حسام الدين محمود فراج
“قلت له: أنت تفهمني جيداً؛ وتعرف أن من سمح لتلك الأيدي بأن تمتد؛ هو ذاته من عاد فقطعها بلا أدنى رحمة؛ وفي المسافة ما بين السماح والرفض ثم القطع تكمن كل التفاصيل!”
في كتابه الذي اختار عنوانه بعناية؛ وأراده سيرة روائية لإنسان عادي تحمل عنوان “جمع تكسير” يسكن الوطن بين مسافات الأسطر ويطل من بين ثنايا الحروف، فكانت مصر حاضرة في وجدان الطفل الذي التقط بعقله، واحتفظ في ذاكرته ما خطه قلمه عندما استدعاه من مخزوته لاحقاً، فكتب عن زراعات القطن وتفتح النوار والذهب الأبيض الذي كان عصباً ورافداً لكل من الدولة والفلاح فيما مضى، وما أن يعي الجمال من حوله ويبتهج به إذا بحرب يونية “حزيران” من عام 1967م تندلع، تلك الحرب التي ربما كانت أحداثها هي المشهد الأبرز الذي تفتحت عليه عين الطفل في تلك السن المبكرة؛ إذ استباحت الطائرات المعادية الأجواء، وصارت تمرح في سماء منطقة منشأة الفناطر الخيرية حيث منزل الطفل وسكنه ولم يكن قد تعدى الثامنة من عمره.
وعلى الرغم من الأمل الذي تبتهج به العيون ويسكن الوجوه المستبشرة للأهل والأقارب والجيران، وبيانات الراديو ومارشاته وأناشيده الحماسية وأغنياته الهادرة بأن الجيش يخوض معاركه، ويحصد ثمار انتصاراته وهو يمضي يحرر الأرض من مغتصبيها؛ إذا بالجميع وقد استيقظوا من حلم يقظنهم على واقع مر وأليم فقد ضاعت سيناء وغزة والضفة العربية والقدس
والجولان، وإذا بالزعيم الذي تتسع خطواته ليعبر من ضفة النهر الى ضفته الأخرى، والمارد الذي باستطاعته أن يأكل كل أرغفة الخبز التي يخبزها فرن البلدة، ذلك البطل الذي كانت تطول هامته فيعلو ويستطيل حتى يمد يديه ليمسك بالطائرات المعادية قد زالت عنه صفاته وخوارقه التي طالما كانت مادة الحديث والتفاخر بين الصغار وهم يلصقون كل خارق من الفعل على زعيم يسمعون عنه ولم يرونه لكنهم يحبونه لأن أهاليهم الفقراء يعشقونه!. فقد ذلك الزعيم في تلك اللحظات السوداء كل ملكاته؛ فبدا مجرد رجل يتخلل الشيب رأسه، ويطل الحزن من بين تجاعيد وجهه الهرم عندما خرج إلى الأمة ببيانه الحزين معلناً مسئوليته عما حدث، وليتنحى ويترك دفة المركب التي تضربها الأنواء لمن سماه من رجاله المحيطين به، ولتنشب في اليوم التالي معركة بين أبناء البلدة بين أولئك النفر الذين تم استئجارهم للهتاف للزعيم، والآخرين الذين ألمهم أن يتخلى عنهم ربانهم وهم في وسط البحر يصارعون الأمواج فخرجوا من تلقاء أنفسهم يعبرون عما تجيش به صدورهم التي تسللت إليها الحسرة على ما كان، هتف الجميع، من قبض ثمن هتافه، ومن عبر عن خلجاته الصادقة لإثناء الزعيم عن قراره بالتنحي، ورفض الهزيمة ومواصلة الكفاح حتى النصر الذي باعدت بينهم وبينه تلك المستجدات الأليمة!.
رأى الطفل فرصد وحكى وأسهب في الحكي عن الرفض الشعبي للهزيمة التي اتخذت عند الناس اسماً مغايراً هو “النكسة” لكن الطفل الذي أرقه ذلك الاسم، أو تلك الصفة لم ير فيما حدث إلا هزيمة، فلماذا لا تسمي الأشياء بمسمياتها الدالة بدلاً من استحضار الأسماء والصفات التي تسكن متاحف اللغة؟!.
حكى الطفل عن المواقع العسكرية التي انتشرت في الحقول وسكنت النهر، وعن المناطيد الضخمة التي كانت تنتفخ بغز الأوكسجين لحماية القناطر من أي طيران معادي بعد تدمير القوة الجوية المصرية في مطاراتها وفي حظائرها وعلى مدرجاتها، كانت فكرة المناطيد تعود إلى الفريق عبد المنعم رياض الذي استشهد على جبهة القتال، وفي تلك الأيام تطوع الجندي عبد الرحيم ليذاكر مع الطفل مقرراته الدراسية فكان بفعله نقطة ضوء أنارت الطريق أمام الطفل الصغير ودفعت به إلى الأمام وسط أقرانه، كان الإيمان بالنصر يسكن الجميع ولم تغادر الثقة في تحققه كبيراً أو صغيراً مهما كانت التضحيات وكان الناس جميعاً في ظهر جيشهم يجودون بكل ما يملكون من أجل المجهود الحربي، ولا يتبرمون عندما يدوس الجنود محاصيلهم ويميتون بأحذيتهم ومعداتهم زراعاتهم وهم يتدربون في الحقول وفي وسط النهر على معارك التحرير!. كانت الحقول بمثابة شواطئ، وكان رافد “الرياح البحيري” بمثابة قناة السويس والنيران المتأججة التي تشبه نيران النابالم تجري وتشتد في اضطرامها على صفحة مائه الهادر غضباً حتى الغليان!. كانت نطاق منطقة القناطر من المناطق التي تم اختيارها للتدريب على معركة العبور وحرب العصابات وغيرها من الحروب والمعرك البرية، وكانت الأفراح والليالي الشعبية بمطربيها الذين يدخنون الحشيش لا تخلو من الغناء للجيش، والتغني ببطولاته وانتصاراته في عملياته المتكررة خلف خطوط العدو فيما عرف بحرب الاستنزاف فعرف الناس اسم المدمرة البحرية الإسرائيلية التي دمرها الأبطال المصريون ولخصت قصتها أغاني شعبية لذلك المطرب الشعبي الحريص على سيجارته ومزاجه!.
تعاقبت سنوات الدراسة الابتدائية للتلميذ الذي رفض زملاء فصله أن يشاركهم اللعب؛ وظلوا ينظرون إليه باعتباره غريباً عنهم لبعد بيته عن البلدة؛ فلم يجمعهم من قبل شارع أو حارة او حتى زقاق من أزقة القرية الصغيرة، لكن الطفل الذي كان لا يعرف أي معنى لليأس استطاع أن يدير أزمته ببراعة ولفت أنظار الجميع إليه؛ فتفوق في دراسته وأشاد به أساتذته حتى نصبوه رئيساً على فصله طوال سنوات دراسته الابتدائية ولم يتخل عن المنصب إلا في السنة السادسة والأخيرة عندما أراد أستاذ آخر اسبداله بزميل له فتقهقر من منصب الرئيس إلى منصب الوكيل تبعاً للاستفتاء الذي أجراه الأستاذ، وكانت تلكم هي المرة الأولى التي يجري فيها مثل ذلك الفعل الديموقراطي!. أعاد التفوق للتلميذ زملاءه الرافضين له من قبل فسعوا إلى مصادقته، والحديث معه، بل وتبادلوا الزيارات!، وربما أراد صاحب السيرة من ذكر ذلك المثال الإشارة إلى أن القوي هو من يستطيع أن يفرض نفسه، ويجبر الآخرين على الاستماع له، فهل كان ما تحقق من نصر في أكتوبر من عام 1973م هو التفسير لذلك المعنى؟!.
مات عبد الناصر على حين غفلة من الجميع؛ وخرج الناس إلى الشوارع والميادين، كان الجميع مصدوماً وهم ينعون إلى الدنيا الزعيم الذي تركوا له الدفة وسلموه رقابهم وهم يسكنون إلى ظله حتى استيقظوا على ما استيقظوا عليه من عواصف خريفية أتت بالنائب ليكون رئيساً فقوبل باستهجان، وتربص له من تربص، فما كان منه إلا أن أودعهم السجون في حركته التي سماها ثورة التصحيح. كان الرئيس الجديد كثير الكلام والتصريحات وتستهويه المصطلحات والتسميات، فذاك عام الضباب؛ وهذا عام الحسم حتى انتبه الناس من جديد لإذاعتهم التي أذاعت البيان الأول في ظهيرة يوم سبت كان هو رأس الأسبوع الثاني للدراسة في إعدادية القناطر للبنين، بدا اليوم الدراسي للتلميذ كئيباً، وعندما عاد إلى بيته متثاقلاً كانت الحرب قد اندلعت، وتوالت البياتات العسكرية من خلال الراديو، فتحولت الكآبة إلى فرحة، ومثلما أضاف الوطن صفحة جديدة في تاريخ نضاله، استطاعت الإذاعة أن تكتب لنفسها شهادة ميلاد جديدة بدلاً من الصفحة التي ادعت فيها ما ادعت على غير الحقيقة في حرب النكسة التي أكلت الأخضر واليابس.
كان الفتى واعياً لكل ما يدور حوله سواء في محيطه القريب أو على مدى اتساع رقعة الوطن، فرأى النصر ينفلت من بين الأيدي القابضة عليه بدءاً من محاثات الكيلو 101 واتفاقية فض الاشتباك بين القوات على جبهة القتال، ثم الانفتاح الاقتصادي وسياسة الخصخصة والاقتصاد الحر، والبدء في بيع شركات ومصانع القطاع العام، وفتح الباب على مصراعيه للاستيراد غير المبرر وما نتج عنه تباين واضح في المجتمع بين من ضحوا وبذلوا ولم يجنوا الا الفقر والشقاء، وبين أولئك الذين باعوا واشتروا وتاجروا في كل شيء حتى أطعموا الناس أرجل ولحوم الجوارح، وغذاء القطط والكلاب، استشرى الفقر وضرب الناس بسياطه فانتفض الناس في مظاهرات 18 و19 يناير، وبعدها قرر السادات السفر إلى إسرائيل عارضاً السلام حتى أبرم اتفاقية استمرت جولاتها ومباحثاتها على مدى السنتين التاليتين، وما تلا ذلك من قطيعة عربيىة، واعتقالات سبتمبر 1981م، ثم مقتل السادات في زيه العسكري وهو يحتفل بالنصر وسط جنوده وضباطه في منصة شارع النصر.
كان التلميذ قد تفتحت مداركه فهو الذي لفت بأسلوبه وتعبيره نظر مدرس اللغة العربية حتى مال ناحية الكتابة الإبداعية، فبدأها نظماً وشعرا حتى استقر به المقام في مجال الكتابة النثرية في القصة والرواية، ولما أتم دراسته الثانوية كان اسمه وابداعه قد عرف طريقه إلى الصحف والمجلات؛ وطوال سنوات أربع هي مدة دراسته الجامعية كان الفتى قد صار شاباً وأصبح من مرتادي الندوات والأمسيات والصالونات الأدبية والحلقات النقاشية العلمية فالتهم كل ما يصل إليه من كتب سواء في مكتبة مدرسته الثانوية، أو مكتبة بيت الثقافة ثم مكتبة الجامعة ومكتبة المجلس الثقافي البريطاني وغيرها، وتمنى أن يكون من المتفوقين في الجامعة ليضمن انضمامه إلى أعضاء هيئة التدريس بعد تخرجه، لكن الفعاليات الثقافية أثرت على ترتيبه، فتراجع عن المقدمة ليسكن وسط الجموع التي تهوى السير في الأماكن الآمنة، فصار عدداً بعد أن كان رقماً متفرداً طوال سنوات دراسته قبل الجامعية تقريباً!.
في سنوات تكوينه تأثر الفتى بكل ما يحيطه وما يمر به، ففي المدرسة الابتدائية أحبها تلك الفتاة المسيحية ذات البشرة البيضاء والملساء والشعر الذي يشبه في نعومته الحرير، وما أن تقاربا وتحادثا حتى افترقا دون مقدمات عندما انتقلت وأسرتها إلى بلدة أخرى لا يعرفها، ولتترك في قلبه المحب جرحاً استمر ينزف دون علاج حتى تعلق بزميلة الفصل في مدرسته الثانوية المشتركة والتي ربما بادلته شعوره ولم يتجاوز التعبير عن تلك المشاعر البريئة بينهما مرحلة الابتسامات الهادئة، والتلويح الخجل بالأيدي، ولما أراد أن يراها بعد أن استبد به الشوق أثناء دراسته الجامعية ذهب إليها في كليتها ليعود من هناك شبه مطرود لما اكتشف أمن الكلية وجود شاب في كلية للبنات، ولما التقاها بعد ذلك في وسيلة مواصلات بلدتهم عقد النية على التقدم لها، وقبل أن يتخذ قراره كان هناك من سبقه إليها وسافر بها إلى أحدى دول الخليج!.
كان الفتى مغرماً بالراديو، وتمنى أن يدرس الإعلام؛ لكن مجموع درجاته في الثانوية العامة حاد به عن كلية الإعلام رغم تفوقه، فدرس الآثار والتاريخ، وحظي بالتتلمذ على يد أساتذة أجلاء، وبعد تخرجه عمل بالصحافة ثم جمع بينها وبين عمله بالآثار إلى أن أتته فرصة العمل بالإذاعة ليتحقق حلمه الذي كان يحلم يه مرة واحدة فصار مذيعاً بالإذاعة وليختار بنفسه الخدمة الإذاعية التي سيعمل بها، ولتبدأ مسيرة جديدة في مشواره فأخلص لعمله الذي يعشقه، وأصبح اسماً بارزاً وحاضراً في كل اجتماعات قيادات إذاعته، فنال التكريم وحظي بالترقي والتقدير.
في الفصول المختلفة للكتاب يتعرض الكاتب لسيرته التي تأثرت وتأذت من قرارات جده العنترية فقد حرم الجد أولاده من العمل ما دام يحيا بينهم؛ فانفرط كثير مما تحت يديه من أراض وعقارات وقطعان، فغادرت الأسرة رفاهيتها وسكنت مناطق الستر وهم يواجهون عواصف الحياة بعد أن مات الجد وتفرق الأعمام!. كان قرار الجد من رأسه دائماً ولم يكن يستمع لنصائح أحد، وكان قرارات الرئيس من رأسه ولا يراجعه فيها أحد، وحصدت الاسرة مثلما حصد الوطن نتائج نلك الرؤى الأحادية، والاستبداد بالرأي حتى لو كان استبداد المستبد العادل، فهل هناك بالفعل من يمكن اعتباره أو تسميته بالمستبد العادل؟!. خلال عمله الإعلامي انفتح على المجتمع، وأصبحت له صداقات هنا وهناك حتى اكتشف أن الإذاعة التي سعى للعمل فيها أملاً في شهرة تصيبه ككاتب أنها هي التي أعاقته وأخرت انطلاقه في عالم الإبداع، وكانت فرصة العمل بالسعودية هي السنوات التي استطاع فيها أن يستعيد نفسه ويعود إلى الكتابة عودة تلميذ كان قد انقطع عن الدرس؛ فاستطاع في تلك السنوات الخمس إعادة ترتيب أولوياته وهناك استطاع الكتابة الإبداعية والصحفية لكبريات الصحف السعودية، وفي تجربة سفره يحكي عن مجتمع مغاير من السعوديين الجنوبيين، يتعرض لملبسهم ومظهرهم ولنبات القات الذي يحرصون على تناوله من خلال مضغه في طقس يومي يسمى ” تخزين”.
في رحلة عمله مع الإعلام يرصد الخطة الممنهجة لإضعاف منظومة الإعلام المصري والتي بدأت في النصف الثاني من سنوات حكم مبارك، واستشرت بعد ذلك حتى أسفرت عن وجهها دونما حياء، ولعل ما عكسته ثورة يناير عن حال مبنى ماسبيرو كان تلخيصاً وافياً للمشهد المرتبك والفقير الذي وصل إليه حال وزارة الإعلام واتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري؛ وتحمل ماسبيرو مع اندلاع أحداث ثورة يناير 2011م فوق طاقته، وبدا وكأنه هو المخطئ في حق الوطن والمواطنين، كان الحمل ثقيلاً، والتحدي مستحيلاً بما يفوق طاقته المنهكة، وفي اللحظة التي شعر فيها العاملون أنهم قادمون من جديد كان قرار إطلاق الكيانات البديلة التي تديرها أجهزة أمنية قد صدر، فجاءت لتزيد من مساحة الفقر الإعلامي المصري المفتقد لعناصر قوته من قبل انطلاقه!، فكيف به يصل برسالته إلى الجماهير ومقدم الرسالة مفتقد إلى أبسط أدواته، ولا يعمل إلا بتعليمات تلك الأجهزة التي ترسم له كل ما سيتلفظ به مع ضيوفه المختارين بعناية، فجاءت تلك الكيانات أشبه بعرائس الماريونت لا تتحرك إلا عندما تمتد إليها يد صاحبها!.
رصد الراوي وكتب أنها كانت هي المرة الأولى تقريباً التي تسعى فيها دولة أو نظام سياسي إلى تدمير جهازه الإعلامي الرسمي لصالح أجهزة أخرى بديلة، ومن أسف ولدت البدائل ضعيفة في فكرها ومحتواها كما سبقت الإشارة، وكان من الطبيعي أن تتقهقر المنظومة الإعلامية إلى الوراء، ولتفقد مصر من ضمن ما فقدت في السنوات الأخيرة واحداً من أهم مقومات قوتها الناعمة، فهي الدولة التي فقدت صتاعة السينما، والطرب، والإنتاج الدرامي في الوقت الذي تقدمت فيه دول شقيقة لتملأ الفراغ بعلم ومعرفة وخطة مستهدفة خصوصاً دول السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة.
ظل الكاتب طوال رحلته مهموماً بوطنه الذي رأى شمسه تكاد أن تنطفئ، لكنها رغم الغيوم كانت ما إن تخبو حتى تعود مشرقة، ظل الوطن حاضراً وهو يكتب عن محيطه القريب ليكتشف في النهاية أنه كان يلخص حال وطنه الكبير، ولتكون تلك الصفحات بمثابة سجل لكل من جايل تلك السنوات التي امتدت منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى العشريتيات من القرن الحادي والعشرين حيث قدم الكاتب فصولاً عبارة عن شذرات من مشواره مع الحياة قد يجنح فيها ناحية سيرته الذاتية التي أخذ منها ما يناسب مقام الحال، ثم صاغه في قالب روائي ولغة سردية متدفقة حتى أنزل ما كتبه منزل الرواية، فجلست حتى تربعت فيه، وكان ما يراه الفتى في ذلك التاريخ زخماً أدركه، وعاشه مع الشعب المصري حتى ركن إليه رامياً بحموله كلها على قيادته ذات الخطى السريعة مرة والمتعجلة في مرات، وفي تلك السنوات البعيدة تفتحت عين الفتى وهي ترصد ما حولها فعاش أحلام الكبار، وفكر بعقولهم، وكان وسطهم مؤمناً أن الحق وأن نال منه الشر فهو لابد وأن ينتصر، وليكتب التاريخ صفحة جديدة في سجل جيش مصر العظيم الذي استطاع أن يقهر القوة التي ادعت أنها لا تقهر. وما بين تحقيق الحلم والعمل انطلق الفتى مجتهداً وراصداً للتحولات المجتمعية التي تحيطه ما بين غلاء ورواتب لا تفي بأي من متطلبات العيش الكريم
جمع تكسير كتاب ورواية عبارة عن تأريخ لمصر وشعبها خلال فترة عصيبة بدأت واستمرت ولم تنته فصول مأساتها حتى كتابة هذه السطور، ولكأنما كان محمد جراح وهو يكتب لنا من تاريخه وسيرته قد كتب تاريخ مصر والمصريين خلال سنوات تزيد على الخمسين عاماً. وهي رواية وإن رأى كاتبها أنها لا تعدو أن تكون سيرة روائية، فالسرد وترتيب الأحداث وتتابعها؛ والزمن ومساحات التخييل حاضرة في النص من بدايته إلى نهايته حتى في الأجزاء المباشرة لم تفقد الكتابة مقومات السرد الروائي سواء في الحكي المتدفق أو الحوارات بين الراوي وصاحب الذكريات.