جوهر الرسالة النبوية وخصوصية الإسلام

صلى عليك الله يَا علم الهُدى

واستبشرت بقدومك الأيّام

ما أحسن الاسم والمسمى، وهو النبي العظيم في سورة عم ، إذا ذكرته هلت الدموع السواكب، وإذا تذكرته أقبلت الذكريات من كل جانب. النبوة أعظم نعم الله على الناس، وهي الطريق الأساسي لتحقيق العبودية، وبما يكتشف الإنسان قيمته الأصلية. كما أنها جزء من نظام الكون ووسيلة لجلب السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة. النبوة واسطة بين الخالق والمخلوق في تبليغ شرعه، وسفارة بين الملك وعبيده، ودعوة من الرحمن الرحيم الخلقه. وفيها دلالة قاطعة على بيان عدم عبثية الخلق، وأن خالقهم لم يتركهم مدى، بل أرسل لهم أنبياءه ورسله ليبلغوهم أوامره و نواهيه وليخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة،

 وذلك حتى لا يتيهون في معترك الحياة بلا مرشد، وحتى يصحح لهم ما قد يدس لهم من أفكار فاسدة تلقى بهم في التهلكة. والنبوة لا تنال بعلم ولا رياضة، ولا تدرك بكثرة طاعة أو عبادة، ولا تأتي بتجويع النفس أو إظملها، وإنما هي محض فضل إلهي ، ومجرد اصطفاء رباني، وأمر اختياري. وقد ختم الله سلسلة النبوة بإرسال سيد الأنبياء محمد . . وعلى الرغم من ختم النبوة اقتضت المشيئة الإلهية في كل عصر ومصر، تحديد الحفاظ على طهارة الفطرة وصفائها، وتنقيتها من كل الشوائب التي قد تحيط بها، والتي قد تشكل حاجزا بين النور والضلال..

وقاعدنا واسوتنا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الإلهي الذي أرسله الله ليقيم صلة روحية بين قوم ضلوا طريقهم في عوالم الجهل الشاسعة وبين خالقهم. وتتجاوز النبوة مجرد نقل الرسالة؛ بل تشمل صحوة عميقة. والإسلام، بخلاف أي دين آخر، يتجذر في الوعي الجماعي من خلال ممارسة العبادة، التي تُجسّد التوحيد الكامل للقلب البشري. وينبغي دراسة هذه الحقائق الجوهرية بالتزامن مع الإشادات التي أشاد بها المثقفون غير المسلمين، مثل تقدير توماس كارليل:  للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كشخصية بطولية، وإدراج مايكل هارت له ضمن أكثر مئة شخصية تاريخية تأثيرًا في العالم. علاوة على ذلك، من الضروري مراعاة جوانب أخرى قد تبدو غير مهمة للمثقفين، لكنها تحمل قيمة كبيرة وتجذب عامة الناس.

لا يشار إلى أي تقليد ديني آخر بمثل هذا الاسم “طاعة الخالق”، وهو اسمٌ يحمل دلالة عميقة. في المقابل، تُعرف معظم الديانات الأخرى عادةً باسم مؤسسها أو قبيلتها، مثل المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية. من ناحية أخرى، يُعرّف الإسلام الدين بأنه دين أو منهج حياة، حيث يُشير “دين الإسلام” تحديدًا إلى منهج حياة مكرس للخالق. يشمل الإسلام جميع جوانب الوجود الإنساني، معززا إيمانا راسخا وذكرا دائمًا لله. بالإضافة إلى الصلوات المفروضة، يُذكر المسلم في كل فعل ووقفة بخالقه وربه. يمتد هذا التذكر والامتنان حتى إلى الأنشطة الدنيوية مثل استخدام دورة المياه أو التفاعل مع الزوج/الزوجة، بالإضافة إلى أمور أوسع نطاقًا تتراوح من الشؤون الشخصية إلى الحوكمة والعلاقات الدولية.

لا نجد في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية عبارة “لله ما لقيصر ولله ما لقيصر”، مما يُبرز الصلة الفريدة بين الإنسان وخالقه في الإسلام. وبإرساء هذه الصلة العميقة، ينفرد الإسلام عن الحركات الروحية الأخرى التي قد تُبعد الناس عن شؤون الدنيا. ويكمن مبرر مايكل هارت: لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم قائدا ضمن قائمة أكثر 100 رجل تأثيرا في التاريخ في نجاحه المنقطع النظير في المجالين الديني والمادي، وهو إنجاز لم يضاهه أي شخصية أخرى في التاريخ. إن وقوع أعظم حدث في الطبيعة ليس ظاهرة دائمة. ويحظى العلماء بتقدير كبير لاكتشافاتهم في المجال الفيزيائي. لا توجد خدمة أعظم من تقريب الكائنات الحية من خالقها. نادرًا ما تحدث أغرب الأمور، إلا عند الضرورة. ما هي الظروف التي تستدعي وجود الأنبياء؟ إنها عندما ينسى الخلق خالقهم. يحدث هذا عندما نبتعد تماما عن الفهم الصحيح لوحدة الخالق.!

وكان هذا هو الوضع في عهد النبي. دعونا نشير إلى كلمات جيبون. هناك جانبان يجب مراعاتهما. أولاً، لم يدخر جيبون، كما يعتقد الكثيرون، جهدًا في مهاجمة الإسلام والنبي بلا هوادة. ومع ذلك، لم يكن نقده حادًا ولا حارا مثل انتقادات أسلافه. ثانيا، يعرف على نطاق واسع بأنه أحد أعظم المؤرخين على مر العصور. لذلك، فإن تصريحاته المؤيدة للإسلام تحمل بلا شك بعض الحقيقة، كما أن مدح الخصم له وزن كبير. ماذا يقول عن تلك الحقبة؟ “… لقد انتهى وجود بني إسرائيل كأمة. لقد أخطأت ديانات العالم خطأ فادحا في نسبة النسل والصحابة إلى الإله الأعلى. في الوثنية العربية البدائية، كانت هذه الجريمة صارخة ووقحة.

أعطى الصابئة، في تسلسلهم السماوي، الأولوية للكوكب الأول، أو الذكاء الأسمى. انكشفت عيوب الفاتح المجوسي في الصراع الدائم بين طبيعتين متعارضتين. سقط مسيحيو القرن السابع، بغباء، في ارتداد أشبه بالوثنية. دارت عبادتهم، الخاصة والعامة، حول الشخصيات والصور. حُجب عرش القدير بحضور الشهداء والقديسين والملائكة. منح زنادقة كوليريديان، الذين ظهروا في أراضي الجزيرة العربية الخصبة، مريم العذراء مكانة الإله، ونسبوا إليها سر الثالوث والتجسد. بدا هذا مناقضًا لمفهوم وحدانية الله، إذ أدخل شخصيات متعددة وأعلن أن يسوع ابن الله. كان هذا فضولًا لا يشبع.!

صورٌ ومشاهد من غزة بعد إعلان انتهاء العدوان: نزع سلاح المجموعات المسلحة وتفكيك بنيتها العسكرية

يشعر المواطنون الفلسطينيون في قطاع غزة بقلقٍ جديدٍ من المليشيات “الفلسطينية” المسلحة التي شكلتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وزودتها بالأسلحة والمعدات والآليات وأدوات القتال المختلفة، ووفرت لها المال والمؤن والمساعدات، وأمنت مناطقها وجهزتها بوسائل اتصالٍ حديثةٍ وآمنةٍ، وشكلت حمايةً لها ولعناصرها ومقراتها، وسهلت حركتها وانتقالها وسياراتها وعرباتها، ونظمت لها دورات عسكرية وأخرى أمنية، وأجرت معها مناوراتٍ مختلفة، وأنشأت لها غرف عملياتٍ ومراكز تنسيقٍ واتصالٍ مع الضباط المكلفين بمتابعتها والمسؤولين عن عملها وتوجيهها، وسهلت انتقال بعض مسؤوليها وسفرهم، إذ شوهد بعض قادتها خارج فلسطين المحتلة، إلى جانب سياراتٍ تحمل لوحاتٍ “أجنبية”.

ومكنت بعضهم من نشر مقالاتٍ وعرض تصوراتهم عن مستقبل قطاع غزة، في كبريات الصحف والمجلات الدولية، والظهور على وسائل الإعلام والحديث عن أدوارهم وعرض مهامهم بكل خسةٍ ونذالةٍ، وضِعةٍ ووقاحة، في مواجهة عناصر حركة حماس والقوى الفلسطينية الأخرى المقاتلة، والاعتراف بالمهام التي نفذوها، والجرائم التي ارتكبوها، والأهداف التي يتطلعون إليها ويعملون على تنفيذها، ولا يتورعون عن الظهور إلى جانب العربات العسكرية والدبابات الإسرائيلية.

لا يشعر قادة هذه المجموعات التي تشبه مليشيا العميل اللبناني أنطوان لحد، قائد جيش لبنان الجنوبي الذي أنشأه العميل سعد حداد، بأنهم خونة وعملاء، وأنهم يعملون جواسيس ضد شعبهم، وأدواتٍ قذرة لدى عدوهم، الذي لا تعنيه حياتهم، ولا يهتم لمصيرهم، ولا يقلق على مستقبلهم إذا تم الاتفاق وثبت وقف إطلاق النار، ومضت خطة السلام المطروحة، فهو أول من سيتخلى عنهم ويتركهم لمصيرهم المحتوم، بل قد يقوم بقتلهم وتصفيتهم والتخلص منهم، لأنهم سيكونون عبئاً عليه دون جدوى، وسيكلفونه الكثير دون طائل لهم أو حاجة ترتجى منهم، بعد أن فضحت أدوارهم، وكشفت شخصياتهم، وعرفت أسماؤهم وعائلاتهم ومناطق إقامتهم وعملهم.

لا يدعم الاحتلال الإسرائيلي هذه المليشيات القذرة وحدة، بل تدعمها جهاتٌ أخرى تتعاون معه، وتتفق وإياه على الهدف والغاية من تشكيلها، وتحاول هذه الجهات المشبوهة الدفاع عنها وتحسين صورتها، وتلميع قادتها، وتلطيف مهامها، وتستخدم لغايتها الخبيثة أقلاماً مأجورةً وأبواقاً أجيرة، ومنصاتٍ قذرة، ولعلها جهاتٌ معروفة لدى الشارع الفلسطيني، إذ سبق لها القيام بمهام تشبهها، ورعت جهاتٍ تعمل عملها، فخربت وأفسدت وقتلت ودمرت، وأظن أنها تراهن على هذه المجموعات، وتتأمل في أن يكون لها دورٌ في مستقبل قطاع غزة، يمكنها من بسط نفوذها، ونشر مفاهيمها، وتحقيق أهدافها، ولو أنها كانت ضد مصالح الشعب وتتعارض مع آماله وتطلعاته.

باتت هذه المجموعات المأجورة المدسوسة، العميلة الخائنة القذرة، تعمل في جنوب قطاع غزة وشماله، وتنتشر في المناطق الذي يتواجد فيها جيش الاحتلال خلف الخط الأصفر، وتستفيد من الحماية التي فرضها على المنطقة، لكنها تخشى مغادرتها والخروج منها، ولا تأمن على حياتها وأمنها خارجها، إذ تتربص بها المقاومة ويلاحقها رجالها، ويدل المواطنون عليهم ويبلغون المقاومة عنهم، في الوقت الذي تلاحقهم عائلاتهم وعشائرهم، التي أعلنت البراءة منهم والتخلي عنهم، وهي تتوعدهم بالقتل والتصفية، وقد أباحت سفك دمائهم والقضاء عليهم، إذ قاموا بعملٍ عارٍ أضر بسمعة عائلاتهم ولطخ شرف عشائرهم، وشوه الصفحات الناصعة لبعضهم، ممن كان لهم فضلٌ وسابقة، ودور رائد في المقاومة.

أمام خطر هذه المجموعات وقذارة أدوارها، وقطعاً للطريق على مستقبل عملهم وتشريع وجودهم، فإنه ينبغي على المفاوضين الفلسطينيين في الدوحة والقاهرة، أن يفرضوا على الطاولة وجوب تفكيكها وتجريدها من سلاحها، وإخراجها عن القانون واعتبارها مجموعاتٍ مارقة ومليشياتٍ خائنةً، وعدم الرأفة بها والتهاون في أمرها، فوجودها خطر يضر بمصالح الشعب الفلسطيني، إذ ستبقى أدوات للاحتلال، تنفذ سياسته، وتؤدي المهام القذرة نيابةً عنه، وتواصل قتل واستهداف قادة ورموز المقاومة الفلسطينية.

يجب أن يكون ملف هذه المليشيات ملفاً أساسياً على طاولة المفاوضات، فهم جزء من الاحتلال وتبع له، فإما أن يتخلوا عنهم وتفكك المجموعات ويسلم قادتها وعناصرها أنفسهم للعدالة الثورية الفلسطينية التي تنظر في أمرهم، وتحكم في جرائمهم، وتنفذ في حقهم الأحكام التي يستحقون، وإما أن يسحبها جيش الاحتلال مع فلول قواته، ويجرها مع عرباته، ويفرد لها حظائر تليق بها بعيداً عن المواطنين الفلسطينيين ومناطقهم، وحذارٌ على المقاومة أن تتهاون معهم، أو تستخف بهم وتغض الطرف عنهم، فهؤلاء سرطانٌ لا علاج له ولا شفاء منه إلا بالاستئصال، ولا نجاة منه إلا بالقضاء عليه، وإلا انتشر واستفحل، وسيطر وتمكن، وفتك وقتل.

وشهد له شاهدون من أهلهم: العلماء الفرنسيون: أعظم الشهادات لشخصية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وإن مما عرفنا وتأكد لدينا بيقين، أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، بعث رحمة لكافة الثقلين: الجن والإنس، والملائكة، وما سخر لهم من الجمادات والنباتات وسائر ما خلق على وجه الأرض. وكان خلقه القرآن، كما شهدت به عائشة أم المؤمنين حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم. وكانت سيرته معطرة محمودة إلى الأبد، مؤثرة في القلوب، مغيرة للأفكار والنفوس، كما سمعنا من تاريخ ودرسنا من قصص، من خضعت نفوسهم وبدلوا دينهم أمام وجهه الشريف وخلقه الكريم، مع أنهم كانوا من زعماء المشركين وأشد الناس للمسلمين عدوى.

وأفضل شهادة عرفها الإنسان لخلقه صلى الله عليه وسلم هي شهادة الله له بالعظمة حين وصفه في كلامه: {إنك لعلى خلق عظيم}. ولكن من الأسف البالغ، كما يكون المدح والذم وجهين لعملة واحدة، متى كان المدح من ناحية كان الذم من ناحية أخرى. فلدينا من قديم الزمان، منذ بدأ دعوة التوحيد، من يفسد في ذلك الجسم الشريف وفي خلقه العظيم بإنتاج أكاذيب وتلفيقات وخرافات ليس لها أي أصل ولا أساس. وصفوفهم تمتد من أبي لهب الذي تبه في أول دعوة قام بها، إلى آخر المستشرقين الذين يستمرون في بذل جهدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته الإسلامية. وأيضا لا أنكر الكتاب والمؤلفين غير المسلمين الذين قاموا برأي عادل منصف بعد إدراك الحق والفهم العميق، حيث وصفوا الرسول بما فيه من أخلاق سنية بلا زيادة ولا نقصان. حتى منهم من قبل الحق ودخل في الإسلام داعيا ومناديا بعد انقضاء شطر أول حياتهم في شتم الرسول ووضعه في قفص الاتهام.

وفي هذه المقالة، يحاول الكاتب على تسليط الضوء على أقوال علماء الفرنسيين المستشرقين غير المسلمين المعترفين في كل أرجاء الغرب والشرق، عن حياة رسول الله وشخصيته التي أثرت في قلوبهم حتى دفعت بعضهم إلى قبول الإسلام والقيام داعيين ومنادين إلى التوحيد.

نحن في عصر قليل فيه من لا يشتكي، ومن لا يتحدث أو يشارك في مناقشة أو كلام عن محمد صلى الله عليه وسلم، مسلما كان أو كافرا. ولكن أكثر ما نسمع فيه من سلبيات ملفقة بعين الحسد والحقد، واتهامات تتهم بعين الغضب والإحن، خاصة من مستشرقي أوروبا المتعصبين على قلوبهم في هدم الإسلام ودحض رسوله صورة وسيرة. كم نسمع ونقرأ يوميا أخبارا تبشع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقلامهم وأقوالهم وأفعالهم، أكثرهم متعصبون في أقلامهم، متطرفون في دينهم، خلطوا السم بالدس والقطن بالبرسيم عند توصيفهم وتعريفهم على النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن من المبقي للآمال والرجاء، أن هناك بعض الكتاب والمؤلفين المنصفين في الكتابة والتعريف بلا أي ميل إلى يمين ولا شمال، ولا زيادة ولا نقصان، كتبوا وأدوا عملهم قائمين على الحق والصدق، ناظرين بعمق الفحص والبحث، أيا كان دينهم وأيا كان رجال الذين يبحثون عنه.

جوستاف لوبون: “محمد بعد الهجرة”

أنقهوا وتنبهوا أيها الحاسدون في خلقه وخلقه، والتفتوا إلى الحقائق وانكصوا مما قلتم فيه، ولمن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم جبارا غليظ الجبين فظا هروبا، ولمن صوره ورسمه مقاتلا دمويا، أن يسمع ويلتفت إلى ما قاله جوستاف لوبون (1841-1931)، أحد أشهر فلاسفة العصر، طبيب ومؤرخ فرنسي عمل في أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا، وكاتب مشهور في علم الآثار وعلم الأنثروبولوجيا. إنه بحث وفحص حياة محمد صلى الله عليه وسلم تحقيقا موضوعيا بلا ميل إلى يمين ولا شمال ولا تعصب، حيث كان مسيحيا. وبعد ألف كتابه المشهور “حضارة العرب”، وفيه شمل بابا عن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم مسمى “محمد بعد الهجرة”، حتى بعد نشره تلقى هذا الباب شهرة أكثر مما حصلت عليه الكتاب بأسه. وبعد تحقيقه وتفحصه لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأثر قلبه بها تأثيرا عميقا حتى أعترف بها وجهر بها في كتابه، حين قال ردا على من يصفه ويتهمه بحب القتال الدموي: “إن محمدا كان يتجلى برباطة جأش عند الشدائد وبالاعتدال عند النصر، وهذه الصفات لا تستوفى إلا في قائد عظيم بعيد عن العشوة وخلق الانتقام”.

وأيضا رد على من يصوره جبارا هاربا لا يشارك في الحرب بل يجبر أصحابه، بقوله: “كان محمد مقاتلا حذقا لا يهرب أمام المخاطر ولا يلقى بنفسه إلى التهلكة، وكان يعلم أصحابه الشجاعة والإقدام”. وأيضا مدح لوبون حكمته في وضع حجر الأسود عند اختلاف العرب وسائر القبائل حين تجديد بناء الكعبة، فقام محمد صلى الله عليه وسلم بحل سديد في تحليل قضية حجر الأسود. وقد امتدح أيضا وحدة أمة العربية حيث قال: “جمع محمد قبل وفاته كلمة العرب وخلق منهم أمة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد، وفي هذه إنجازات كبرى لم تتحقق في ديانتي اليهودية والنصرانية اللتين سبقتا الإسلام”. وقد رد لوبون ردا شديدا سديدا في كتابه على رأي تيودور نولدك في كتابه تاريخ العرب عن ظاهرة الوحي، حيث قال: “إن ظاهرة الوحي ليست بحق، بل هي خرافات لفقهها محمد ونشرها بين أصحابه”.

وما أعترف به وسجله لوبون في كتابه هو شهادة كبرى لصدق الرسول وما ادعى به وأتاه، مع أنه ليس بمسلم بل هو مسيحي أنصف وعدل في قراءته وكتابه حتى أدرك الحق واعترف به. ومن أعظم ما قاله لوبون في صفة النبي التي لا بد من تسجيلها في صفحات التاريخ بحروف الذهب ونقشها: “إذا قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم، كان محمد من أعظم من عرفه التاريخ”. وأيضا قال موصفا معاملة النبي مع قريش: “عامل محمد قريشا الذين ظلوا أعداء له عشرة سنين بلطف وحلم، وأنقذهم من ثورة أصحابه على ما مروا به من مشقة، مكتفيا بمسح سور الكعبة وتطهيرها من الأصنام التي أمر بإسقاطها على وجوهها وطهرها”.

ألفونس دي لامارتين: في تعريف النبي صلى الله عليه وسلم

لامارتين الشاعر الفرنسي العالم الشهير، أحد كبار مؤيدي الثورة الفرنسية وأحد النبلاء الفرنسيين، إنه درس عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبحث موضوعيا وكتب كتابا مسمى تاريخ التركية، وفيه شمل فصلا عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نظر إليه بعين العدل والإنصاف بلا تعصب ولا ميل، مع أنه مسيحي الدين، ولم يعامله كما يعامله أكثر كتاب المستشرقين. وأنا أضيف هنا قوله المشهور الذي قاله في رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ذا الذي يجريء من ناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد، وهو الرجل الذي أظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان”. وأيضا قال مخاطبا قومه: “أترون محمدا صاحب خداع وتدليس وصاحب الأباطيل؟ أقول لا، بعد علمنا بالتاريخ وفحصنا لسيرته، وأن الخداع والتدليس والباطل والإفك وكل تلك الصفات هي التي ألصقت بمن وصف محمدا بها”.

وأيضا قال لامارتين ردا على من يصفه صاحب إمبراطورية عاشق للظلم والعنف، بقوله: “لم يطمع محمد إلى تكوين إمبراطورية، حتى بعد ما حصل على فرص زاخرة من فتحات ونصر، بل قام بالدعوة الخالصة إلى الدين بلا إكراه كما أمر به القرآن حيث {لا إكراه في الدين}”. وأيضا سجل في كتابه أنه يتهم العلماء عليه اتهامات لأنه صاحب دين باطل وأفكار مزيقة، وأنا أيضا كنت منهم، ولكن بعد ما نظرت وبحثت في سيرته، أدركت عنه أنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات وعلى كل ما ينتهاك قيم الإنسانية. فأي شهادة أو حجة يحتاج المستشرقون لتصديق النبي وسيرته أقوى من شهادة بعض المعترفين بينهم من قومهم؟ في الحقيقة، إنما لم يعترفوا به بسبب عنادهم وكرههم له، بل جعل الله في قلوبهم مرضا وفي آذانهم وقرا.

سيديو لويس: في وصف النبي صلى الله عليه وسلم

سيديو لويس (1808-1875)، مؤرخ ومستشرق فرنسي، وهو الابن الثاني لجان جاك إيمانويل سيديو، اهتم بدراسة التراث الشرقي، وقد طار صيته على مستوى العالم بكتابه المشهور خلاصة تاريخ العرب. وقد لخص عن محمد صلى الله عليه وسلم بقوله بعد تحقيق وتفحص عنه في كتابه: “لم يأت محمد بدين خاص بالعرب كما يتهمه به بعض المستشرقين، ولكن في الحقيقة هو دين إلهي لكافة الثقلين، ليس لجزيرة العرب فقط، كما أخطأوا بسبب أنه نزل بالعرب”. هذه هي شهادة كبرى ورد هائل لمن قام بالتلفيقات ضد محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أحد المستشرقين المعترفين بينهم بالإنصاف والعدل.

ما قاله هليار بلوك: في محمد صلى الله عليه وسلم

هليار بلوك، مستشرق فرنسي وكاتب وأحد النبلاء المشهورين، حيث بحث ودرس عن العرب وحضارتهم وعن حياة الرسول، وأعلن بعد إدراك الحق أنه لم يخرج العرب للسلب والنهب وإنما خرجوا لنشر دين محمد ونشر المثل العليا. هذه الأقوال أصبحت مثيرة للجدل ومتداولة بكثرة، لأنه شهد بها وهو مسيحي معترف على مستوى العالم. وأيضا في كتابه محمد والقرآن، إن انتشار رسالة الإسلام معجزة حملت للإنسانية الخير والعطاء.

لويس شارل أنطوان دوزيه : في محمد صلى الله عليه وسلم

لويس شارل أنطوان دوزيه (1768-1800)، مستشرق فرنسي وكان جنرالا وبطلا قوميا. وما قاله دوزيه بعد تخصص وتمحيص في سيرة النبي: “قام محمد بإصلاح العباد وتهذيبهم عن الفساد وإرشادهم إلى الدين الصحيح”، أصبح رعدا وبرقا على من وصفه بالفساد وتخريب الأديان والأفكار، لأنه لا وجه لمسبين لمخالفته لسبب أنه منهم بل هو معترف بينهم.

إميل درغيم: في محمد صلى الله عليه وسلم

إميل درغيم (1858-1917)، مستشرق فرنسي وشخصية مشهورة في علم الاجتماع. حيث شهد ومدح حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “كان محمد حليما رفيقا رقيق القلب”. من هذه الشهادة يتبين كالشمس البازغة في رابعة النهار أنه لا يمكن لأحد أن يستر الحق إلى الأبد، بل إنه سيخرج إلى النور ويخيم بكل أطيافه فوق كل الأكاذيب والأباطيل. وأيضا شهد درغيم برحمته صلى الله عليه وسلم.

جول لايوم: في محمد صلى الله عليه وسلم

وما قاله وشهد به المستشرق الفرنسي جول لايوم (1806-1876)، صاحب كتاب تفصيل آيات القرآن الكريم (كتاب ألفه باللغة الفرنسية وترجمه محمد فؤاد عبد الباقي إلى العربية): “خلص محمد الأمم من تحجرها ورفعها إلى سبيل الرقي والعمران”، كان ضربا صارما وهبة شديدة لمن زعم أن الإسلام دين القرن السادس ليس فيه تجديد ولا تحديث بل القدم والقديم فقط.

محمد الرسول صلى الله عليه وسلم صفحة مفتوحة أمام القراء، السطور فيها يقرأ ويفهم على حسب قصد القارئ ووجهته. فمن سلم قصده لوجد الحق واستسلم، ومن فسد غرضه لكتم الحق وأنكره. وما سجلت أمامكم من اقتباسات للعلماء المنصفين القائمين للحق، هي شهادات انبثقت من شغف القلوب تعكس صدق صاحبها وتخرج الحقائق المسطورة وراء مظهر الأكاذيب. كما قال الشاعر: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد، وينكر الفم طعم الماء من سقم، ضوء شخصية محمد صلى الله عليه وسلم أمام المنكرين لعظمته والحاسدين في رفعته قريب المكان لكن بعيد المنال. سيستضيء نوره فوق كل الأنوار، لأن نوره من نور الله جل وعلا.


هوس المظاهر وعقدة النقص

من المؤلم أن نرى أبناء خير أمة أخرجت للناس يتسابقون في التفاخر والتباهي بما يملكونه من سيارات ويخوت وساعات وحقائب وذهب وكل ما يشد العين والقلب، وخاصة في سفراتهم وجولاتهم في العديد من العواصم العالمية، ولو كانوا يحتفظون ببذخهم ورفاهيتهم لأنفسهم لاحترمنا عقولهم وإدراكهم ولكن الكثير منهم من المتباهين والمتفاخرين يوثقون سفراتهم على حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي منذ دخولهم قاعة الدرجة الأولى وهم يرتدون أغلى الملابس والساعات والحقائب من الماركات العالمية، وعند ركوبهم مقصورة الدرجة الأولى أو رجال الأعمال، وصولاً إلى وصولهم إلى وجهتهم التي يحرصون أن تكون في أغلى الوجهات من حيث أسعار الفنادق والمطاعم والسيارات الفارهة، ليبدأ حينها في رفع نسبة التفاخر والتباهي بما يملكه ويغمره شعور عظيم بأنه ليس هناك في الأرض من هو أعظم ولا «أكشخ» منه، فيمشي في الأرض مرحاً ظناً منه أن الإكبار والإعجاب لا يأتي إلا باستعراض المظاهر والهيئة وبهالة من الغرور والتفاخر.

شخّص أحد الاستشاريين النفسيين هذه الحالة بأنه (اضطراب نفسي) يُعرف علمياً باسم هوس المظاهر أو الهوس بالمكانة الاجتماعية (Status Anxiety). 

وذلك عبر الاستعراض وهو نمط سلوكي يتسم بانشغال مفرط في عرض مظاهر الرفاهية أو الثراء أو النجاح أمام الآخرين، وذلك غالباً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الحصول على الإعجاب أو الاعتراف الاجتماعي، حتى لو كان ذلك على حساب الواقع المالي أو النفسي للفرد.

ويوضح هذا الاستشاري بأن الأعراض أو المؤشرات التي قد تظهر على الشخص الذي يعاني من هوس إبراز المكانة الاجتماعية عبر الاستعراض تختلف بحسب شدة الحالة، لكنها غالباً تكون على شكل سلوكيات متكررة على وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال نشر مستمر لصور وفيديوهات تُظهر السفر، الفنادق الفاخرة، المطاعم الراقية، المشتريات الباهظة، والتركيز على إظهار العلامات التجارية الفاخرة أو تفاصيل الدرجة الأولى في السفر، والتقاط الصور بشكل متعمد في أماكن أو أوضاع تدل على الثراء أو المكانة الاجتماعية.

كما أن للدوافع الداخلية للشخص دورا كبيرا في هذه الحالة من خلال الشعور بالرضا أو القيمة الذاتية فقط عند الحصول على إعجاب أو تعليقات إيجابية من الآخرين، وحالة من القلق أو الانزعاج إذا لم تلقَ هذه المنشورات التفاعل المتوقع، والسعي للمقارنة مع الآخرين ومحاولة التفوق عليهم في المظاهر.

ويرى الاستشاري النفسي أن أنماط تفكير هذه النوعية من البشر تتمحور في عدة أمور؛ بدءًا من اعتقادهم وقناعتهم التامة بأن المكانة الاجتماعية تعتمد أساساً على المظاهر المادية، ثم المبالغة في أهمية رأي الآخرين والانشغال الدائم بكيفية نظرتهم إليهم، وقياس النجاح الشخصي بما يمتلكونه أو يعرضونه لا بما يحققونه فعلياً. أما التأثيرات السلبية المحتملة على هذه العينة فقد لخصها في ثلاثة جوانب؛ مالياً من خلال إنفاق مبالغ كبيرة أو فوق القدرة المالية للحفاظ على الصورة التي يريد إظهارها، ونفسياً عندما يشعر دائماً بعدم الاكتفاء أو الخوف من فقدان الانبهار من الآخرين، واجتماعياً من خلال بناء علاقات سطحية قائمة على الانطباع الخارجي بدلاً من الحقيقي.

ومن وجهة نظره العلمية النفسية يرى بأنه لا علاج لهذه العينة إلا من خلال إخضاعهم لبرامج وقائية ونفسية تبدأ من الوعي الذاتي والتثقيف النفسي بمساعدتهم على إدراك أن قيمتهم ليست مرتبطة بالمظاهر أو بآراء الآخرين، وتوعيتهم بمخاطر الإنفاق المفرط لمجاراة صورة اجتماعية معينة، وأيضا العلاج المعرفي السلوكي من خلال تعديل الأفكار المشوهة حول النجاح والمكانة الاجتماعية، وتأتي باستبدال السلوكيات الاستعراضية بسلوكيات مبنية على القيم الحقيقية والإنجازات الواقعية، أو بالعلاج النفسي العميق والذي يُقصد به أنه إذا كان الهوس بالمظاهر مرتبطاً بجروح نفسية قديمة (مثل نقص القبول في الطفولة أو الشعور بالدونية).

ومن ضمن البرامج الوقائية تقليل الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال وضع أوقات محددة لاستخدام المنصات الاجتماعية، والتوقف المؤقت عن نشر المحتوى الذي يهدف فقط لإبراز المظاهر، واستبدالها بمتابعة حسابات ملهمة تركز على نشر القيم أو الإنجازات الفعلية. عند تحقيق أهداف هذه البرامج الوقائية سيصل الشخص إلى مرحلة إعادة مفهوم النجاح من خلال التركيز على المهارات والعلاقات الحقيقية والإنجازات العملية بدلاً من إبرازه للمظاهر، وتحديد أهداف شخصية ومهنية لا تعتمد على رضا الجمهور، وكل ما سبق من برامج وقائية لا شك بأنها تحتاج إلى دعم اجتماعي من خلال إحاطة النفس بأشخاص يُقدّرون الجوهر ويتجاهلون المظاهر الزائلة، ويترجمونها من خلال المشاركة في الهوايات والأنشطة التي لا يمكن قياسها بالمكانة المادية مثل (التطوع، التعلم، الرياضة). خلاصة هذه الدراسة تتلخص بحقيقة جلية تؤكد بأن هذه العينة التي زادت أعدادها كثيراً في وقتنا الحاضر ليسوا إلا مرضى نفسيين يعانون من (عقدة النقص) يُعظمون أنفسهم وهم في نظر المجتمع ليس لهم أي قيمة.

قفي ساعة: وقفة تأملية نقدية في الحزن عند تميم البرغوثي

لتميم البرغوثي أبيات تجسد صراعا داخليا بين شاعر مرهف الإحساس، وحزن له سطوة المقاتل الشرس، وهذه الأبيات من أبياته الأثيرة عندي، ولذلك آثرت الوقوف معها قليلا وتأملها، اقتبستها من قصيدته (قفي ساعة) التي خلد فيها قصة ( الطفل الشهيد محمد جمال الدرة) عليه رحمة الله، والحزن عند تميم ليس مجرد حزن ذاتي، بل هو حزن أمة، وله جذور سياسية/ وجدانية، مما يعطي طابعا كونيًا لهذا (الحزن الرفيق).
تستهل القصيدة باستيقاف المتلقي، على عادة العرب قديما في معلقاتهم، وكأنها تشكل حالة من الأصالة، كما تشكل امتدادا للجذور، وكأن الشاعر يريد من البداية أن يلفت انتباه المستمعين إلى أهمية الخطاب الذي سيتلوه على مسامعهم، فهو يوجه خطابا شخصيا مباشرا بصيغة طلبية للمؤنث في قوله:
قِفي ساعةً يفديكِ قَوْلي وقائِلُهْ ..
ولا تَخْذِلي مَنْ باتَ والدهرُ خاذِلُهْ..

حيث يبدأ الخطاب بطلب إنشائي ودعوة رقيقة للاستماع إلى شجون أليمة، عبر عنه صيغة الفعل الأمر المتصل بياء المخاطبة المؤنثة في قوله (قفي) محددا مهلة الخطاب بلفظة (ساعة)؛ بغرض الإفصاح عن بعض الأمور الهامة (من الهم) والمهمة (من الأهمية) مما يثقل قلب لشاعر ويستدعي الإنصات، ثم يتبع الشاعر الطلب الأول بطلب آخر جاء في صورة الدعاء ( يفديك قولي وقائله)، لإضفاء مزيد من التوسل والاستعطاف.
وفي النص نداء مضمر إلى هذه السيدة التي يدعوها الشاعر للتوقف وتبادل الحديث معه، لعلها إن سمعته أن تخفف بعض شجونه التي لا يستطيع غيرها أن يخففها، ولا ينفك الشاعر يستخدم الاساليب الطلبية في تمرير رسالته المحملة بشحنات من الرجاء في قبول الدعوة وعدم التخلي عنه في ساعة هو أحوج ما يكون فيها إلى أذن مصغية تحمل عنه همومه.
يهدف هذا التنوع الأسلوبي إلى استمالة المخاطبة المقصودة، ومن ذلك قوله ( ولا تخذلي من بات والدهر خاذله)، إذ إن فيها دعوة حقيقية وادعاء صادق على خذلان الدهر للشاعر؛ فحين تجتمع الهموم وتجثم على القلب يبحث المرء عمن يستمع إليه ويخفف عنه، لكن يبدو من الخطاب أن الشاعر يستميل امرأة معرضة، لا تشغلها همومه ولا تعنيها، ولذلك نراه يلجأ للتنوع الأسلوبي في عرض شكواه وشجونه.
ولكن تُرى من تكون هذه المرأة؟ ولماذا يبذل الشاعر جهده كي يُسمعها؟ هذا ما لم يخبرنا به الشاعر، بل ترك للمتلقي حرية التأويل، وإن كنت أرى أن الشاعر يخاطب (الأمة المُعْرِضَة) لتقف وتعي ما يحدث حولها، لعلها تفيق من غفلتها، قبل أن يفوت أوان النجاة.
تأتي لفظة (الدهر) في موضعها معرفة بأل، للدلالة على ترصد الدهر لهذا الشاعر، واجتماعه على خذلانه، وليصف الشاعر عمق شعوره بالخذلان، لم يخذله فرد أو شخص، بل دهر لا يعرف سوى الخذلان المقيت.
تبرز ملامح الحزن وترتسم في قصيدة (قفي ساعة) في مقطع شعري متماسك يتكون من خمسة أبيات متتالية، يتمثل فيها الحزن للشاعر رفيقا معلومًا، تتصاعد سطوته تدريجيا حتى تبلغ ذروتها فتتكشف حقيقته المقيتة، إذ يتمثل له كيانا مرعبًا يتحكم في حياته وموته، وإذا تتبعنا (الحزن) من بداية نص القصيدة، نطالعه في البيت الرابع منها في قوله:
بإحدى الرزايا ابكِ الرزايا جميعها ..
كذلك يدعو غائبُ الحزنِ ماثلُهْ..

في مقدور مصيبة واحدة أن تشعل نيران حزن لا يطفئها البكاء، فهي كفيلة بأن توقظ في قلبك كل الأحزان التي مرت، فإذا حضر الحزن استدعي كل حزن غابر، لتتمثل أمامك أحزانك حزنًا واحدا، فكما أن الحزن الحاضر يوقظ الحزن الغائب، كذلك رزية واحدة قد تستدعي وتوقظ كل ما كان قبلها من رزايا وأوجاع.
يبرز الحزن في هذا البيت في صورة الداعي الذي إن حضر وجبت دعوة الغائبين للقائه والمثول في حضرته، وهي استعارة تشخصن الحزن وتجعل له سلطانا وهيمنة وهيبة، والحزن لا ينفصل عن الرزايا، فهو قرينها، فمتى جاءت الرزايا، حضر الحزن لاستقبالها والبكاء عليها.
ويلاحظ ورود الحزن (فردًا) إلا أن الرزايا وردت فردًا وجمعًا، وهذه مقابلة لافتة، إذ يلتقي الحزن الفرد مع الرزايا جميعها للبكاء عليها، وهذا مبالغة في قدرة الحزن واحتوائه على فرادته للمصائب وإن كانت جمعًا، وفي البيت تشبيه للمصيبة وهي تستدعي أخواتها من الرزايا كما يستدعي الحزن ماضيه.
هذا الحزن وإن بدا ذاتيا في ظاهره، إلا إنه يشير في عمقه إلى حزن جماعي سياسي/ إنساني، فالرزايا التي تستدعي بعضها لا تقتصر على آلام شخصية، وإنما تتسع لتشمل رزايا أمة تعيش الهزيمة تلو الأخرى، مما يجعل من الحزن في هذا الموضع حزنًا كونيا، ذا طابع جمعي يتجاوز حدود الذات إلى آفاق الأمة.
ينتقل الشاعر في البيت التاسع من القصيدة ليباغت المتلقي بإعلان مباشر أفصح فيه عن ارتباطه القديم بالحزن ارتباط جعله قادرا على استشراف ما قد يصيبه لاحقا، نتيجة لهذه المعرفة العميقة بالحزن، وتتجلى مظاهر هذا الوعي في استخدامه صيغة اسم الفاعل (عالم) في قوله:
أَنَا عَالِمٌ بالحُزْنِ مُنْذُ طُفُولَتي ..
رفيقي فما أُخْطِيهِ حينَ أُقَابِلُهْ..

مشيرًا إلى أن الحزن لم يكن وليد لحظة عابرة، أو موقفا منسيا في ذاكرته، بل حزن أزلي نشأ معه في طفولته وصاحبه بقية حياته واستمر معه حتى بات جزءا لا ينفصل عن مصيره.
حتى إن غاب هذا الحزن الصاحب (الرفيق) ساعة، فإن الشاعر لا يخطئه حين يلقاه، ويتضح هذا المعنى في نفيه للفعل المضارع (فما أخطيه) إلى جانب تخفيف الهمزة في لفظة (أخطئه)، مما يوحي بسهولة التعرف عليه، ويضفي على علاقتهما طابع الألفة المعتادة، كما تؤكد لفظة (حين) ديمومة اللقاء بينهما، وكأن الحزن ضيف دائم بلا موعد مسبق.
وتتجلى في هذا البيت ملامح الاستعارة حين يصور الحزن الذي يلقاه على هيئة رفيق قديم لا يُنسى، مهما طال الفراق، فقد استطاع هذا الحزن أن يحتفظ بملامحه القاسية وهيبته، مما يمكن الشاعر من تمييزه كلما شعر بقربه، فحين استعار له الرفقة واللقاء، تجسد الحزن في هيئة صديق لدود، فرض حضوره مرارا بقسوة، يعرفها الشاعر حق المعرفة.
يسترسل تميم بعد ذلك وصفه لذلك الرفيق القاسي، قائلا:
وإنَّ لَهُ كَفَّاً إذا ما أَرَاحَها..
عَلَى جَبَلٍ ما قَامَ بالكَفِّ كَاهِلُهْ..

ويلاحظ هيمنة أسلوب الشرط على وصف الحزن في هذا البيت إذ تنشأ عنه صورة ترتسم فيها ملامح القسوة والقوة المرعبة الكامنة في الحزن، وقد ورد الشرط في البيت بأداته ( إذا) وفعله (أراح) المسبوق بما الزائدة لتوكيد المعنى، وفعل الجواب (قام) المسبوق بما النافية لنفي قدرة الجبل على تحمل الكف، مما يدعم القوة الخارقة للحزن، وكأنه مخلوق أو كيان أسطوري.
وتكرار الحرف (ما) في البيت لم يرد اعتباطا، بل ورد ليضفي نغمة موسيقية ثقيلة تتناسب مع ثقل الكف وثقل المعنى، ويفيد التكرار توكيد المعنى وإحكامه، فوجود (ما) مرتين يبرز التحول الدرامي من وضع الكف بهدوء إلى انهيار الجبل.
نكرت (كف) تعظيما لسطوتها، فهي ليست كفا عاديا، بل كف تتفوق على التصور، بينما وردت كلمة (جبل) نكرة للدلالة على العموم أو التهويل، بمعنى أن أي جبل مهما بلغت ضخامته وقوته لا يستطيع الصمود أمام هذا الكف، ويفهم من هذا أن الحزن يمتلك قدرة مدمرة، لأن مجرد ملامسة الكف للجبل تهدمه، فما بالنا لو ضربه أو ضغط عليه؟ فالتنكير هنا يخدم المبالغة في التصوير البلاغي للقوة.
وتتضح ملامح الاستعارة أكثر حين يتجسد الحزن كيانا قاسيا ثقيلا، فإذا كان الجبل لا يصمد أمام هذا الكف الرهيب، فكيف بقلب شاعر نحيل، يلتقي بالحزن كل حين؟
ينتقل الشعر إلى البيت التالي مصورا تصرفات الحزن ذو الكف المخيف معه، في قوله:
يُقَلِّبُني رأساً على عَقِبٍ بها..
كما أَمْسَكَتْ سَاقَ الوَلِيدِ قَوَابِلُهْ..

حيث يبالغ الشاعر في وصف أفعال رفيقه الحزن به، حين يقابله، ويبدو أن لقاء الحزن الرفيق من أقسى لقاءات الشاعر، إذ تنفي أفعاله القاسية بالشاعر صحبته الطيبة، فإذا كانت المفردتان (عالم، رفيقي) يشيران إلى ألفة واستئناس، فإن هذا البيت يكشف عن الوجه الآخر لهذا الرفيق، وجه الجبروت والقسوة، إذ نراه يقلب الشاعر رأسا على عقب، لا قلبًا للوجدان فحسب، بل تمزيقًا لكيانه كله.
ويعبر عن ذلك الفعل المضارع الذي استهل به البيت مع شدة على اللام ( يقلِّبني) لإظهار المبالغة في سلطة الحزن وسطوته إذ يكون الشاعر في يده كالوليد في يد القابلة، حين تقلبه وتمسكه من ساق واحدة فينقلب رأسه لأسفل، إلا أن الحزن لا يقلب الشاعر رأسا على عقب فقط بل يقلِّبه أي يتحكم فيه بعدما يفقده قدرته على المقاومة والتحكم بنفسه؛ ولذلك وردت كلمة (ساق) مفردة للدلالة على أن الشاعر يترنح في مخالب الحزن غير متزن كما يترنح الوليد الذي أمسكت به القابلة من ساق واحد.
ويلاحظ استعانة الشاعر بالتشبيه لتكتمل الصورة، فكأنه أراد أن يقول إن الحزن لديه من الوعي بما يفعل ما لدى القابلة من وعي بما تفعله بالوليد، أما الشاعر أمام هذا المخلوق المتجبر مسلوب الإرادة رغم وعيه الكامل بما يحدث ..
كما وردت كلمة (قوابل) جمع للدلالة على الفرحة بميلاد الوليد بينما يُحدث هذا الجمع مفارقة بين حال الوليد الذي يتأرجح في يد القوابل استعدادا للحياة، وحال الشاعر الذي يترنح في يد الحزن ليواجه الهلاك والموت، فشتان ما بين الوليد المرتجي حياته في يد القوابل، والشاعر المرتجي موته في كف الحزن، فكأن الشاعر لا يولد في الحزن، بل يسحب إليه كما يسحب جسد إلى مهلكه.
وكأن الحزن لم يعد طارئا على الشاعر، بل أحد مكونات وعيه وذاته، يتحكم به كما تتحكم الذاكرة القديمة في ردود أفعالنا الحديثة.
يتابع الشاعر تصوير عبث (الحزن) به قائلا:
وَيَحْمِلُني كالصَّقْرِ يَحْمِلُ صَيْدَهُ..
وَيَعْلُو به فَوْقَ السَّحابِ يُطَاوِلُهْ..

يستمر الشاعر في تصوير حالته بين يدي الحزن المقيت، معتمدا على الفعل المضارع (يحمل، يعلو، يطاول)؛ للدلالة على استمرارية سطوة الحزن، وتوالي التشبيهات باستخدام الأداة (الكاف) ليصنع صورة جديدة أكثر عمقا وتأثيرا، إذ يشبه الحزن بصقر جارح مفزع يحمل الشاعر كما يحمل فريسته بعدما تمكن منها، ويطير به بعيدا متجاوزا حدود النظر؛ ليختلي به فوق السحاب ويتلذذ بافتراسه وحيدًا، فنرى الشاعر بعدما فقد كل قوته، وأصبح حملا هالكا بين مخالب الصقر يعلو معه إلى وكره هناك فوق السحاب، وهو تشبيه تمثيلي، وفي قوله (يطاوله) دلالة على شدة البعد المقصود.
وفي قوله: ( ويحملني كالصقر يحمل صيده)، استعارة ضمنية ممتدة( الصقر= الحزن، الصيد= الشاعر، لكن لم يصرح بهما).
نستطيع القول إذن إن الحزن لا يفعل ما يفعل عبثا، بل بسبق إصرار، كمن يعرف أين يؤلم ضحيته أكثر، فالحزن (الصقر) يتعمد أفعاله بالشاعر (الصيد) ويقصد الاختباء به في أبعد مكان، حيث لا يدع للشاعر فرصة يتوسل بأحد أو ينجو بنفسه منه، ما يعكس شعور الشاعر بالعزلة المرعبة تحت سطوة الألم.
فإنْ فَرَّ مِنْ مِخْلابِهِ طاحَ هَالِكاً..
وإن ظَلَّ في مِخْلابِهِ فَهْوَ آكِلُهْ..

يختتم الشاعر هذا المقطع بصوت تأملي عميق عبر عنها أسلوب الشرط بأداته (إن) المقترن بالفاء، وفعليه ( فر، طاح) ويتلوه شرط آخر تتكرر فيه الأداة (إن) وفعلها (ظل) مسبوقة بواو العطف التي ورد ذكرها دلالة على حتمية الهلاك رغم تعدد احتمالات الهروب، كما يلاحظ استبدال اسم الفاعل(آكله) بفعل جواب الشرط، فحمل الجواب معنى المفعولية والقسوة في آن واحد، وفي البيت انزياح معنوي يجعل من الحزن فاعلا يتلبس صفات الوحش المفترس، لا مجرد انفعال داخلي.
وتؤكد هيمنة الشرط في هذا البيت على وعي الفريسة بما يحدث لها، مع استحالة القدرة على التصرف ورد الفعل، فالشرط الأول نهايته الهلاك، ولا تختلف نهاية الشرط في الشطر الثاني كثيرا عن نهايته في الشطر الأول، بل إنها هنا حتمية ومؤكدة باسم الفاعل (آكل)، فسواء فر الشاعر من قبضة الحزن، لن تتركه تبعات هذا الحزن وهو هالك لا محالة، وسواء ظل تحت تأثيره فهو آكله أيضا بلا شك ..
في الختام أتساءل كيف يستطيع المرء أن يتقبل في حياته مجرما بل قاتلا متسلسلا كالحزن؟ الحزن لا يكتفي بكبت المشاعر، بل يهاجم النفس ويجثم على القلب ويزهق الروح، وهو بذلك يتخطى كونه شعورا ثقيلا، ليصبح قاتلا مشهورا ما لأحد من سلطان عليه وهذا ما يريد أن يثبته الشاعر من بداية المقطع .

“الأم” كلمة صغيرة، عظيمة المعنى

كلمة “الأم” – رغم قِصَر حروفها – تختصر في طيّاتها أعظم المعاني وأرقّ المشاعر، هي مرادف للحب، ولفظ لا يمكن أن يُستبدل، وعاطفة تعجز الكلمات عن وصفها وصفًا كاملًا. طباعها مفعمة بالحلم، والصبر، والرحمة، والشفقة. هي سبب وجودنا في هذه الحياة، وأقل ما نقدمه لها هو الدعاء الصادق من القلب.

قال النبي ﷺ: “الجنة تحت أقدام الأمهات”. وفي حديث آخر، سُئل النبي ﷺ: “يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟” قال: “أمك قيل: “ثم من؟” قال: “أمك قيل: “ثم من؟” قال: “أمك” قيل: “ثم من؟” قال: “أبوك. بهذا التكرار، ندرك عظمة مكانة الأم في الإسلام، ومدى استحقاقها للبر والإحسان.

ولم يَغب فضل الأم عن الشعراء، فها هو الشاعر حافظ إبراهيم يقول:

الأم مـدرسةٌ إذا أعـــــــددتها

أعددت شعبًا طيّب الأعراق

وفي عصرنا، يتغنى البعض بالأم بكلمات بسيطة ولكنها عميقة، مثل تغريدة تقول: لو كان بيدي أن أختار وطني، لاخترت قلب أمي؛ هناك أنام مطمئنًا، وأصحو بسلام.” وقد رُوي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه:”ائتني بشيء من الجنة.” فأسرع الابن وعاد بحفنة من تراب، فسأله لقمان: “من أين أتيت بهذا؟” فقال: “من تحت قدمي أمي.”

وجاء في معنى الحديث: “دعوة الوالدة أسرع إجابة“. وتُروى في ذلك قصة معبرة: سأل نبي الله موسى عليه السلام ربه: يا رب، أرني من يكون رفيقي في الجنة؟” فأوحى الله إليه: “يا موسى، أول رجل يمر بك من هذا الطريق، فهو رفيقك في الجنة”. فمرّ به رجل، فتتبعه موسى عليه السلام ليرى ما الذي يفعله هذا الرجل ليستحق مرافقة الأنبياء. فدخل الرجل بيتًا وجلس أمام امرأة عجوز، وبدأ يشوي قطعًا من اللحم، ويطعمها بيده، ويسقيها الماء، ثم خرج. سأله موسى عليه السلام: “من هذه المرأة؟” قال الرجل: “إنها أمي، قال موسى: “وهل تدعو لك؟” قال: “نعم، لا تدعو لي إلا بدعوة واحدة، تقول: اللهم اجعل ابني رفيق موسى بن عمران في الجنة”. فقال له موسى عليه السلام: أبشر، فقد استجاب الله دعاءها، وأنا موسى بن عمران“.

ما أعظم الأم! وما أكرم الله لمن برّ بها!

سامحني

في لحظة يأس وأحباط وانطواء في الغرفة المظلمة؛ مع كل حتة مظلمة بداخلي من تلك الخيبات المتكررة مع بعض الاخفاقات المتتالية.

وجدت أحدهم في هيئة طيف أسود مخيف يُحدثني؛ هيا أنهي هذه الحياة البائسة، أنهي كل تلك الأزمات، جل الخلافات، المعاناة، الألم، لماذا لم تفعلها بعد؟ في يدك الحل لكي تحصل على الراحة لكنك ممتقع مكانك لا أدري هل أنت مسلوب الإرادة! لقد خلقك الله حراً كي تفعل بنفسك ما يحلو لك أنت مالكها فكيف لا يكون لك سلطان عليها؟ هل لا تعلم كيف السبيل لهذه العملية؟ دعني أخبرك بطرق مختلفة كي تفعلها لا تخف سوف أبلغك بطرق لا تجعلك تتألم إن كنت تخشى الألم.

بينما كنتُ أنصت إليه وهو يخبرني عن الطرق التي تجعلني أُؤدِّي تلك العملية الانتحارية، بدأت أفكاري تتمايل نحوه، أُحلِّل كل فكرة يطرحها. وحينما شد انتباهي إلى إحدى الطرق البسيطة، اقترب مني وأمسك بيدي كأنه يقودني نحو تدبير تلك الفعلة.

 وجدتُ طيفًا أبيض يشدّ يدي من يده، ويتشاجر معه قائلاً: دعه وشأنه، لا تنصت إليه. نعم، لقد خلقك الله حرًّا، لكن ليس لتقتل نفسك. صحيح أنك تملك زمام أمورك، ولديك حرية الاختيار، ولكن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز. “ونفسٍ وما سواها ۞ فألهما فجورها وتقواها ۞ قد أفلح من زكاها۞ وقد خاب من داساها”

سورة الشمس الآية 7:10 المقصود هُنا أنك مسؤول مسؤولية تامة عن إفساد نفسك وإصلاحها، وليس المقصود بها جواز قتل النفس، وإنها أمانة ويجب الاعتناء بها لحين استردادها. لو أودعت عندك أمانة وأتلفتها أو تخلصت منها، فحين أعود وأسألك عنها، كيف ستجيبني وكيف ستردها إلي؟!

صراخٌ يملأ أرجاء الغرفة: “اتركوني وشأني! ما كان ينقصني إلا أنتم… كفى! لقد تعبت!” أنينٌ شديد، وألمٌ أنهكني

اقترب الطيف الأبيض وأمسك بيدي قائلاً: “اهدأ، أرجوك… فقط اهدأ، لا تُنصت له. الحياة هدية وهبنا الله إيّاها، ولا يجوز ردّ الهدايا بالجزع أو التخلّص منها، أنا أطلب منك شيئًا، فقط افعله، وستشعر بالسعادة…”

“ما هو هذا الشيء؟ لقد تعبت أخبرني به فوراً..”

“سامح نفسك، اعفو عنها”

اشتعل وجه الطيف الأسود غضباً وانصرف. بينما أنا بدأت بالإنصات له.

أنت بشر ووجدت لكي تخطئ وتتوب. الشيخ النقشبندي قال: “إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو الآثام” وقد قال الله في كتابه الكريم “ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً” – سورة النساء الآية 110. وأخبرنا “ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون” – سورة يوسف الآية 87.

 ألم تسمع عن خطأ سيدنا نوح، وسيدنا يونس، وسيدنا يوسف، وجميع الأنبياء أخطأوا وتابوا؛ إذا خففت الحمل عن نفسك وسامحت نفسك على أخطاء الماضي سوف تستطيع أن تسامح كل من خذلك، وكل من مر في حياتك ولم يرحل قبل أن يزرع أشواكا في قلبك.

أنتحب؛ ولكنهم آذوني كثيراً وأود أن أنتقم منهم أدعو الله ليلا ونهارا أن يقتصّ منهم لما فعلوه بي.

يُهدهدني، ويقول: افعل كما فعل رسولنا الكريم ﷺ مع من آذوه من كفار قريش، حين سألوه: “ماذا أنت فاعل بنا يا رسول الله؟” فقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.

وحينما آذاه قوم ثقيف، بعث الله له ملك الجبال، وقال له: “إن شئتَ أُطبق عليهم الأخشبين”، لكنه ﷺ رفض، وقال: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا”. كان يعلم علم اليقين أنه لو دعا عليهم لأُجيبت دعوته، لكنه عفا، وسامح، وارتقى. لكن قلبي ليست بقلب النبي محمد.

لكنّك تستطيع أن تقتدي به، حتى يخفّ الحمل عن قلبك وتستطيع أن تعيش. فالقلب مثل السفينة: كلّما أثقله الحمل، أصبح مهددًا بالغرق، ولا يقوى على الصمود أمام أعتى الأمواج. الألم، الخذلان، والوجع… كلّها أعباء تُثقِل القلب، وتشدّك نحو الهاوية. اعف، اعف عن نفسك، لكي تستطيع أن تعفو عمن آذاك، اعف حتى يعفو الله عنك؛ وتذكر: العفو عن الآخرين لا يتحقق حقًا، إلا عندما تسامح نفسك أولًا، صدقني، إذا استطعت أن تغفر لنفسك تلك الأخطاء التي ارتكبتها من دون وعي، أو سابق نضج، أو معرفة، فأنت على بداية طريق الشفاء، ولو كانت لديك حينها الخبرة الكافية، لما كنت لتفعلها. لذلك أراد الله أن يعلمك إياها فأذن أن تمرّ بتلك التجربة، كي إذا واجهتك مجددًا، لا تقع في الخطأ نفسه. كي تنصح غيرك، وتقول له: “كنت مثلك، لا أعلم. لكنّ الله علّمني، ووضعني في طريقك كي لا تكرر خطئي.” وهذا من لطف الله بك ومن لطفه بي، كي يجعلني سبباً في ألا تكرر تلك الأخطاء، انظر إلى الأمر كمنحة، لا كمحنة، حينها فقط تستطيع أن تسامح الآخرين وستشعر بسلامٍ داخليّ عظيم.

 أنت وأنا وكل من يقرأ هذه الكلمات يجب أن يسامح نفسه ومن هنا تبدأ رحلة السلام الداخلي.