام البارز وانشغاله بما طُرِحَ في هذه الندوة لهو أمر عظيم، والفضل في هذا يرجع إلى أبيه وجده أيضا الذين كان لهما قصب السبق”

جهود الوزارة الثقافة لم تساعد فقط على الترويج لدولة قطر كمحور ثقافي بل أتاحت فرصًا للقطريين رجالا ونساء لاستكشاف تراثهم والتفاعل معه. ودرب الساعي وفعالياته من أهم المثال لهذا الجهد العظيم لوزارة الثقافة في هذا المجال. وهذا معرض عظيم للمواطنين والمقيمين والسياح على حد سواء للاستمتاع بالتراث الثقافي الغني لدولة قطر وتعلم المزيد عن تقاليدها وعاداتها. كما أنها فرصة للشعب القطري للتجمع والاحتفال بالهوية الوطنية والفخر. ويعتبر حدثًا مثيرًا ونابضًا بالحياة يعرض أفضل ما تمتلكه الثقافة والتراث القطري. إنها وجهة لا بد من زيارتها لأي شخص يرغب في الاستمتاع بالتقاليد والعادات الفريدة لهذه الدولة الرائعة. ومع استمرار الدعم من قبل الحكومة، يمكننا التوقع بمزيد من النمو والتطوير في المشهد الثقافي القطري، مما يجعله وجهة أكثر إثارة وديناميكية لعشاق الثقافة من جميع أنحاء العالم.

اليوم الثاني للنكبة

شاعر الجنوب أحمد عزيز الدين أحمد 

أتراني أرحل في صمتٍ خلف الأنواء
طفلاً عابثا أو باحثا عن حب الذات
لا لن أرحل وقيود الذل علي الأرجاء
للقلب القابع بمواطن والجسد خواء
سأضل أدافع وأكافح في ليل جفاء
لا لن تتكسر يا وطني قطعاً أشلاء
بالصمت القابع بكهوف الصمت الخرثاء
لا تخشى العزلة يا وطني فاليوم نداء
وغداً تتشابك أرجائي لصراع الداء
ضربوك وقالوا يا وطني ضربك زلزال
والوهن القابع على أرضك بأيدي جراء
واليوم الرقة تستصرخ والعدم فناء
شريان النيل يتدفق بجسور هواء
لتحمي الرقة ودمشق وكل الإنحاء
والضاد المشتركة تعوي وصداها غذاء
لكن الوطن الممتد لأقصى كالريح هباء
لا تسمع إلا حشرجة وصفير عواء
أعلم يا وطني بأن رحى الأيام تدور
وتقتل فينا نداء العزة بـ يا غوثاء
أطفال دمشق تستصرخ بدون كساء
تحت الأنقاض مسربلة قطعاً أشلاء
أه يا وطني ممتداً والدمع حبيس دماء
أكتب في ليالي نكبتنا والليل جفاء
رسالة في اليوم الثاني لحلب العفراء
طرابلس وبغداد تدمي ودمشق فضاء
صنعاء تحجبها أتربة فوق الأغواء
وحجاب العزة محبوس بدوى حراء
تتلوه العرب بأبنية والذكر كتاب بناء
فمتي تتوحد أمتنا في أرض بلاء
ترتجف الأرض بأقدماً كانت شهباء
للسيف النائم بالغمدِ لصهيل وفاء

الوطن… ذلك الأب المرتبك، قراءة في السيرة الروائية “جمع تكسير” للكاتب الروائي محمد جراح

حسام الدين محمود فراج

“قلت له: أنت تفهمني جيداً؛ وتعرف أن من سمح لتلك الأيدي بأن تمتد؛ هو ذاته من عاد فقطعها بلا أدنى رحمة؛ وفي المسافة ما بين السماح والرفض ثم القطع تكمن كل التفاصيل!”

في كتابه الذي اختار عنوانه بعناية؛ وأراده سيرة روائية لإنسان عادي تحمل عنوان “جمع تكسير”  يسكن الوطن بين مسافات الأسطر ويطل من بين ثنايا الحروف، فكانت مصر حاضرة في وجدان الطفل الذي التقط بعقله، واحتفظ في ذاكرته ما خطه قلمه عندما استدعاه من مخزوته لاحقاً، فكتب عن زراعات القطن وتفتح النوار والذهب الأبيض الذي كان عصباً ورافداً لكل من الدولة والفلاح فيما مضى، وما أن يعي الجمال من حوله ويبتهج به إذا بحرب يونية “حزيران” من عام 1967م تندلع، تلك الحرب التي ربما كانت أحداثها هي المشهد الأبرز الذي تفتحت عليه عين الطفل في تلك السن المبكرة؛ إذ استباحت الطائرات المعادية الأجواء، وصارت تمرح في سماء منطقة منشأة الفناطر الخيرية حيث منزل الطفل وسكنه ولم يكن قد تعدى الثامنة من عمره.

وعلى الرغم من الأمل الذي تبتهج به العيون ويسكن الوجوه المستبشرة للأهل والأقارب والجيران، وبيانات الراديو ومارشاته وأناشيده الحماسية وأغنياته الهادرة بأن الجيش يخوض معاركه، ويحصد ثمار انتصاراته وهو يمضي يحرر الأرض من مغتصبيها؛ إذا بالجميع وقد استيقظوا من حلم يقظنهم على واقع مر وأليم فقد ضاعت سيناء وغزة والضفة العربية والقدس

والجولان، وإذا بالزعيم الذي تتسع خطواته ليعبر من ضفة النهر الى ضفته الأخرى، والمارد الذي باستطاعته أن يأكل كل أرغفة الخبز التي يخبزها فرن البلدة، ذلك البطل الذي كانت تطول هامته فيعلو ويستطيل حتى يمد يديه ليمسك بالطائرات المعادية قد زالت عنه صفاته وخوارقه التي طالما كانت مادة الحديث والتفاخر بين الصغار وهم يلصقون كل خارق من الفعل على زعيم يسمعون عنه ولم يرونه لكنهم يحبونه لأن أهاليهم الفقراء يعشقونه!. فقد ذلك الزعيم في تلك اللحظات السوداء كل ملكاته؛ فبدا مجرد رجل يتخلل الشيب رأسه، ويطل الحزن من بين تجاعيد وجهه الهرم عندما خرج إلى الأمة ببيانه الحزين معلناً مسئوليته عما حدث، وليتنحى ويترك دفة المركب التي تضربها الأنواء لمن سماه من رجاله المحيطين به، ولتنشب في اليوم التالي معركة بين أبناء البلدة بين أولئك النفر الذين تم استئجارهم للهتاف للزعيم، والآخرين الذين ألمهم أن يتخلى عنهم ربانهم وهم في وسط البحر يصارعون الأمواج فخرجوا من تلقاء أنفسهم يعبرون عما تجيش به صدورهم التي تسللت إليها الحسرة على ما كان، هتف الجميع، من قبض ثمن هتافه، ومن عبر عن خلجاته الصادقة لإثناء الزعيم عن قراره بالتنحي، ورفض الهزيمة ومواصلة الكفاح حتى النصر الذي باعدت بينهم وبينه تلك المستجدات الأليمة!.

رأى الطفل فرصد وحكى وأسهب في الحكي عن الرفض الشعبي للهزيمة التي اتخذت عند الناس اسماً مغايراً هو “النكسة” لكن الطفل الذي أرقه ذلك الاسم، أو تلك الصفة لم ير فيما حدث إلا هزيمة، فلماذا لا تسمي الأشياء بمسمياتها الدالة بدلاً من استحضار الأسماء والصفات التي تسكن متاحف اللغة؟!.

حكى الطفل عن المواقع العسكرية التي انتشرت في الحقول وسكنت النهر، وعن المناطيد الضخمة التي كانت تنتفخ بغز الأوكسجين لحماية القناطر من أي طيران معادي بعد تدمير القوة الجوية المصرية في مطاراتها وفي حظائرها وعلى مدرجاتها، كانت فكرة المناطيد تعود إلى الفريق عبد المنعم رياض الذي استشهد على جبهة القتال، وفي تلك الأيام تطوع الجندي عبد الرحيم ليذاكر مع الطفل مقرراته الدراسية فكان بفعله نقطة ضوء أنارت الطريق أمام الطفل الصغير ودفعت به إلى الأمام وسط أقرانه، كان الإيمان بالنصر يسكن الجميع ولم تغادر الثقة في تحققه كبيراً أو صغيراً مهما كانت التضحيات وكان الناس جميعاً في ظهر جيشهم يجودون بكل ما يملكون من أجل المجهود الحربي، ولا يتبرمون عندما يدوس الجنود محاصيلهم ويميتون بأحذيتهم ومعداتهم زراعاتهم وهم يتدربون في الحقول وفي وسط النهر على معارك التحرير!. كانت الحقول بمثابة شواطئ، وكان رافد “الرياح البحيري” بمثابة قناة السويس والنيران المتأججة التي تشبه نيران النابالم تجري وتشتد في اضطرامها على صفحة مائه الهادر غضباً حتى الغليان!. كانت نطاق منطقة القناطر من المناطق التي تم اختيارها للتدريب على معركة العبور وحرب العصابات وغيرها من الحروب والمعرك البرية، وكانت الأفراح والليالي الشعبية بمطربيها الذين يدخنون الحشيش لا تخلو من الغناء للجيش، والتغني ببطولاته وانتصاراته في عملياته المتكررة خلف خطوط العدو فيما عرف بحرب الاستنزاف فعرف الناس اسم المدمرة البحرية الإسرائيلية التي دمرها الأبطال المصريون ولخصت قصتها أغاني شعبية لذلك المطرب الشعبي الحريص على سيجارته ومزاجه!.

تعاقبت سنوات الدراسة الابتدائية للتلميذ الذي رفض زملاء فصله أن يشاركهم اللعب؛ وظلوا ينظرون إليه باعتباره غريباً عنهم لبعد بيته عن البلدة؛ فلم يجمعهم من قبل شارع أو حارة او حتى زقاق من أزقة القرية الصغيرة، لكن الطفل الذي كان لا يعرف أي معنى لليأس استطاع أن يدير أزمته ببراعة ولفت أنظار الجميع إليه؛ فتفوق في دراسته وأشاد به أساتذته حتى نصبوه رئيساً على فصله طوال سنوات دراسته الابتدائية ولم يتخل عن المنصب إلا في السنة السادسة والأخيرة عندما أراد أستاذ آخر اسبداله بزميل له فتقهقر من منصب الرئيس إلى منصب الوكيل تبعاً للاستفتاء الذي أجراه الأستاذ، وكانت تلكم هي المرة الأولى التي يجري فيها مثل ذلك الفعل الديموقراطي!. أعاد التفوق للتلميذ زملاءه الرافضين له من قبل فسعوا إلى مصادقته، والحديث معه، بل وتبادلوا الزيارات!، وربما أراد صاحب السيرة من ذكر ذلك المثال الإشارة إلى أن القوي هو من يستطيع أن يفرض نفسه، ويجبر الآخرين على الاستماع له، فهل كان ما تحقق من نصر في أكتوبر من عام 1973م هو التفسير لذلك المعنى؟!.

  مات عبد الناصر على حين غفلة من الجميع؛ وخرج الناس إلى الشوارع والميادين، كان الجميع مصدوماً وهم ينعون إلى الدنيا الزعيم الذي تركوا له الدفة وسلموه رقابهم وهم يسكنون إلى ظله حتى استيقظوا على ما استيقظوا عليه من عواصف خريفية أتت بالنائب ليكون رئيساً فقوبل باستهجان، وتربص له من تربص، فما كان منه إلا أن أودعهم السجون في حركته التي سماها ثورة التصحيح. كان الرئيس الجديد كثير الكلام والتصريحات وتستهويه المصطلحات والتسميات، فذاك عام الضباب؛ وهذا عام الحسم حتى انتبه الناس من جديد لإذاعتهم التي أذاعت البيان الأول في ظهيرة يوم سبت كان هو رأس الأسبوع الثاني للدراسة في إعدادية القناطر للبنين، بدا اليوم الدراسي للتلميذ كئيباً، وعندما عاد إلى بيته متثاقلاً كانت الحرب قد اندلعت، وتوالت البياتات العسكرية من خلال الراديو، فتحولت الكآبة إلى فرحة، ومثلما أضاف الوطن صفحة جديدة في تاريخ نضاله، استطاعت الإذاعة أن تكتب لنفسها شهادة ميلاد جديدة بدلاً من الصفحة التي ادعت فيها ما ادعت على غير الحقيقة في حرب النكسة التي أكلت الأخضر واليابس.

كان الفتى واعياً لكل ما يدور حوله سواء في محيطه القريب أو على مدى اتساع رقعة الوطن، فرأى النصر ينفلت من بين الأيدي القابضة عليه بدءاً من محاثات الكيلو 101 واتفاقية فض الاشتباك بين القوات على جبهة القتال، ثم الانفتاح الاقتصادي وسياسة الخصخصة والاقتصاد الحر، والبدء في بيع شركات ومصانع القطاع العام، وفتح الباب على مصراعيه للاستيراد غير المبرر وما نتج عنه تباين واضح في المجتمع بين من ضحوا وبذلوا ولم يجنوا الا الفقر والشقاء، وبين أولئك الذين باعوا واشتروا وتاجروا في كل شيء حتى أطعموا الناس أرجل ولحوم الجوارح، وغذاء القطط والكلاب، استشرى الفقر وضرب الناس بسياطه فانتفض الناس في مظاهرات 18 و19 يناير، وبعدها قرر السادات السفر إلى إسرائيل عارضاً السلام حتى أبرم اتفاقية استمرت جولاتها ومباحثاتها على مدى السنتين التاليتين، وما تلا ذلك من قطيعة عربيىة، واعتقالات سبتمبر 1981م، ثم مقتل السادات في زيه العسكري وهو يحتفل بالنصر وسط جنوده وضباطه في منصة شارع النصر.

كان التلميذ قد تفتحت مداركه فهو الذي لفت بأسلوبه وتعبيره نظر مدرس اللغة العربية حتى مال ناحية الكتابة الإبداعية، فبدأها نظماً وشعرا حتى استقر به المقام في مجال الكتابة النثرية في القصة والرواية، ولما أتم دراسته الثانوية كان اسمه وابداعه قد عرف طريقه إلى الصحف والمجلات؛ وطوال سنوات أربع هي مدة دراسته الجامعية كان الفتى قد صار شاباً وأصبح من مرتادي الندوات والأمسيات والصالونات الأدبية والحلقات النقاشية العلمية فالتهم كل ما يصل إليه من كتب سواء في مكتبة مدرسته الثانوية، أو مكتبة بيت الثقافة ثم مكتبة الجامعة ومكتبة المجلس الثقافي البريطاني وغيرها، وتمنى أن يكون من المتفوقين في الجامعة ليضمن انضمامه إلى أعضاء هيئة التدريس بعد تخرجه، لكن الفعاليات الثقافية أثرت على ترتيبه، فتراجع عن المقدمة ليسكن وسط الجموع التي تهوى السير في الأماكن الآمنة، فصار عدداً بعد أن كان رقماً متفرداً طوال سنوات دراسته قبل الجامعية تقريباً!.

في سنوات تكوينه تأثر الفتى بكل ما يحيطه وما يمر به، ففي المدرسة الابتدائية أحبها تلك الفتاة المسيحية ذات البشرة البيضاء والملساء والشعر الذي يشبه في نعومته الحرير، وما أن تقاربا وتحادثا حتى افترقا دون مقدمات عندما انتقلت وأسرتها إلى بلدة أخرى لا يعرفها، ولتترك في قلبه المحب جرحاً استمر ينزف دون علاج حتى تعلق بزميلة الفصل في مدرسته الثانوية المشتركة والتي ربما بادلته شعوره ولم يتجاوز التعبير عن تلك المشاعر البريئة بينهما مرحلة الابتسامات الهادئة، والتلويح الخجل بالأيدي، ولما أراد أن يراها بعد أن استبد به الشوق أثناء دراسته الجامعية ذهب إليها في كليتها ليعود من هناك شبه مطرود لما اكتشف أمن الكلية وجود شاب في كلية للبنات، ولما التقاها بعد ذلك في وسيلة مواصلات بلدتهم عقد النية على التقدم لها، وقبل أن يتخذ قراره كان هناك من سبقه إليها وسافر بها إلى أحدى دول الخليج!.  

كان الفتى مغرماً بالراديو، وتمنى أن يدرس الإعلام؛ لكن مجموع درجاته في الثانوية العامة حاد به عن كلية الإعلام رغم تفوقه، فدرس الآثار والتاريخ، وحظي بالتتلمذ على يد أساتذة أجلاء، وبعد تخرجه عمل بالصحافة ثم جمع بينها وبين عمله بالآثار إلى أن أتته فرصة العمل بالإذاعة ليتحقق حلمه الذي كان يحلم يه مرة واحدة فصار مذيعاً بالإذاعة وليختار بنفسه الخدمة الإذاعية التي سيعمل بها، ولتبدأ مسيرة جديدة في مشواره فأخلص لعمله الذي يعشقه، وأصبح اسماً بارزاً وحاضراً في كل اجتماعات قيادات إذاعته، فنال التكريم وحظي بالترقي والتقدير. 

في الفصول المختلفة للكتاب يتعرض الكاتب لسيرته التي تأثرت وتأذت من قرارات جده العنترية فقد حرم الجد أولاده من العمل ما دام يحيا بينهم؛ فانفرط كثير مما تحت يديه من أراض وعقارات وقطعان، فغادرت الأسرة رفاهيتها وسكنت مناطق الستر وهم يواجهون عواصف الحياة بعد أن مات الجد وتفرق الأعمام!. كان قرار الجد من رأسه دائماً ولم يكن يستمع لنصائح أحد، وكان قرارات الرئيس من رأسه ولا يراجعه فيها أحد، وحصدت الاسرة مثلما حصد الوطن نتائج نلك الرؤى الأحادية، والاستبداد بالرأي حتى لو كان استبداد المستبد العادل، فهل هناك بالفعل من يمكن اعتباره أو تسميته بالمستبد العادل؟!. خلال عمله الإعلامي انفتح على المجتمع، وأصبحت له صداقات هنا وهناك حتى اكتشف أن الإذاعة التي سعى للعمل فيها أملاً في شهرة تصيبه ككاتب أنها هي التي أعاقته وأخرت انطلاقه في عالم الإبداع، وكانت فرصة العمل بالسعودية هي السنوات التي استطاع فيها أن يستعيد نفسه ويعود إلى الكتابة عودة تلميذ كان قد انقطع عن الدرس؛ فاستطاع في تلك السنوات الخمس إعادة ترتيب أولوياته وهناك استطاع الكتابة الإبداعية والصحفية لكبريات الصحف السعودية، وفي تجربة سفره يحكي عن مجتمع مغاير من السعوديين الجنوبيين، يتعرض لملبسهم ومظهرهم ولنبات القات الذي يحرصون على تناوله من خلال مضغه في طقس يومي يسمى ” تخزين”.

في رحلة عمله مع الإعلام يرصد الخطة الممنهجة لإضعاف منظومة الإعلام المصري والتي بدأت في النصف الثاني من سنوات حكم مبارك، واستشرت بعد ذلك حتى أسفرت عن وجهها دونما حياء، ولعل ما عكسته ثورة يناير عن حال مبنى ماسبيرو كان تلخيصاً وافياً للمشهد المرتبك والفقير الذي وصل إليه حال وزارة الإعلام واتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري؛ وتحمل ماسبيرو مع اندلاع أحداث ثورة يناير 2011م فوق طاقته، وبدا وكأنه هو المخطئ في حق الوطن والمواطنين، كان الحمل ثقيلاً، والتحدي مستحيلاً بما يفوق طاقته المنهكة، وفي اللحظة التي شعر فيها العاملون أنهم قادمون من جديد كان قرار إطلاق الكيانات البديلة التي تديرها أجهزة أمنية قد صدر، فجاءت لتزيد من مساحة الفقر الإعلامي المصري المفتقد لعناصر قوته من قبل انطلاقه!، فكيف به يصل برسالته إلى الجماهير ومقدم الرسالة مفتقد إلى أبسط أدواته، ولا يعمل إلا بتعليمات تلك الأجهزة التي ترسم له كل ما سيتلفظ به مع ضيوفه المختارين بعناية، فجاءت تلك الكيانات أشبه بعرائس الماريونت لا تتحرك إلا عندما تمتد إليها يد صاحبها!.

رصد الراوي وكتب أنها كانت هي المرة الأولى تقريباً التي تسعى فيها دولة أو نظام سياسي إلى تدمير جهازه الإعلامي الرسمي لصالح أجهزة أخرى بديلة، ومن أسف ولدت البدائل ضعيفة في فكرها ومحتواها كما سبقت الإشارة، وكان من الطبيعي أن تتقهقر المنظومة الإعلامية إلى الوراء، ولتفقد مصر من ضمن ما فقدت في السنوات الأخيرة واحداً من أهم مقومات قوتها الناعمة، فهي الدولة التي فقدت صتاعة السينما، والطرب، والإنتاج الدرامي في الوقت الذي تقدمت فيه دول شقيقة لتملأ الفراغ بعلم ومعرفة وخطة مستهدفة خصوصاً دول السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة.

ظل الكاتب طوال رحلته مهموماً بوطنه الذي رأى شمسه تكاد أن تنطفئ، لكنها رغم الغيوم كانت ما إن تخبو حتى تعود مشرقة، ظل الوطن حاضراً وهو يكتب عن محيطه القريب ليكتشف في النهاية أنه كان يلخص حال وطنه الكبير، ولتكون تلك الصفحات بمثابة سجل لكل من جايل تلك السنوات التي امتدت منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى العشريتيات من القرن الحادي والعشرين حيث قدم الكاتب فصولاً عبارة عن شذرات من مشواره مع الحياة قد يجنح فيها ناحية سيرته الذاتية التي أخذ منها ما يناسب مقام الحال، ثم صاغه في قالب روائي ولغة سردية متدفقة حتى أنزل ما كتبه منزل الرواية، فجلست حتى تربعت فيه، وكان ما يراه الفتى في ذلك التاريخ زخماً أدركه، وعاشه مع الشعب المصري حتى ركن إليه رامياً بحموله كلها على قيادته ذات الخطى السريعة مرة والمتعجلة في مرات، وفي تلك السنوات البعيدة تفتحت عين الفتى وهي ترصد ما حولها فعاش أحلام الكبار، وفكر بعقولهم، وكان وسطهم مؤمناً أن الحق وأن نال منه الشر فهو لابد وأن ينتصر، وليكتب التاريخ صفحة جديدة في سجل جيش مصر العظيم الذي استطاع أن يقهر القوة التي ادعت أنها لا تقهر. وما بين تحقيق الحلم والعمل انطلق الفتى مجتهداً وراصداً للتحولات المجتمعية التي تحيطه ما بين غلاء ورواتب لا تفي بأي من متطلبات العيش الكريم  

جمع تكسير كتاب ورواية عبارة عن تأريخ لمصر وشعبها خلال فترة عصيبة بدأت واستمرت ولم تنته فصول مأساتها حتى كتابة هذه السطور، ولكأنما كان محمد جراح وهو يكتب لنا من تاريخه وسيرته قد كتب تاريخ مصر والمصريين خلال سنوات تزيد على الخمسين عاماً. وهي رواية وإن رأى كاتبها أنها لا تعدو أن تكون سيرة روائية، فالسرد وترتيب الأحداث وتتابعها؛ والزمن ومساحات التخييل حاضرة في النص من بدايته إلى نهايته حتى في الأجزاء المباشرة لم تفقد الكتابة مقومات السرد الروائي سواء في الحكي المتدفق أو الحوارات بين الراوي وصاحب الذكريات.