سامحني

في لحظة يأس وأحباط وانطواء في الغرفة المظلمة؛ مع كل حتة مظلمة بداخلي من تلك الخيبات المتكررة مع بعض الاخفاقات المتتالية.

وجدت أحدهم في هيئة طيف أسود مخيف يُحدثني؛ هيا أنهي هذه الحياة البائسة، أنهي كل تلك الأزمات، جل الخلافات، المعاناة، الألم، لماذا لم تفعلها بعد؟ في يدك الحل لكي تحصل على الراحة لكنك ممتقع مكانك لا أدري هل أنت مسلوب الإرادة! لقد خلقك الله حراً كي تفعل بنفسك ما يحلو لك أنت مالكها فكيف لا يكون لك سلطان عليها؟ هل لا تعلم كيف السبيل لهذه العملية؟ دعني أخبرك بطرق مختلفة كي تفعلها لا تخف سوف أبلغك بطرق لا تجعلك تتألم إن كنت تخشى الألم.

بينما كنتُ أنصت إليه وهو يخبرني عن الطرق التي تجعلني أُؤدِّي تلك العملية الانتحارية، بدأت أفكاري تتمايل نحوه، أُحلِّل كل فكرة يطرحها. وحينما شد انتباهي إلى إحدى الطرق البسيطة، اقترب مني وأمسك بيدي كأنه يقودني نحو تدبير تلك الفعلة.

 وجدتُ طيفًا أبيض يشدّ يدي من يده، ويتشاجر معه قائلاً: دعه وشأنه، لا تنصت إليه. نعم، لقد خلقك الله حرًّا، لكن ليس لتقتل نفسك. صحيح أنك تملك زمام أمورك، ولديك حرية الاختيار، ولكن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز. “ونفسٍ وما سواها ۞ فألهما فجورها وتقواها ۞ قد أفلح من زكاها۞ وقد خاب من داساها”

سورة الشمس الآية 7:10 المقصود هُنا أنك مسؤول مسؤولية تامة عن إفساد نفسك وإصلاحها، وليس المقصود بها جواز قتل النفس، وإنها أمانة ويجب الاعتناء بها لحين استردادها. لو أودعت عندك أمانة وأتلفتها أو تخلصت منها، فحين أعود وأسألك عنها، كيف ستجيبني وكيف ستردها إلي؟!

صراخٌ يملأ أرجاء الغرفة: “اتركوني وشأني! ما كان ينقصني إلا أنتم… كفى! لقد تعبت!” أنينٌ شديد، وألمٌ أنهكني

اقترب الطيف الأبيض وأمسك بيدي قائلاً: “اهدأ، أرجوك… فقط اهدأ، لا تُنصت له. الحياة هدية وهبنا الله إيّاها، ولا يجوز ردّ الهدايا بالجزع أو التخلّص منها، أنا أطلب منك شيئًا، فقط افعله، وستشعر بالسعادة…”

“ما هو هذا الشيء؟ لقد تعبت أخبرني به فوراً..”

“سامح نفسك، اعفو عنها”

اشتعل وجه الطيف الأسود غضباً وانصرف. بينما أنا بدأت بالإنصات له.

أنت بشر ووجدت لكي تخطئ وتتوب. الشيخ النقشبندي قال: “إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو الآثام” وقد قال الله في كتابه الكريم “ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً” – سورة النساء الآية 110. وأخبرنا “ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون” – سورة يوسف الآية 87.

 ألم تسمع عن خطأ سيدنا نوح، وسيدنا يونس، وسيدنا يوسف، وجميع الأنبياء أخطأوا وتابوا؛ إذا خففت الحمل عن نفسك وسامحت نفسك على أخطاء الماضي سوف تستطيع أن تسامح كل من خذلك، وكل من مر في حياتك ولم يرحل قبل أن يزرع أشواكا في قلبك.

أنتحب؛ ولكنهم آذوني كثيراً وأود أن أنتقم منهم أدعو الله ليلا ونهارا أن يقتصّ منهم لما فعلوه بي.

يُهدهدني، ويقول: افعل كما فعل رسولنا الكريم ﷺ مع من آذوه من كفار قريش، حين سألوه: “ماذا أنت فاعل بنا يا رسول الله؟” فقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.

وحينما آذاه قوم ثقيف، بعث الله له ملك الجبال، وقال له: “إن شئتَ أُطبق عليهم الأخشبين”، لكنه ﷺ رفض، وقال: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا”. كان يعلم علم اليقين أنه لو دعا عليهم لأُجيبت دعوته، لكنه عفا، وسامح، وارتقى. لكن قلبي ليست بقلب النبي محمد.

لكنّك تستطيع أن تقتدي به، حتى يخفّ الحمل عن قلبك وتستطيع أن تعيش. فالقلب مثل السفينة: كلّما أثقله الحمل، أصبح مهددًا بالغرق، ولا يقوى على الصمود أمام أعتى الأمواج. الألم، الخذلان، والوجع… كلّها أعباء تُثقِل القلب، وتشدّك نحو الهاوية. اعف، اعف عن نفسك، لكي تستطيع أن تعفو عمن آذاك، اعف حتى يعفو الله عنك؛ وتذكر: العفو عن الآخرين لا يتحقق حقًا، إلا عندما تسامح نفسك أولًا، صدقني، إذا استطعت أن تغفر لنفسك تلك الأخطاء التي ارتكبتها من دون وعي، أو سابق نضج، أو معرفة، فأنت على بداية طريق الشفاء، ولو كانت لديك حينها الخبرة الكافية، لما كنت لتفعلها. لذلك أراد الله أن يعلمك إياها فأذن أن تمرّ بتلك التجربة، كي إذا واجهتك مجددًا، لا تقع في الخطأ نفسه. كي تنصح غيرك، وتقول له: “كنت مثلك، لا أعلم. لكنّ الله علّمني، ووضعني في طريقك كي لا تكرر خطئي.” وهذا من لطف الله بك ومن لطفه بي، كي يجعلني سبباً في ألا تكرر تلك الأخطاء، انظر إلى الأمر كمنحة، لا كمحنة، حينها فقط تستطيع أن تسامح الآخرين وستشعر بسلامٍ داخليّ عظيم.

 أنت وأنا وكل من يقرأ هذه الكلمات يجب أن يسامح نفسه ومن هنا تبدأ رحلة السلام الداخلي.

ديناميكية السرد الروائي

الرواية، التي أنشأتها، أو أنت آخذ في انشائها، يجب أن تنأى عن التواء الأسلوب وتعقده، وأن تكون لغتها سهلة يسيرة، من غير تقعر أو ابتذال، وأن تكون كينونة ثيمتها التي تستدعى من النقاد الكشف عنها، وبيانها، واضاءتها، ومعرفة هل هذه الثيمة، بوسعها أن تضفي ألقاً، ونضاراً للرواية، يختلف عن ذلك الذي نعرفه، أم هي مجرد أسطر واهية، لم يدونها عضد قوي، وقد خلت فصولها من الأنثروبولوجية الرفيعة، والجمال الطاغي، الذي نشعر نحوه بهوى مبرح، وعشقاً عنيف الأهواء،  فالرواية التي يتوجب علينا أن نتعامل معها، بوصفها كائناً مستقلا، حتى تظل قلوبنا تلتفت إليها، وتنشغل بها عن سواها، يجب أن تتضمن في أغلب حالاتها، مزاجاً ملائما لطباعنا، وأن يفلح مبتدعها من أن يخرجنا من روتين حياتنا المتكرر، الذي تتشابه فيه الأشياء، إلى عالمه البهيج، الذي تسري في أبداننا رعده، إذا استأذن هو في الانصراف. 

إن هذا الضرب من الأدب، الذي تختلف فيه الصدور من لواعج الأسى، وتضطرب فيه المهج من فيض المشاعر، يجب أن نسمعه ونصدقه، ونسرف في تصديقه، لأنه لم يغمض ستور عينيه، أو يصم أذنيه، أو يعقد لسانه عن الخوض في علل الدنيا ومن فيها، لأنه بما امتاز به من الفطنة، والنباهة، ونضوج الفهم، وسعة الإدراك، استطاع أن يقدم لنا الحلول التي صاغها الروائي الألمعي في حبكته، بعد أن أضفى عليها بُعْداً جمالياً، أزرى بمعالم تلك الفوضى الفاشية التي نعيشها.

والرواية التي تتناغم جزئياتها مع قيمك، تحتاج إلى نقد، يدافع عن مسلكها ما وسعه الجهد،  ويتحدث عن اضطرابها وقصورها، إذا امتهن هذا النقد طرحها المتداعي، ونقم على صورها الباهتة، والناقد الذي يمقت التعقيد، ويؤثر البساطة في كل شيء،  يجب أن يجاهد نفسه، ويغالب هواها، حتى تحتوي أحكامة الفاصلة، على حجج قويمة تستندها، فمهمته أن يطالع الأجناس الأدبية في تأني، حتى يدرك ما ألمّ بها من شر، وما انصب عليها من مكروه، ثم يجري عليها قواعده، التي تضبط جموحها، وتقوم خطلها.

والرواية العربية، التي يجب أن تكون الشعاع الهادئ لكل ضال، والنداء الموقظ لكل غافل، تحتاج دائماً، إلى أسس ومعايير تتزيد منها، وقد وفق النقاد في صقل هذه المقاييس، ودفعها إلى التشكل توفيقاً عظيما، فقد أحصوا ملامحها واستقصوها، ما استطاعوا إلى الاحصاء، والاستقصاء سبيلا، فهم لم يتركوا مسيرتها، في أول أمرها تمضي هائمة، دون أن يمهدوا لها الطريق، ويجعلوا الروعة أسيرة لها، وموصولة بها، وديناميكية السرد، التي صرعتها الشدائد، وضعضتها النوائب، لا تُعني بنقل كل الأشياء كما هي، فهناك ثوابت، يجنح لها الرواة، خضوعاً لسنة ماضية في حياكة القصص، وسبك الروايات، فالروائي هاجسه، يصب في حشد المادة المحكاة، التي تصطك فيها بيئات العمل المختلفة، فمما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن

 أقلّ مما يجب أن نعرفه، عن طبيعة العمل الروائي، الذي لم ننقطع عن درسه، ولا ينبغي لنا أن ننقطع عن درسه، هو أن يجد مادة خصبة يطرقها الرواة، ويتهافتون عليها، ولعل السمة الطاغية التي باتت واضحة في الروايات، تافهها وجليلها، في عصرنا الحالي، هو انتكاسة تلك المادة، وتشتتها، وتصدعها، فالمادة التي ينهض على دعائمها السرد الروائي، والتي قد يرضى عنها النقاد الذين سحمت ألوانهم، ونحلت أجسادهم، عند تناولها كل الرضى، أو يسخطوا عليها كل السخط، يندرج بين طياتها، الشغف الذي يأسر ذهن القارئ، ويسيطر عليه، فنحن بحكم أهميتها هذه، مضطرين إلى الرجوع إليها كلها، واستيعاب النظر فيها، فإذا وجدناها صحراء شاسعة وممتدة، انفلتنا من رتابة السكون، وإذا وجدنا تضاريسها متنوعة، وطبيعتها خلابة، مكثنا نتأمل روعة الوجود، ثم غدونا  نلتمس مدى تناسق وتطابق هذا السحر على البناء العام للرواية، وعلى شخوصها،” فدينامية” الشخصيات المتخيلة في الرواية، والمرتبطة بحيثيات الزمان والمكان، يجب أن تنمو بين ثنيايا الرواية نمواً غير مقصود ولا متعمد، وأن تتسم بالواقعية، وأن تثير القضايا التي تثقل كاهل مجتمعاتها، وليس هذا كل ما نطلبه، ونصر عليه، فبالعودة للمكان الذي يستقي منه الروائي حكايته، يفضل أن يكون للرواية نصيبها من رجحان العقل، وصواب الرأي، وبعد النظر، وذلك بأن تحتوي على نماذج متعددة من الصور والمشاهد، تشكل هذه المظاهر والهيئات، الموجودة في بيئات متباينة، الهوية الجماعية للرواية التي في رحاها تنشب الصراعات الطبقية، والسياسية، والاجتماعية، كما لابد من القول، أن الروائي يجب أن يعكس لنا في قالب سردي، أدق التفاصيل عن العقدة، والرموز، والدلالات، التي ترسم خيوطها تلك الشخصيات، التي لا نتظر منها أن تسمعنا عظات الحكماء، أو تضع بين أيدينا اقتباسات من كتب الفضلاء،  ولكن نتظر منها، أن تقدم لنا الوعي ما استطاعت.

والروائي الحاذق، حتى لا يخرق قاعدة التوازن، بين الشخصيات المتناثرة في عمله، وبين الأحداث المسندة إليها، يجب أن يوجهها لما ينبغي أن تتجه إليه، في حسن نظم، وروعة تأليف، واسقاط حشو وتطويل، حتى تأسر العقول، والقلوب، والأذواق، وحتى تبسط نفوذها على القارئ أو “المستمع”  حتى يألم لمصيبتها، ويجزع لنائبتها، وأن يجد شيئاً من الرضى والمتاع لسعادتها،  هذه الشخصيات التي تستحق منا، أن نتفكر في أمرها ونتدبر، في الحق، لن تستطيع قطع بعض الأمتار في رحلتها الطويلة، ما لم ترتبط صورها المفردة، أو المجتمعة، بخصوصية الزمان والمكان ارتباطاً وثيقاً، وعلى الروائي بعد كل هذا، أن يكون خاضعاً لشتى التصاريف، والمذاهب، التي تساهم في تحديد ملامح العمل، واظهار تكامل ثقافته، وقدراتة التخيلية.

والرواية، حتى نتوسع في شرح أحداثها ونستفيض، نحتاج لضبط وحداتها بشكل بين، وحتى لا يقع الروائي في مهالك الشتات، بسبب عمق بنية الرواية، وتغاير أحداثها، يجب أن تخضع هذه البنية، لفكرة جامعة، صارمة، لا تنحرف عنها، وفكرة الرواية، التي يمكن ردها إلى أصولها، أو التصرف فيها، يجب أن تبتعد عن الغموض، حتى لا نبحث لها عن معنى، وأن تنأى عن التماهي مع انحدار القيم،  فالدهمة التي نسعى إلى التقليص من عتمتها، أطر الفضيلة التي باتت مشوشة بشكل غريب في الأجناس الأدبية، هذه الأجناس بات يفزعنا حقاً، ما صارت إليه من تفسخ، و عري، وانحلال، إن المبدأ الذي من المفترض أن يكون أكثر جذرية في السرديات، ليس هو الشهوة، والتنافر، والتدابر، والاحتيال، والاغتيال،  بل هو سيادة التجليات المختلفة  للشيم والمحامد، فالشيء الذي نستطيع أن نميزه على وجه الدقة، هو استيعاب فلسفة الرواية لعنصر “الجنس”، و لكن الآن أمست السرديات تكرس لهذا العنصر بصورة جامحة، تفوق ما يستحقه من مساحة في العمل الروائي.

ولعل من المهم أن نشير في خاتمة هذا المقال الذي امتد واستطال، بعد عرضنا هذا لأهم العناصر، التي يتشكل منها السرد الروائي، أن نتطرق لصياغة الحبكة الممتعة، التي لا تدلس رأي، ولا تموه باطل، والتي يقايس فيها الروائي ويفاضل، وبشكل شديد الايجاز، نقول أن الحبكة، هي الحلقة التي توحد بين عناصر شديدة التباين، وليس شرطاُ أن نجد فيها مراغماً وسعة، وهواءً طلقاً، وحياة وادعة، ولكن المهم أن تظل متماسكة، قصرت فصولها أو طالت، وأن تكون ذات ديمومة منتظمة، تتسم بالسلاسة والتشويق، حتى لو انكفأ “الراوي” يخلط ماضي هذه الشخصيات بحاضرها،  وأن تستحوذ التباينات العاطفية، والصراعات المحمومة، على أكبر قدر من الاطالة والاسهاب،  وأن تكون هناك مساحة تشحذ خاطر القارئ، وتحفزه تياراتها المدلهمة لتحليل مواقفها، والأمر الذي نستطيع ترديده دون توقف، هو الجمل الدقيقة المستخلصة، التي تزخر بها خاتمة الرواية، والتي تجسد  الرؤية المضمرة التي يرزح تحت طلاوتها سحر السرد، والتي يجب أن نحس لها ميزة، ونجد لها طعماً، لأنها كانت شفافة إلى أقصى حد، ولم تكن  طلاسم مبهمة، أو ضرباً من التقرير، أو حتى مجرد ميثولوجيا مجهولة، الأمر الذي منحنا أن  نواكب هذه الأحاسيس والأفكار، وأن نستظل تحت أفيائها.

وكاتب الرواية من المهم جداُ، أن تتجلى عبقريته في شاعرية اللغة، وعذوبة المفردات، فيختار التراكيب اللفظية، التي تخلو سياقاتها من الرزالة، والإسفاف، ويتخذ الأساليب البديعة، الذي تشد المواضيع المطروحة، والمحاور المتفرعة عنها، وأن تحفل روايته بنظم الحوارات الشيقة، التي تتراوح بين الاقتضاب والإفاضة،  وأن يتجنب الإمعان في رصد المشاعر العابرة، والأفكار الجريئة، فالأمور تجري على هذا النحو في القصص والروايات، التي هضم الكثير منها النظريات الفلسفية، والمعارف العلمية.

السبع الذي لم يكن سبعًا: قراءة لغوية وثقافية في رمزية الاسم والمكان

حين استمعت أول مرة إلى هذا الاسم (بئر السبع)، سيطر على ذهني شيء من الرهبة، وارتسم في وعيي مشهدُ سبعٍ مهيب قابع في تلك الصحراء الفلسطينية الواسعة المعروفة بصحراء النقب، أو حتى مجموعة من السباع المتوحشة التي استأثرت لنفسها بالمكان، ووسمته بسطوة حضورها وهيمنتها الرمزية، ويؤيد هذا التصور استخدام لفظة (السبع) في الثقافة العربية؛ للدلالة على الأسود أو الوحوش الضارية، فالسبع: “واحد السباع. والأنثى سبعة…. ويقال: ترك حتى صار كالسبع لجرأته على الناس.”([1])

كما وردت لفظة (سبع) ومشتقاتها (سبعون، سبعين) في القرآن الكريم في أربعة وعشرين موضعًا، تشير كلها إلى الرقم (سبعة) مع اختلاف فيما قد يشار إليه بهذا الرقم، بينما لم تعبر عن الوحش إلا مرة واحدة فقط في سورة المائدة، في قول الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ ‌السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)﴾([2])‌.

فمجيء لفظة السبع في السياق القرآني للدلالة على الوحش المفترس، الذي يتغذى على اللحم والدماء، رغم ندرته إلا إنه راسخ في الذاكرة الثقافية، وتؤيد هذه الندرة ذلك التصور الذي تحمله لفظة (السبع) عند إضافتها إلى (البئر) ليكَوِّنا معًا مشهدية مرعبة؛ فكلمة (البئر) أيضًا تحمل في دلالتها عمقًا معنويًا وشعوريًا، يوحي بالخطر الكامن غير المتوقع، كما يكمل مشهدية الخوف ويسهم في بث الرهبة في نفس المستمع؛ لما لها من تأثير في نفس المتلقي بما تحمله من دلالة على العمق واختصاصها بالتواجد في الصحراء؛ فوجود البئر في الصحراء وارتباطها بلفظ السبع، كل ذلك من مقومات تكسب الاسم هيبة وتجعل منه حالة شعورية عجيبة، فكم مرة سمعنا عن شخص سقط في البئر، ولم يخرج؟!

تضفي دلالة الكلمة (السبع) التي تتضمن معنى (الوحش) على المكان طابعا مهيبا؛ ولأن هذه الدلالة هي أول ما يتوارد إلى ذهني عندما أسمع هذا المصطلح (بئر السبع) أقف أمامها وأتساءل: السبع؟! ما المقصود بالسبع؟ وما نوعه من بين الضواري؟ وهل تتمتع هذه المنطقة حقًا بتواجد السباع والوحوش؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا يتمتع هذا الاسم بتلك الهيبة؟ ولماذا يبعث في نفس المتلقي رهبة المكان، وتوخي الحذر، وتوقع المخاطر؟!

ثم تتوالى في ذهني افتراضات الخيال اللفظي والمعنوي لهذه الكلمة، وتاريخها مع المكان. وما أعرفه عن (بئر السبع) اليوم أنه يقع تحت سيطرة الاحتلال اللعين، فهل تشير لفظة (السبع) المقصودة إلى أيدي الاحتلال؟! إن كان الأمر كذلك، يصبح الأولى أن يصير اسم هذه المنطقة (بئر الضبع)، فلا يصير للكلمة هذا التعميم الذي يوحي بالجرأة والقوة، فقد يُنظَر إلى اسم السبع كإفراط في المدح، لا يليق بالواقع القاتم الذي تغيب فيه صفات الجسارة والشهامة التي ترتبط دلاليا بالسباع.

وبالتالي تشكل كلمة (الضبع) عند استبدالها بالسبع واقعًا حقيقيًا؛ حيث تليق بالمحتل وما يتصف به من دناءة، وحقارة، وأرى في احتفاظ المكان باسمه في ظل هذه الظروف القاسية إهانة كبيرة للسباع كافة، حيث يصعب تصور المحتل في صورة السباع، وربما في إطلاق اليهود على هذا المكان اسم (بئر شيبع) ([3])، ما يوحي برعبهم ورهبتهم الحقيقية من لفظة السبع التي قد تعني الوحش.

إن ما يعجبني بصدق في اللغة العربية قدرتها الفائقة على التواصل والاستيعاب، حين تستأثر الكلمة بتنوع دلالي يفوق تصور العقل؛ فكلمة (السبع) في اللغة لم تقتصر على معنى الوحش، بل حملت دلالات أخرى كثيرة، وعبرت عن معان مختلفة، نذكر منها ما ورد في جمهرة اللغة: “السبع من الْعدَد: مَعْرُوف. وَكَانَ الْقَوْم سِتَّة فسبعتهم أَي صرت سابعهم …. وَسبع الشَّيْء: وَاحِد من سَبْعَة”.([4])    

يتضح من ذلك التنوع الدلالي أن التصور الذهني الذي تناولناه في البداية، اقتصر على المعنى الشائع للفظ (السبع)، أو كما أسميه المعنى الأقرب لخيال المتلقي، فإذا سألنا شخصَا لا يستحضر ما للكلمة من دلالات مختلفة، قد يقتصر تصوره لمعناها على ما يرد إلى ذهنه أولا، فيقول: كلمة (السبع) تشير إلى رقم سبعة، ومنه الأسبوع فهو سبعة أيام، هذا المتلقي لا يجهل معنى السبع الذي هو الوحش، لكنه لم يفكر فيه، فكان رقم سبعة هو المعنى الأسرع تواردًا لذهنه. 

ومهما يكن من شيء فإن موطن الدهشة لا يكمن في كلمة السبع وحدها، بل ينشأ عن إضافة الكلمة إلى (البئر)، فكيف نستطيع أن نتخيل بئرًا في صحراء واسعة يحتوي على السباع؟ هل هناك سبع يحرس هذا البئر مثلًا وإليه ينسب؟ وإن كان الأمر كذلك، فما حكاية البئر؟ ولماذا يحرسه (السبع)؟

وإذا كانت الكلمة لا تشير للوحش بل إلى الرقم (سبعة)، فما خصوصية هذا الرقم؟ ولماذا ارتبط اسمه بوجود الماء؟

نتساءل عن أسباب ارتباط الاسم بالماء لا البئر؛ لأن (بئر السبع) ليس المكان الوحيد الذي اختص بكلمة (السبع)، بل إن مصرنا الحبيبة أيضًا، تضم بين أحضانها مدينة مهمة يتصل اسمها بالسبع أيضًا، تسمى (بركة السبع)، وكلما مررت بهذا المكان يتوارد إلى ذهني نفس السؤال، ولكن بتصور مختلف، ومشهدية أكثر اختلافًا، فكأن المكان مرتبط عندي بالضواري والوحوش، لكن هذا المكان في مصر يسمى (بِرْكَة) بينما ذلك المكان في فلسطين يسمى (بئرًا).

ثمة فرق واضح بين كلمتي (بئر، بِرْكَة)، فالبئر: [مفرد]: ج أَبْآر وآبار وأبْؤُر وبئار، وهو حُفْرة عَميقة يُستقى منها الماء، أو يُستخرج منها النِّفط أو الغاز، والشائع تسهيل الهمزة (بير) (مؤنثة وتذكيرها صواب، والبئر الطبيعيَّة: بئر حفرتها مياه الرَّشح، وقيل: هي بئر تنتهي إلى مجرًى مائيّ تحت الأرض. ([5])

أما البِرْكَة: فهي:” كالحوض، والجمع البرك؛ يقال: سميت بذلك لإقامة الماء فيها، والبركة مستنقع الماء. والبركة: شبه حوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض”.([6])

وفي هذا الاختلاف يبن الكلمتين، مفارقة بارزة بين ما تحمله دلالة البئر من تعبير عن العمق والامتداد، وما تحمله كلمة بِركة من دلالة على الاستقرار والسعة والبقاء، وبرغم هذا التشابه بين الاسمين (بئر السبع الفلسطينية، وبركة السبع المصرية)؛ فإن هذا التشابه في لفظ (السبع) يثير في الاذهان أصداء ثقافية متنوعة، فقد لا تحمل دلالة (السبع) في المكانين نفس المعنى، إلا إنها تذكرنا أن الأسماء في ثقافتنا، ليست محايدة.

إن بئر السبع ليست مجرد اسم على الخريطة الفلسطينية، بل رمز وكينونة وذاكرة ممتدة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.

إذن كل ما سبق يدفعنا للتساؤل عن أسباب ارتباط هذا المكان (بئر السبع) باسمه.

(بئر السبع) بلدة في صحراء النقب من أرض فلسطين، يحدها من الشمال جبل الخليل، ومن الشرق البحر الميت ووادي العربة الذي يفصلها عن شرق الأردن، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط وشبه جزيرة سيناء، ومن الجنوب خليج العقبة([7]).

عندما نراجع المصادر المرتبطة بالمكان للبحث عن مفهوم (السبع) وأسباب تسمية المكان بهذا الاسم، نجدها أسبابا دينية خالصة؛ وتروي المصادر عن السّبع أنها:

“قرية بين الرقة ورأس عين، موضع بين القدس والكرك، ويسمى ‌بئر ‌السبع”.([8])، وفي ذكر لفظ السبع في هذا السياق، معرَّفة بالألف واللام تأييد لدلالة الاسم على معنى الوحش، بينما يذكر (ياقوت الحموي) في (معجم البلدان) أن المكان به “سبع آبار سمي الموضع بذلك”([9])، وهذا يؤيد ما يذهب إليه بعض المؤرخين في سبب تسمية المكان باسمه نسبة إلى الآبار السبعة فيه.

وقد ورد في تاريخ الكامل لابن الأثير أن إبراهيم _عليه لسلام_  قد خرج بزوجه (هاجر) بعد أن ولدت له إسماعيل _عليه السلام_ إلى الشام من مصر؛ خوفا من فرعون.

“فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع مسيرة يوم وليلة، فبعثه الله نبيا، وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئرا ومسجدا وكان ماء البئر معينا طاهرا، فآذاه أهل السبع، فانتقل عنهم، فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم، فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز، وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معينا طاهرا فاشربوا منه، ولا تغترف منه امرأة حائض. فخرجوا بالأعنز، فلما وقفت على الماء ظهر إليها، وكانوا يشربون منه، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء إلى الذي هو عليه اليوم.» ([10]).

وورد في نصوص الأسفار روايات تؤيد ما ذُكر في تاريخ الكامل، أوردها (عارف العارف) قائم مقام بير السبع، في كتابه (تاريخ بير السبع وقبائلها) ([11])؛ إذ يرفض المؤلف ما قيل في أسباب تسمية المكان باسمه نسبة إلى الآبار السبعة؛ نظرًا لأن بلدة (بئر سبع) عندما سميت باسمها لم يكن بها إلا بئرًا واحد فقط، كما يرفض انتساب هذه التسمية إلى (السبع) الذي هو الوحش، ويقول إن التسمية الصحيحة هي (بئر سبع) بدون التعريف.

ويؤيد العارف في كتابه الاتجاه الذي يذهب إلى أن البلدة سميت بذلك نسبة إلى العنزات السبع التي دفع بها إبراهيم _عليه السلام_ لأبا مالك (ملك الفلسطينيين)؛ لتبقى هذه الوقعة دليلا على العهد الذي قطعه أبا مالك لنبي الله إبراهيم _عليه السلام_ واعترافا بأنه حفر البئر، كما يشير العارف في كتابه إلى أن المنطقة؛ وفقًا لهذا الحدث تسمى (بئر سبع) لا (بئر السبع).

تبقى الدهشة قائمة، وتظهر المفارقة جلية حين تتشكل صورة المكان في أذهاننا مرتبطة بالسباع والوحوش، ليتضح في النهاية إن السبع المقصود ما هو إلا عدد العنزات التي هي في الحقيقة فريسة السبع.

وهكذا تبقى بئر السبع أو بئر سبع، بين معنى لم يحسم، ودلالة تتشعب من الوحش إلى العدد، من الماء إلى الدم. ربما لا نملك جوابا يقينيا عن (السبع) في الاسم، لكننا نملك دهشة السؤال، وفتنة الكلمة حين تجرنا إلى عمق أبعد من سطح الأرض، إلى بئر تسكنه اللغة لا الماء.

وربما في كل مرة نسمع فيها عن (بئر السبع) يستيقظ بداخلنا روعة المعنى، وهيبة المكان، لا يهم إن كان فيه وحش يحرس الماء، أو رقم يحرس التاريخ، المهم أنه اسم مهيب يحتفظ لنفسه بالقوة والأثر على امتداد التاريخ.


أنتم خصومهم أمام الله يا أمة الخذلان

أكبر خيانات مرّت على العرب منذ فجر التاريخ بدأت مع الخائن أبورغال الذي أرشد أبرهة إلى الطريق لمكة حينما عزم على هدم الكعبة المشرفة، وكان ذلك مقابل المال، وكانت نهاية أبرهة كما يعلم الجميع وأنزل الله سورة تُصوّر النهاية العظيمة لهذا المجرم وجيشه.

أما الخيانة الثانية فكانت من نصيب ابن العلقمي الذي خان الخليفة العباسي المستعصم بالله عندما استأمنه على الدولة وأعطاه كامل الصلاحيات في القرارات المصيرية، فقد كان هو الدولة ومفاتيحها بيده، إلا أن غلّه على الإسلام وأهله ودولته، جعله سبباً رئيسياً في سقوط الدولة العباسية التي حكمت الأمة لأكثر من خمسة قرون، حيث كاتب هذا الخائن التتار وزعيمهم هولاكو وشجعه على احتلال بغداد وتدميرها وقتل أكثر من مليون ونصف من سكانها، وطمع هذا الخائن في وعود هولاكو له بحكم العراق، ولكن هولاكو أهانه أشد إهانة وندم حيث لا ينفعه الندم، ومما يحكى عنه أن عجوزاً مرّت عليه في آخر أيامه مطأطئ الرأس عليه أمارات الذل، فقالت: أهكذا كان يعاملك بنو العباس ؟

فمات كمداً وحسرة على مجد ضيّعه، وسلطة بدّدها، بعدما ارتمى تحت أقدام التتار، وباع دينه ووطنه.

أما الخيانة الثالثة فهي للملك الصالح إسماعيل الذي كان يحكم دمشق وفلسطين، فطمع في ضم مصر إلى مملكته، فاستعان بالصليبيين لمساعدته على حرب ابن أخيه الملك الصالح أيوب ملك مصر، مقابل إعطائهم فلسطين، فدعا الصالح أيوب الخوارزميين والذين يشكلون قوة إسلامية في الشرق وتحالف معهم وعبر بهم وبجيشه إلى بلاد الشام وتوجهوا إلى بيت المقدس فحرروه من الاحتلال الصليبي، وبقي تحت حكم المسلمين حتى عام 1914 باحتلاله من قبل البريطانيين.

ومنذ ذلك العام وحتى يومنا هذا والأمة تعيش في خيانات متعاقبة ليست أقل سوءا ودناءة من سابقاتها، فما يعيشه إخواننا في قطاع غزة من قتل وتشريد وتجويع منذ السابع من أكتوبر 2023 لهو أكبر خيانة وهوان وذلة تعيشها أمة الملياري مسلم، فلم تشفع استغاثات ولا استصراخ أهل غزة لحكام وشعوب أمة العرب والإسلام، ولم تتحرك نخوتهم لكسر هذا الحصار الجائر الذي أطبقه عليهم الكيان الصهيوني المحتل ومنع عنهم الغذاء والدواء وكل شيء يبقيهم على قيد الحياة، يُمارس ضدهم مجزرة ممنهجة ضاربين بكل النداءات الإنسانية عرض الحائط غير مبالين بهذا الشعب الأعزل الذي تحيط بحدوده دولا عربية شقيقة وملايين من الشعوب الغفيرة التي لا حول لها ولا قوة!.

فلا تتأسّف عليهم يا أبا عبيدة ولا تتحسّر على هوانهم وذلهم، يكفي أن تتحسّب عليهم وتجعلهم خصومكم أمام الله، فوالله من كان الله خصيمه فلن يهنأ في عيشه مهما طال به الزمان، فلا خير في هذه الحياة ونحن نرى إخوتنا يُقتّلون وتمارس فيهم صنوف العذاب من تجويع وتشريد، وحسبنا وحسبهم الله فيمن خذلهم وساهم في إطالة مدى معاناتهم.

فاصلة أخيرة

تابعنا خلال الأيام الماضية كيف تدخلت العشائر السورية الأصيلة الشهمة واستجابت لاستغاثات إخوانهم البدو من أهل السويداء ودحروا عصابات الهجري، تخيلوا معي لو تحركت مشاعر ونخوة الشعوب العربية وانتفضت أمام حدود الدول العربية المتاخمة لحدود فلسطين المحتلة، والله لن تمر ساعات إلا وسنرى الصهاينة يرفعون الحصار عن غزة ولزال الاحتلال الصهيوني ولتحررت كامل أرض فلسطين من براثن بني صهيون، ولكنه مستبعد ومستحيل أمام أمة لا إرادة لها.

كربلاء: ملحمة الإيمان والثبات

تاريخ البشرية كتاب عظيم. كُتب بالتضحيات والشجاعة والإيمان والحكمة. ومن بين صفحاته، تبرز كربلاء كأغناها بالدماء. أولئك الذين يدافعون عن الحقيقة سيظلون محلَّ احترام دائمًا، ولن يتراجعوا، ولو كان الثمن حياتهم. كانت كربلاء هكذا، حيث تجلت فيها الشهادة الإيمانية، فأصبحت رمزًا ساطعا ليس للتضحية فحسب، بل للقوة الروحية، والمحبة الإنسانية، والعدالة، والقيم.

كربلاء ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي رسالة الحق والثبات، وهي انتصارُ رسالةٍ مفادُها: «ليبقَ الحقّ، ولنمتْ»، تلك التي انتشرت في الصحراء. قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». أما الحسن والحسين رضي الله عنهما، فلم يكونا يمثلان عائلة عادية، بل كانا يجسدان الإسلام الأصيل. وقد أصبح هذا النجم الساطع من هذه السلالة المقدسة، أهل البيت، رمزا ثمينا لمقاومة الظلم وعدم المساواة في واقعة كربلاء . وقعت كربلاء كظلال تُحيي نور الإيمان في مواجهة الظلام وجهاً لوجه.

تبدأ هذه الفترة التاريخية عندما أعلن الحسين رضي الله عنه بحزم أنه لن يسمح ليزيد، المتعطش للسلطة، بأن يقوض قيم العدالة والسلام والتسامح في الخلافة. كان للحسين والمؤمنين معه، الذين بلغ عددهم اثنان وسبعون، موقف فولاذي ضد كل ظلم واضطهاد، حيث ثبتوا على التقوى رغم المجاعة الجسدية في الصحراء، ووجود جيش العدو الذي بلغ عدده حوالي ثلاثين ألفًا، والوديان القاحلة التي تفتقر إلى الماء. لكن لم يتخل الحسين رضي الله عنه عن عائلته وأولاده الذين كانوا معه. راقب الحسين الجيش بعين الصبر، حتى أنهم أزعجوا ابنه علي أصغر رضي الله عنه البالغ من العمر ستة أشهر بحجب الماء عنه.

وأخيراً قال الحسين رضي الله عنه: “إن كان دين محمد صلى الله عليه وسلم لم يستقم إلا بقتلي، فيا سيوف خذيني”. لو لم يكن الحسين رضي الله عنه لما بقي من الإسلام اليوم إلا ظلاله الفاسدة.

من الحقيقة العارية، عندما يمر كل منا بيوم كربلاء، فليكن موقف الحسين موقفنا. وبذلك نكون جديرين بأن نسمع هذه الكلمة من الحديث وتُهمس في قلوبنا: «حسين مني، وأنا من حسين». لا يمكن أن يُمحى ألم كربلاء، ولا يزال سيل الدم الذي سقط على ترابها صرخة للعدالة. ولا تزال صرخات الأطفال، ووقوف النساء عاجزات والمشاهد الأخيرة للحسين رضي الله عنه محفورة في أذهان العالم.

تذكرنا هذه الواقعة التي لم يستسلم فيها أحد، حتى لو ضحى بحياته، بأن الإيمان يظل دائما ذا قيمة. إن العالم الذي نعيش فيه اليوم مليء بالظلم وإساءة استخدام السلطة والفساد. وفي هذا العصر، تشير كربلاء إلى أن الحق ثابت لا يتغير مهما تغير الزمان؛ ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتحلى بالشجاعة لمواجهة الظلم.

لا ينبغي أن نفهم كربلاء إلا من خلال العيش مع الحق، مثل الحسين رضي الله عنه. إذا لم نستطع أن نعيش مع الحق، فلا فائدة من تذكر كربلاء. إنها دعوة إلى حدود الإيمان والحقيقة. ولذلك، ينبغي أن تتجلى في أذهاننا في كل مرة نتذكر كربلاء رسالة واحدة وهي أن نتمسك بالحق مهما كلفنا الأمر، وأن نعيش مع العدل، وأن نبقى قائمين مع الحق مهما كثرت المعارضات. وليبقى دم الحسين رضي الله عنه السمة الخالدة لذلك.

العرب والهند.. طريقان يلتقيان في دروس العربية

هناك علاقة قديمة وممتدة بين العالم العربي والهند، علاقة بدأت من زمن التبادل التجاري ولقاءات الموانئ، واستمرت عبر التاريخ من خلال المصاهرة والتعايش للتحول مع الوقت إلى علاقة ود واحترام متبادل. هذا القرب الثقافي ليس فقط في الطعام واللباس، بل أيضًا في اللغة، حيث نجد اليوم عددًا كبيرا من الهنود، خاصة المسلمين، يحملون تقديرا خاصا للغة العربية إما بدافع ديني كالصلاة وتلاوة القرآن، أو لأسباب مهنية واقتصادية كالعمل في الدول العربية، وليس غريبا أن نجد اليوم كثيرا من المدارس والجامعات في الهند تدرس اللغة العربية، ففي ولاية كيرلا وحدها، تدرس العربية في عدد من المدارس الرسمية، إلى جانب آلاف المعاهد الدينية والمراكز التعليمية المنتشرة في مختلف الولايات. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد المؤسسات التي تعنى بتعليم العربية في الهند قد يتجاوز 40 ألفا، وهذا رقم لافت يعكس اهتماما حقيقيا بالثقافة واللغة معا، وعندما يأتي الطالب الهندي إلى دولة عربية لتعلم العربية كلغة ثانية، فإن التحدي لا يكون لغويا فقط، بل ثقافيا أيضًا. فهناك اختلاف واضح في الأبجديات، وفي تركيب الجملة، وفي طريقة التعبير، ومع ذلك، يحمل الطالب شعفًا واضحًا، ويأتي بدافعية عالية.

يعرف الشعب الهندي بحبه للتفاعل الشفهي، وتعد القدرة على التعبير بالكلام جزءا مهما من الشخصية الاجتماعية هناك. وعندما يدخل الطالب الهندي إلى بيئة يتعلم فيها العربية، لكنه لا يمتلك بعد رصيدا كافيًا من التراكيب والمفردات، فإن هذا التفاعل يتحول إلى تحد. فبعض الطلاب يشعرون بالعجز فيختارون الصمت خوفا من الوقوع في الخطأ، بينما يحاول آخرون التغلب على هذا العجز بالكلام المتواصل، حتى وإن امتلأ بالأخطاء النحوية أو اللغوية، لأنهم ببساطة يريدون أن يعبروا عن أنفسهم قدر المستطاع. وهنا تأتي أهمية دور المعلم في فهم هذا السلوك وتوجيهه بلطف، بحيث يشجع الطالب على الحديث، ويقدم له الدعم دون أن يُربكه بالخوف من الخطأ.

أما في فصول المحادثة، فتعد موضوعات مثل دور الأسرة، ومكانة الأم، والزواج المرتب من قبل العائلة، من أنسب المدخلات لبدء الحوار، فهذه الموضوعات مألوفة في الثقافة الهندية والعربية على حد سواء، وتمنح الطلاب فرصة للتعبير بلغتهم الجديدة عن تجارب قريبة منهم، ما يخفف من رهبة التحدث ويزيد من شعورهم بالثقة والانتماء.

ولا يمكن تجاهل عنصر آخر قد يبدو بسيطا، لكنه شديد الأهمية، هو لغة الجسد. فبعض الإيماءات التي تعني شيئا في الثقافة الهندية قد تفهم بالعكس في الثقافة العربية، مثل هز الرأس بطريقة تعني «نعم» لديهم لكنها تفهم «لا» عند العرب، هذه التفاصيل، وإن بدت صغيرة، إلا أنها تفتح الباب أمام تساؤل لطيف: هل تتغير شخصية الإنسان عندما يتحدث بلغة أخرى؟ هل تتحول طريقة تعبيره، وإيماءاته، وحتى طريقته في التفاعل بحسب اللغة التي يستخدمها؟ هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة في بيئة تعليم اللغات، وتشير إلى أهمية تضمين تدريبات تواصلية تعالج اللغة المنطوقة ولغة الجسد معا، بما يعزز الفهم المتبادل ويقلل من سوء الفهم غير المقصود، ويهيئ الطالب لبيئة تواصل أكثر انسجاما بين اللغة والثقافة.

الساعي وراء الحقيقة والباحث عن الله: سلمان الفارسي سلمان الخير

……………………..

قرأنا في القصص وسمعنا من التاريخ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شخصياتهم البارزة الشريفة، وتفانيهم العميق في إدراك الإسلام وحفظه طوال حياتهم، وعن شدة حرصهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّته، حتى أبكتنا قصصهم ولامست قلوبنا. فقد أدرك الصحابة وواجهوا شدائد وعنفًا شديدًا في سبيل دعوة الإسلام، من اليهود والنصارى، بل ومن كفار مكة والمشركين، مرارًا وتكرارًا. ولكن ما وجدته غريبًا خلال قراءتي في هذه الأيام هو قصة إسلامِ صحابيٍّ تذوّق قبلها من ينابيع المجوسية والنصرانية واليهودية، فلم يجد فيها طَعمًا يُقنع قلبه، ولم يطمئن لها، حتى بعد تحقيقٍ وبحثٍ دام عقودًا، أدرك الحقيقة واعتنقها. إنه سلمان الفارسي، الساعي وراء الحقيقة، والباحث عن دين الله الإسلام. ومن الجدير أن نَصِفَ حياته الشريفة بأنها انعكاسٌ للآية القرآنية: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، حيث زهد في كل ما يملكه من أموال وثروات في سبيل إدراك دين الله الإسلام. وكانت معظم حياته رحلةً وسفرًا في طلب الحق، حتى وفقه الله فاهتدى إلى الإسلام واعتنقه مباشرة من حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه المقالة يحاول الكاتب لتسليط الضوء على شخصية سلمان الفارسي قبل اعتناقه الإسلام وبعده بطريق سهل يسير.

سلمان الفارسي، المُكنّى بأبي عبد الله، ويُعرف أيضاً بسلمان الخير وسلمان بن الإسلام، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان مجوسياً، سادن النار، وعابد الشمس قبل اعتناقه الإسلام. وكان اسمه مابه بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك، من وَلَدِ أب الملك. وقد وُلد في “جي”، وفي رواية “جيان”، وهي مدينة أصبهان بوسط إيران، التي تقع بين مدينة طهران ومدينة شيراز. وفي عنفوان شبابه عاش عيشة الفخر والبذخ، لأن أباه كان دهقان أرضه، وأغنى القوم مالاً، وأعظمهم شرفاً. وكان سلمان قرة عين أبيه، ولذلك كان أكثر أوقاته في بيته كمحبوس، لأن أباه خاف فقدانه وبُعده منهوكان لأبيه ضيعة ذات ثمار غزيرة، فقد اعتاد أن يذهب إليها ويأتي بالثمار عندما تثمر، ولكن في يوم ما كان أبوه مشغولاً، لذلك طلب من سلمان أن يذهب إلى الضيعة ويأتي بالثمار. هنا أُتيحت لسلمان فرصة للخروج خارج البيت لأول مرة، وهنا تبدأ رحلته في طلب الحق والحقيقة. فخرج يريد ضيعته، وفي منتصف الطريق، مرّ بكنيسة من كنائس النصارى، فسمع أصواتهم فيها وهم يصلون، وكان لا يدري عمّا حوله بشيء لحبسه في بيته. فلما مرّ بهم وسمع أصواتهم، دخل سلمان عليهم ينظر ما يصنعون، فلما رآهم أعجبته صلاتهم، ورغب في أمرهم، وظنّه خيرًا من الدين الذي هو عليه. ودخل معهم يبحث عن أمور دينهم حتى غربت الشمس، وبشغله هذا نسي ضيعة أبيه، ولم يأتها حتى الآن. وقبل مغادرته من هناك، سألهم عن أصل هذا الدين لشدة شوقه به، فعرفوه أنه بالشام. ثم رجع إلى أبيه، وقد كان بعث رسولاً في طلبه، وعند وصوله إلى البيت أخبر سلمان أباه ما رأى وما فعل في النهار في الكنيسة، فخاف أبوه على دينه، فجعل في رجله قيدًا لئلا يخرج مرة أخرى. ولكن كان سلمان قد اعتزم قبول دين النصارى وترك دينه، حتى كتب إلى الكنيسة أن تُعلِمه بقدوم ركب من الشام إذا قدموا. حتى بعد أيام، قدم ركب من الشام للتجارة، فقطع سلمان من حبسه، وخرج مع الركب إلى الشام حتى وصل، فطلب منهم أفضل أهل هذا الدين، فعرفوا سلمان بأسقف في الكنيسة، فأتاه وصحبه بإذنه. فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزها لنفسه ولم يُعطِها المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورِق (فضة). وقد غضب سلمان غضبًا شديدًا لما رآه يصنع، لأنه لم يرجُه أن يفعل كذلك. ومضت الأيام حتى مات الأسقف حتف أنفه، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فأخبرهم سلمان ما فعل بهم هذا الأسقف من سوء، ودلهم على الكنوز التي اكتنزها. ولم يصبر أهل النصارى على عمل الأسقف، فصلبوه، ثم رجموه، حتى بعد تيقّنهم من موته، ثم عيّنوا مكانه شخصًا آخر.

فصاحب سلمان الأسقف الجديد، وأقام عنده زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقال له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حبًا لم أحبّه أحدًا من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟ فقال: أي بُني! والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدّلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالموصل (مدينة قديمة على نهر دجلة بالعراق)، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالْحَقْ به. فلما مات وغُيّب، لحق سلمان بصاحب الموصل، فقال له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فأذن له بالإقامة عنده، فوجده خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات. فلما حضرته الوفاة، قال له مثل ما قال للأول، فسأله: إلى من يوصي به؟ وما يأمره؟ فقال: أي بُني! والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه، إلا رجلًا بنصيبين (على طريق القوافل من الموصل إلى الشام، سفر ثلاثة أيام)، وهو فلان، فالحق به. فلما مات وغُيّب، لحق سلمان بصاحب نصيبين، فجاءه فأخبره بخبره وما أمره به صاحبه، فأذن الأسقف له بالإقامة، فوجده على أمر صاحبيه، فلما حضره الموت، سأله سلمان مثل سؤاله للآخرين، فأخبره برجل بعمورية، وأمره باللحاق به. فلما مات وغُيّب، لحق بصاحب عمورية، وأخبره خبره، فأذن له بالصحبة، واكتسب عنده حتى كان له بُقيرات وغنيمة. ثم نزل به أمر الله، فلما حضره، سأله مثل سؤاله للآخرين، فقال: أي بُني! ما أعلمُه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس، آمُرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلّك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجرًا إلى أرض بين حرتين (أرض ذات الحجارة السوداء) بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم مات الأسقف وغُيّب، فمكث سلمان بعمورية ما شاء الله أن يمكث، ثم مرّ به نفر من كلب، تُجّار، فطلب منهم أن يحملوه إلى أرض العرب عوضًا عن بقراته وغنيمته، فحملوه، حتى إذا قدموا به وادي القُرى (بين المدينة والشام)، ظلموه، فباعوه لرجل من اليهود عبدًا، فكان عنده. فبينما هو عنده، قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعه منه، فاحتمله إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رآها فعرفها بصفة صاحبه، فأقام بها.

وفي يومٍ ما، كان سلمان في رأس عِذقٍ لسيده يعمل فيه بعض العمل، وسيده جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: فلان! قاتل الله بني قَيْلَة (الأوس والخزرج)، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء، على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي. فلما سمعها أخذته العُرُواء (برد الحمى)، حتى ظن أنه سيسقط على سيده، فنزل عن النخلة. فلما أمسى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بقباء، فاختبره بالعلامات التي عرفه بها الأسقف في عمورية؛ مرة بإعطائه صدقة فلم يأكل، ومرة بإعطائه هدية فأكل، وأخيرًا رأى علامة النبوة بين كتفيه، فبكى وأسلم من حضرة رسول الله، ثم قصّ عليه قصته، فعجب رسول الله وعجب أصحابه. هذه هي قصة إسلام سلمان الفارسي، الذي عُرف بعد بـ”سلمان المحمدي” و”سلمان الخير”.

في الحقيقة، هنا أمامنا عبر ونُصح من حياة سلمان الفارسي، ولنا أن نستلهم منها وأن نغترف من مناهلها العذبة، وللكفار والمشركين فيها نظر واستدلال. وأصبح إسلام سلمان ردًّا واضحًا على المستشرقين، وعلى من يزعم أن الإسلام مزيف وغير حق، لأن سلمان إنما اعتنق الإسلام بعد أن قضى حياته في النصرانية واليهودية والمجوسية، وبعد أن أدرك بعقله وبصيرته ما في تلك المذاهب من خللٍ وبعدٍ عن الحق، حتى أدرك أن الإسلام هو الدين السديد الموافق للعقل والمنطق، فاعتنقه، ووجد فيه اللهَ الخالقَ الحقيقيَّ المستحقَّ للعبادة، بعد رحلته الطويلة في التعلم والاكتشاف.

أصبح سلمان بعد إسلامه من خيار أصحاب رسول الله، وأحد أحبهم إليه، حيث قال رسول الله: “إن الله يحب من أصحابي أربعة، وأمرني أن أحبهم: علي، أبو ذر، سلمان، مقداد .ووصفه أيضًا بقوله: “هو منّا أهل البيت”. وأول مشهد شهده سلمان هو مشهد الخندق، الذي كان هو العقل المدبر لفكرة حفر الخندق في معركة الخندق، حيث استشار رسول الله أصحابه، فطرح سلمان هذه الفكرة لما كان له من خبرة في الحرب ودهاء المجوس. ولم يتمكن سلمان من حضور بدر وأُحد، وإن كان قد أسلم قبلهما، لأنه كان رقيقًا عند يهودي، فأخبر سلمان رسول الله خبره، فطلب النبي منه أن يكاتب، فكاتب سيده على ثلاثمائة نخلة يحييها له بالفقير، وبأربعين أوقية، فساعده رسول الله وأصحابه حتى أتم المكاتبة، فحرر سلمان من الرق إلى الأبد.

كان سلمان طويل القامة، كثيف الشعر، قوي البنية، معروفًا بقوة جسمه، وكان متواضعًا خاشعًا لله، زاهدًا في نفسه وماله. كان إذا اشترى لحمًا أو سمكًا، نادى المحتاجين ليأكلوا معه، ولا يأكل وحده، وقد ورد في أسد الغابة لابن الأثير أنه تصدق بأكثر من خمسة آلاف درهم. وأدل دليل على زهده: منزله، حيث إذا قام أصاب السقف رأسه، وإذا نام أصاب الجدار قدميه. وقد عاش مع زوجته من بني كندة، وله بنت في أصفهان، وبنتان بمصر، وولدان عبد الله ومحمد. وكان له مكانة كريمة عند رسول الله والخلفاء، وقد روت السيدة عائشة حديثًا يدل على مكانته، قالت: “كان لسلمان مجلس من رسول الله بالليل حتى كاد يغلبنا عليه”. وروى عن النبي عدة أحاديث، وأخرج له البخاري أربعة، ومسلم ثلاثة.

آخى رسول الله بين سلمان وأبي الدرداء. وفي قصة معروفة: زار سلمان أخاه أبا الدرداء، فوجده غائبًا، ووجد زوجته متبذّلة، فقالت له: إن أبا الدرداء لا حاجة له في الدنيا. ثم جاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال له سلمان: كل. قال: إني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل، وفي الليل أراد أبو الدرداء القيام، فقال له سلمان: نم، وكرّرها ثلاثًا، ثم قال له: “إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقّه”. فلما أخبر النبي بذلك، قال: “صدق سلمان” (رواه البخاري). وكتب أبو الدرداء يومًا إلى سلمان: “سلام عليك أما بعد، إن الله رزقني مالًا وولدًا، ونزلت الأرض المقدسة”. فرد عليه سلمان: “سلام عليك أما بعد، فإنك كتبت إلي أن الله رزقك مالا وولدا، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك، وكتبت إلي أنك نزلت الأرض المقدسة، وإن الأرض لا تعمل لأحد واعمل كأنك ترى، واعدد نفسك من الموتى.” هكذا كان سلمان الفارسي رضي الله عنه حيث قال رسول الله “إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان” (رواه أنس بن مالك).

عاش مع رسول الله أخًا وصاحبًا، وبعد وفاته، وفي عهد عمر بن الخطاب، ولاه أميرًا على المدائن (منطقة بالعراق)، وكان أميرًا على أكثر من ثلاثين ألفًا، ومع ذلك كان ينسج ويبيع من كسب يده، ويقسم المال بين نفسه وأهله والمساكين. توفي سنة 34 هـ، وقيل 45 هـ، ودفن في المدائن قرب بغداد، في مكان عُرف باسم “مقام سلمان باك”، ومعناه بالفارسية: “الطاهر”.

وأخيرًا…فمن الواضح كالشمس في رابعة النهار أن قصة سلمان ستبقى صفحة ذهبية في التاريخ، وعبرة منوّرة في قلوب المسلمين إلى الأبد. فلنستلهم من حياته وشخصيته، ولا ننسى قول النبي: “أصحابي كالنجوم، فبأيّهم اقتديتم اهتديتم”. وفقنا الله، وجعلنا من عباده الصالحين، آمين.

……………………

المراجع والمصادر

  1. سير أعلام النبلاء،(362-405)
  2. تاريخ الإسلام للذهبي،(158-163)
  3. أسد الغابة،لابن الأثير،(328-332)
  4. طبقات الشعراني،(30-31)
  5. الاستيعاب،(56)
  6. الإصابة،(62)