سلام الأحرار: من قوة الاعتدال إلى حوار الأمل


شهد العالم حدثًا دبلوماسيًا بارزًا هذه الأيام تمثل في التوصل إلى اتفاق تاريخي بين فلسطين وإسرائيل، بوساطة دولة قطر. هذا الاتفاق يُعتبر ثمرة جهود دؤوبة قامت بها قطر لتوطيد الحوار والسلام في منطقة الشرق الأوسط، التي عانت طويلاً من الصراعات والنزاعات. جاءت هذه الخطوة كأحد أبرز الأمثلة على الدور المحوري الذي تلعبه “القوة الناعمة” في تحقيق السلم العالمي وبناء التفاهم بين الشعوب.
عربياَ، يمثل هذا الاتفاق أملاً جديداً لإعادة الاستقرار في المنطقة، التي ظلت تعاني من الانقسام والتوتر لعقود. ويؤكد أن الحوار يمكن أن يكون بديلًا حقيقيًا عن العنف، وأن الجهود الجماعية للدول العربية يمكن أن تُحدث تحولاً إيجابيًا ملموسًا. كما يبرز الاتفاق مكانة قطر كقوة دبلوماسية ذات تأثير إيجابي في المنطقة.
عالميًا، فإن الاتفاق يرسل رسالة قوية بأن التفاوض والحوار يمكن أن يحلا محل العنف والصراع. في ظل سباق التسلح المستمر والصراعات الممتدة التي دمرت دولًا بأكملها، يشكل هذا الاتفاق نموذجًا يُحتذى به لكيفية استخدام الموارد والنفوذ لخدمة الإنسانية بدلاً من تأجيج الحروب.
إن الوساطة القطرية في هذا الاتفاق تجسد مفهوم “القوة الناعمة” التي تعتمد على الدبلوماسية والثقافة والتعاون لتحقيق أهداف سياسية وإنسانية. في عالم مليء بالصراعات، تظهر الحاجة الماسة إلى مثل هذه الجهود التي تركز على بناء جسور التفاهم بدلاً من التسبب في المزيد من الدمار.
الحروب التي شهدها العالم، من العراق إلى سوريا واليمن، والسودان مؤخراً دمرت ملامح الدول وأفقرت الشعوب. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين” (الأعراف: 56). إن هذا النداء الإلهي يشدد على أهمية العمل من أجل الصلاح والبناء بدلًا من الفساد والهدم.
لطالما كان الحوار هو السبيل لتحقيق السلام الدائم. يذكرنا الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى
بقوله:
“وما الحربُ إلا ما علمتم وذُقتمُ وما هو عنها بالحديثِ المُرجّمِ”
فإن استخدام القوة أمام الضعفاء ليس انتصاراً، والسلام مع الأقوياء ليس خسارة، إذا كان ميزان الاعتدال هو العقل والحكمة. هذا المبدأ يعكس أن السلام ليس تنازلًا أو هزيمة، بل هو تعبير عن استراتيجية ذكية تقوم على التوازن والحوار، لتجنب الحروب والدمار. في هذا السياق، يكون السلام مع الأقوياء خيارًا حكيمًا وليس علامة على الضعف، بل دليلًا على القوة التي تبني وتستمر.
كما أن الحرب، في الأحوال والأماكن المختلفة، تتغير حينما يتم استخدام القوة بلا هوية أو هدف.
هنا يكون حسمها العسكري خيارًا قويًا خصوصًا عندما يكون الهدف هو قطع طمع الطامعين وفرض الوصاية على الأوطان.
التاريخ مليء بالشواهد على أن القوة العسكرية حسمت الحروب و العكس صحيح أيضاً وقوة العدة والعتاد تكسب ثقلًا، ولكن النصر الحقيقي يأتي بيد الله.
يقول نيلسون مانديلا: “إذا أردت صنع السلام مع عدوك، فعليك أن تعمل معه. ثم يصبح شريكك.” هذا النهج هو ما تبنته قطر بمهارة ودبلوماسية، حيث أظهرت للعالم أن بإمكان الدول الصغيرة أن تكون كبيرة بتأثيرها وأعمالها.
خلق الله الناس أجناسًا وألوانًا وقدرات مختلفة ليتكاملوا ويحققوا الغاية من وجودهم، كما قال تعالى: “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات: 13). إن السلام ليس مجرد غاية بل وسيلة لتحقيق الرخاء والتنمية. بدلاً من إنفاق الموارد على التسلح والحروب، يجب أن تُوجَّه نحو التعليم، والصحة، والبنية التحتية، مما يحقق الرفاهية للجميع.
هذا الاتفاف هو رسالة واضحة للعالم بأن السلام ممكن إذا توفرت الإرادة، وأن القوة الناعمة قادرة على تحقيق ما عجزت عنه الأسلحة. إنه مثال حي لما تحتاجه الإنسانية في هذا الزمن المضطرب: الحكمة، الحوار، والتعاون من أجل مستقبل أفضل.
وعليك السلام ورحمة الله ياوطن،،،.

مرحباً بلاد الشمس…ماضٍ مجيد وآمال مستقبلية واثقة

إن الحديث عن “بلاد الشمس” سوريا لا يمكن أن يبدأ ويكتمل دون الإشارة إلى مكانتها في التراث الإسلامي. فقد أحبها رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – ودعا لها ولأهلها. كما كانت الشام مهد الحضارات وموطنًا للعديد من الخلفاء والصحابة الذين ساهموا في نشر الإسلام وبناء حضارته. هذا الإرث العظيم يضيف بُعدًا آخر للآمال في أن تعود سوريا إلى مجدها، أرضًا للتاريخ والحضارة والسلام.

لطالما كانت سوريا واحدة من أبرز مراكز الحضارة والتجارة في العالم العربي، مستمدة مكانتها من موقعها الجغرافي الاستراتيجي وتاريخها العريق. قبل الحرب، كانت المدن السورية مثل دمشق وحلب تُعَدّ محطات رئيسية للتجارة الإقليمية والدولية، وجسورًا تربط الشرق بالغرب. كما أن طبيعتها الساحرة ومعالمها التاريخية والدينية جعلتها وجهة سياحية لا غنى عنها.

وفي منتصف شهر آذار (مارس) عام 2011، تغير المشهد بشكل جذري. سنوات الحرب الطويلة عصفت بالبلاد، وألحقت أضرارًا بالبنية التحتية وتراجع اقتصادها، مما أدى إلى مواجهات غير مسبوقة في المجتمع السوري. ومع ذلك، فإن الشعب السوري المعروف بصبره وشجاعته، يحمل دائمًا أملًا كبيرًا في إعادة بناء وطنه واستعادة مكانته الرائدة.

بصمة السوريين في الخارج هي أحد أبرز دلائل هذا الأمل، وهو ما شهده العالم العربي وأفريقيا وأوروبا من نجاحات السوريين الذين تشتتوا بعد الحرب. ففي دول مثل مصر، وبلادي “السودان”، وقطر، وغيرها، أثبت السوريون جدارتهم في التجارة وريادة الأعمال في الأسواق. من خلال المشاريع الصغيرة والمتوسطة، أسهموا في تنمية اقتصادات هذه الدول. مهاراتهم العالية وحسهم التجاري انعكسا إيجابًا على بناء علاقات وشبكات اقتصادية متينة أينما وجدوا.

يقيني أن إعادة إعمار سوريا لن تأخذ وقتًا طويلًا. سوريا لن تكون مجرد مشروع هندسي أو اقتصادي؛ بل ستكون عملية شاملة تتطلب تعاونًا محليًا ودوليًا، وجهودًا متكاملة لتوحيد الصفوف وإعادة الثقة بين أبناء الوطن. وبلا شك، ستُسهِم خبرات السوريين في الداخل والخارج في تسريع هذه العملية، سواء من خلال الكفاءات المهنية أو الاستثمارات التي يمكن أن تعود إلى الوطن.

إن موقع سوريا الجغرافي وتاريخها التجاري، لا شك، سيسهمان في تحفيز النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات لها مرة أخرى، وإعادة رونقها وألقها. سوريا كانت وستظل جزءًا من ذكريات كثيرين ممن زاروا معالمها سائحين أو تجارًا.

ختامًا، نرفع أكفنا بالدعاء ونلهج بالدعوات الطيبات مع كل الأمل لسوريا وبلادي “السودان” والدول المكلومة، أن يعم السلام جميع أوطاننا، وأن تعود الأمة العربية والإسلامية مرة أخرى ساحة للتواصل وأكثر قوة، وجسرًا حضاريًا بين الأمم. سوريا ليست مجرد دولة؛ إنها قلب ينبض بالحياة والتاريخ، وعودتها إلى مكانتها أمر يستحق العمل والدعاء من الجميع. حفظ الله أوطاننا وشعوبها.

مشاهدٌ من خيمة العزاء وصورٌ من بيت الشهيد

على مدى ثلاثة أيامٍ متواليةٍ قد انتهت، هي أيام العزاء المضنية للروح والجسد، التي نظمت في العاصمة القطرية الدوحة، للرجال في سرادق كبيرٍ قد نصب من أجله، وجهز لهذه المناسبة الحزينة الأليمة، وخصصت له مساحة كبيرة من الأرض، ضمن إجراءاتٍ أمنية خاصة، وأسباب حمايةٍ مشددة، ورعايةٍ قطريةٍ كريمةٍ، حيث أَمَّه آلاف المعزين من المواطنين القطريين والمقيمين، وآخرون قد جاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ، من الجوار القريب ومن كل أنحاء عالمنا العربي والإسلامي القصي والبعيد، قدموا العزاء بأنفسهم، ونيابةٍ عن أهلهم وشعوبهم، بعضهم مثل بلاده رسمياً، وهم سفراءٌ نحبهم ونجلهم، ونقدر عالياً مشاركتهم، وغيرهم وهم كثير مثلوا شعوبهم الصادقة، وقدموا العزاء باسم أهلهم الذين يحبون فلسطين وأهلها، ويعشقون أرضها وقدسها، ويتألمون لما أصابها ونزل بها، ويتمنون نصرتها والدفاع عنها، والقتال مع أهلها والشهادة على أرضها.

وفي مكانٍ غير بعيدٍ، في بيت الشهيد الذي سيبقى مفتوحاً، ولن تغلق أبوابه باستشهاد سيده ورحيل صاحبه، الذي بناه ورفع بالمقاومة عماده، وأعلى بالصدق والتواضع أسواره، وحمى بالرفق واللين أهله وأحبابه، وربى فيه على المقاومة وحب الشهادة أولاده وأحفاده، كان بيت عزاءٍ آخر مهيبٌ وكبيرٌ، خصص للنساء، اللاتي أقبلن فرادى وزرافاتٍ، فلسطينيات وعربياتٌ، وأخرياتٌ من كل الجنسيات، وأخرياتٌ لا يخفين حزنهن، ولا يقوين على حبس الدموع في عيونهن، التي ملأت المآقي وفجعت قلوبهن، فأظهرن من الحزن والألم ما أخفاه أزواجهن، وما تعالى عليه أبناؤهن.

إلا أن رفيقة دربه، زوجته وأم أولاده، أم العبد التي واكبته وعانت معه، وصبرت معه وما جزعت، وقدمت معه أبناءها وأحفادها وما وهنت، واحتسبت أجرهم عند الله عز وجلٍ، وبصمتٍ عليهم حزنت، وبعيداً عن العيون شوقاً إليهم بكت، استقبلت المعزيات برأسٍ عالٍ مرفوعٍ، ونفسٍ واثقةٍ غير مكلومةٍ، وكانت معهن كالطود الشامخ في مواجهة استشهاده، امرأة صابرةً محتسبة، حبست دمعها، ونهضت وكأنها ما كبت، وانتصبت أمام أبنائها والمعزيات تفخر بشهادة زوجها، التي أقبل عليها وكان يتهيأ لها من قبل معها، وقد قال لها مراراً تهيأي لملاقاة الله عز وجل، وصحبة رسوله الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أراني إلا شهيداً ها هنا، في هذا البيت وفي هذه البلاد.

وفي ركنٍ قصيٍ في سرادق العزاء، وغير بعيدٍ في بيت الشهيد، كنت أرقب ثلةً من الشبان المتقدين حماسةً وقوةً، المشرقة وجوههم، البهية هيئاتهم، المتلحفين بالصمت والمتوارين بأسفٍ، يبحث عنهم الجميع ويسألون، ويذهبون إليهم حيث يقفون ويصطفون، يصافحونهم ولهم يقدمون العزاء، ويقفون معهم بصمتٍ وخشوعٍ، وتقديرٍ واحترامٍ، عرفت أنهم مرافقو الشهيد ومساعدوه، وفريق عمله ومستشاروه، والعاملون في مكتبه والمتابعون لمهامه، وإخوة الشهيد وسيم أبو شعبان، الذي قضى مع الشهيد اصطفاءً، واختاره الله عز وجل من بينهم انتقاءً.

رأيت الحزن يسكن عيونهم، والأسى يطغى على وجوههم، وقد كساهم الألم والوجوم، والحسرة والهموم، فقد رحل والدهم، وغاب سيدهم، وفقدوا أخاهم، وسبقهم إلى جنان الخلد من رباهم، وشعروا بالخيمة التي ظللتهم سنين طويلة قد سقط عمادها، وانهارت فجأةً ساريتها، وهم الذين تعاهدوا على حمايته والتضحية بأرواحهم دونه، وقد رأوا صدقه وإخلاصه، وتفانيه وتجرده، ورحمته ورأفته، ولينه ورقته.

قد عرفوه صغاراً، ورافقوه منذ أن اشتد عودهم، وقرروا العمل معه وإلى جانبه، فأصبحوا مرافقين له طول عمرهم، ومضى عليهم أكثر من خمس عشر سنة وهم في صحبته، في غزة والدوحة، وفي كل مكانٍ يذهب إليه زائراً أو يقيم فيه عملاً، وقد اعتادوا العيش معه وبرفقته، يحرسونه بأرواحهم ويحمونه بمهجهم، ولا يغيبون عنه برهةً من زمانهم ولا ساعةً من أيامهم.

يخفون إليه قبل أن يدعوهم، ويلتفون حوله كأنه أبوهم، يحنو عليهم ويسأل عنهم، يتفقدهم ويزورهم، يهتم بشؤونهم ويعنى بحاجاتهم، يجلس معهم ويسامرهم، يصلي معهم ويؤمهم، ويسبقهم إلى موائدهم ويقدم الطعام لهم، يتفقد غائبهم، ويهتم لمريضهم، ويسأل عن حاجة كلٍ منهم، كأنهم أولاده، أو بعض أهله، وهم في جلهم من أهل بيته العزيز وسكان مخيمه الأصيل، مخيم الشاطئ الذي جمعه بهم وعرفه عليهم، واستبقاهم إلى جانبه منه، يذكرونه به، ويأنس لوجودهم معه، وكأنه ما زال معهم في مخيمه لم يفارقه، وبين أهله لم يغادرهم.

أما همامٌ وعبد السلام، فقد كانا على قدر المحنة والابتلاء، تصدرا المعزين، ووقفا ثابتين في استقبال المهنئين، وكانا قد صَبَّرا أهلهما والمحبين، واحتسبا عند الله عز وجل والدهما كأعظم شهيد، ووقفا في مواجهة التحديات والتصدي للاستحقاقات القادمة كأعظم ما يكون أبناء الشهداء، الذين لا يروعهم الخطب، ولا يخرجهم عن طورهم الجزع، ولا يقعدهم الفقد أو يضعف نفوسهم الرحيل، وقد أحسن عبد السلام خاتمة العزاء، فكانت كلمته شاملة، ومعانيها كاملة، ورسائلها كثيرة، وأبعادها استراتيجية، ورؤيتها بصيرة، وثقتها بالله عز وجل كبيرة.

قد كانا فخورين بأبيهما، سعداء بما تراه عيونهما، وهم يرون آلاف المعزين، وآلاف المتصلين، ويسمعون عن مئات ملايين المسلمين وقد صلوا في بلادهم صلاة الغائب على أبيهم، في سابقةٍ لم يشهد مثلها المسلمون من قبل، وكأن شهادته كانت نصراً، واغتياله كان فتحاً.

وفي الأقصى كان اسم أبيهم علماً، يرج الأرض ويرتفع إلى الجوزاء علواً، يغيظ العدو ويقهر الاحتلال، ولا يأبه بعقابهم ولا يخاف إجراءاتهم شيخ الأقصى وإمامه، الذي دعا له وصلى عليه، واستبشر بشهادته وتوعد قاتله بيومٍ فيه على جرائمه يندم، وتحل عليه اللعنة قريباً ويرحل.

رحمة الله عليك أبا العبد، نستودعك الله عز وجل وقد سلمت الأمانة كاملةً، ورحلت وما فرطت فيها ولا هنت، وحافظت عليها وما استسلمت، وحمل الراية من بعدك خلفك، القوي الأمين، الصادق الوعد المتين، وأخذ الكتاب بقوةٍ، ومضى على عهدك بثقةٍ ويقينٍ، فسلام الله عليك في الخالدين، وعلى رفيقك وسيم، وغفر لك ووفق من بعدك، وكان معهم وأيدهم، وأخذ بأيديهم ونصرهم وبه أعزهم.

قضايا الأدب المعاصر

عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه وينزع لباس البناء، وحينما يلقي بركانه حمم الكراهية لأسباب عدوانية لا علاقة لها بالمعرفة، والتهذيب، والأخلاق، والجمال. لقد تطور العالم في القرن التاسع عشر ونصف القرن العشرين بشكل لم يشهده في قرون مضت. تغيّر خلاله جوهر الثوابت والقيم الاجتماعية، وأخذ يتوسع ويتمدد، وبدأ للعيان ما نراه من تحوّل أدبي، إذ لم تكن مقولة “البقاء للأصلح” لتتناقض مع شبيهتها “البقاء للأقوى”.

المعرفة والتهذيب لبسا لباسًا يعكس ما تتركه جرّافات التقدم من واقع حال، قضى على الذاكرة المهترئة. الإدراك الساخط بات مما لا يدعو للريبة، حيث أصبحت المسلمات محددة، ثم يأتي عليها زمن لتصبح كلها أخطاء! بعيدًا تمامًا عن الحقائق، ضمن أفكار العدمية والعبثية. هذا يقودنا إلى التساؤل: ما قيمة الأدب؟ وهل تحوّلاته مع مسيرة الزمن تجعله في فترة ما يتطاول على الحقائق المكتسبة؟! وهل هو محتاج لتحديث دوري ليصير الإنسانية أداة لآلة الذكاء الصناعي، وصولًا إلى التزييف المضمر في ظاهره، مما يتم تزكيته من شخصيات لها باعها ومكانتها واسمها الأدبي؟

في وقت يحتفل فيه الذين استحوذوا على مقاليد تتويج الجدارة والبراعة الأدبية العليا بوجود الأدب وماهيته، وتنظيم وتوجيه حركية الأدب بكل مكوّناته من إبداع، ومتلقٍ، وتاريخ يضم مكتسبات جمّة في حقل الأدب الخضمّ. كل ذلك بغية خلق مناخ سليم يحفظ معتقداتنا الإيمانية، ويكفل دوام النبوغ المحقق، وكل ذلك في إطار واحد يعدّ ينبوعًا يضمن تماسك بنية الفرد، ومن ثم المجتمع، وصولًا للرقي الحضاري. وانطلاقًا من هذا الأساس، يكون البناء غاية عليا، والهدم ما هو إلاّ تمحيص وتنقيح كوسيلة لا أكثر.

إذ يقوم الأدب بتحقيق الفائدة والمتعة والتعبير عن النفس الإنسانية، ومن ثم التعبير عن المجتمع. الأدب لكل الناس، للصغار والكبار، للمثقفين وغير المثقفين، للأغنياء والفقراء، وللشعوب كافة. ولكن لكل فئة من الناس أدبها، فما يصلح للصغير قد لا يصلح للراشد، وما يستمتع به إنسان معين قد لا يلبي ذوق إنسان آخر، أو قد يتخطاه الإنسان نفسه في مرحلة أخرى من عمره.

إن الوظيفة الدائمة للأدب هي تلبية حاجة فطرية غير مكتسبة لدى الإنسان. وقد لاحظ هذه الملاحظة الروائي الروسي ليف تولستوي (1828-1910) عندما افتتح مدرسة لأطفال الفلاحين في قريته بأسنايا بوليانا، وأخذ يسرد على الأطفال الحكايات، فوجد أن الأطفال يشعرون بمتعة كبيرة. ففهم أن الأدب ليس وسيلة من وسائل التسلية التي تلجأ إليها الطبقات البرجوازية من أجل قتل الوقت، وإنما هو حاجة من حاجات الإنسان الفطرية، بدليل أن الطفل يستمتع بالأغنية والحكاية.

يتميز الأدب بالواقعية في تصوير الحياة اليومية والمعاناة الإنسانية، وتسليط الضوء على الظلم والفساد والاستغلال. إن المبدع الحديث لا يتورع عن استعمال الكلمات المتداولة التي كان الأدب يترفّع عنها فيما مضى، حريصًا على تخيُّر وانتقاء الألفاظ الشريفة، مع معرفة أسباب ارتقاء اللغة وانحطاطها، على اختلاف وتنوع هذه الأسباب؛ لتصبح هذه المعرفة وسيلة لسلوك سبل الارتقاء، واجتناب أسباب الانحطاط.

يقول الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب: “وقد كانت وظيفة الأدب، أو بالحري وظيفة الرائع منه، تصوير هذا الصراع القائم بين الشر وبين الإنسان، وما زالت تلك وظيفته حتى يومنا هذا.” وأود أن أبين ناحية مهمة هي أن الأديب لا يقف كالمتفرج.

القبيح، لغةً، هو كل ما ينفر منه الذوق السليم ويأباه العرف العام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ، فاصنع ما شئت”؛ رواه البخاري. هنا نستحضر معكم مقولة علي بن أبي طالب: “قُرِنَت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان.”

عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه، ذاتيًا، تكون الكلمة الدواء التي تؤثر في النفس، وتكون في نشأتها محملة بالدمار الذاتي، يرمي بها الكاتب إلى القراء، وقد تكون مفاعل شعوري خالداً سلبياً. هنا يكون انتحار جماعي لا يموت فيه الكاتب المتوّج (مؤقتًا) فحسب، بل يأخذ معه أناس كثر.

لا شيء يأتي من فراغ؛ فإذا توفرت كل الأسباب لانتشار رواية معينة، فذلك يعود لا محالة إلى عدم التحكم في الذوق الجماعي. إذ كما يعمل الأدب على تحقيق نموذج راقٍ لدى المجتمع أو يعكس المدى الذي وصل له، فإنه يؤدي للرذيلة والانحطاط كذلك. من هنا يصبح الذوق العام (المتلقي) خاضعاً قابلاً للتزعزع والانجراف، تابعاً لأشكال شتى، همه هو ضجة الجديد فقط حتى لو كانت على حساب ثوابته ومبادئه. وكل هذا يدل على مؤشرات غير صحية على حالة الأدب (شعر، رواية، قصة، مقال، مسرح، …إلخ).

بالرغم من المطالب السابقة، على الأقل بالمحافظة على المنجزات الكبيرة التي تعد لصالح أدبنا العربي على مر العصور، وبعد ظهور أعراض تحذر من ترهّل قوته وسلامته نظرًا لإهماله واحتقاره والانحياز نحو الذكاء الصناعي والتكنولوجيا وعالم الشهوات الزائلة والكنوز من الذهب والأموال، تحت عنوان كبير هو الزيف.

عندما يهدم الأدب نفسه بنفسه ذاتيًا، وحينما يلقي بركانه حممه المكروهة لأسباب عدوانية لا علاقة لها بأطروحات الخير والحب والجمال.

في ظل غياب الاهتمام بالأديب على مستوى عالٍ من المؤسسات الرسمية ومنهج استشرافي يكفل بلوغ أهداف تنمية ثقافية حاضنة لمشاريع كبرى يبلغ بها المبدع أقصى مدى ممكن، كجائزة نوبل للآداب أو خلق جوائز مماثلة، أو جعل المواهب تظهر من خلال تسخير الظروف التي تنعش هؤلاء المبدعين وتبعث فيهم روح المساهمة والإبداع كغيرهم من المجالات الأخرى.

لم يلبث مشهد الإبداع الأدبي على واقعه حتى ظهر محمود سامي بن حسن حسين بن عبد الله البارودي المصري، رائد مدرسة الإحياء والبعث، كحل من الحلول رغم ما يعاب على مضمونها من غثاثة عامة. يمكن تصوّر حال الوهن الذي أصاب الأدب بسبب غياب مدرسة مجددة منذ سقوط بغداد سنة 1258 في أيدي التتار، الذين قضوا على الخلافة العباسية وخرّبوا بغداد وهدموا دور العلم، وألقوا بألوف المخطوطات التي تضم الثقافة العربية وتحوي تراثها في النهر هباءً. حتى ظهر روّاد جدد، أخذوا على عاتقهم المسؤولية على أساس النوعية، كالأديب محمود تيمور، الذي تأثر بالقصصي الفرنسي الشهير موباسان، ويظهر ذلك في واقعيته الصادقة، واتجاهه إلى الأحداث العادية والمشكلات اليومية، واهتمامه بالأناس البسطاء. كما نجد في قصص محمود تيمور الأولى تأثرًا كبيرًا بموباسان. كان كذلك على صلة بالمحاولات التي سبقته في الأدب المصري الحديث، وكان متأثرًا أيضًا بما كتبه المنفلوطي. يقول محمود تيمور: “لم تلبث ظلال هذه النزعة المحافظة أن انحسرت على أثر تتابع البعثات إلى ممالك أوروبا، وازدياد أسباب الاتصال بيننا وبين العالم المتحضِّر. وأخذنا نسمع نغمة تدعو إلى التجديد في اللغة والأدب العربي.”

الاهتمام بالأديب على مستوى عالٍ من المؤسسات الرسمية ومنهج استشرافي يكفل بلوغ أهداف تنمية ثقافية حاضنة لمشاريع كبرى، يمكن أن يبلغ بها المبدع أقصى مدى ممكن، كجائزة نوبل للآداب أو خلق جوائز مماثلة، أو إظهار المواهب من خلال تسخير الظروف التي تنعش هؤلاء المبدعين وتبعث فيهم روح المساهمة والإبداع كغيرهم من المجالات الأخرى.

يعاني الأدب العربي من انخفاض معدلات القراءة في العالم العربي، وهذا يؤثر على الإنتاج الأدبي ويقلل من قيمة الكتابة والكتاب. الضعف في دعم الثقافة والفنون لا يتم توفير الدعم الكافي للثقافة والفنون في العالم العربي، خاصة في توحيد رؤية عربية في الإشكاليات الأكاديمية التي تواجه موضوعنا.

المسافِر راح

ياضِيّاع أصواتِنا في المَدى والرّيح..
لكنّه الشّوق، أحيانا نُنادِي ونُلوّح رُغم اللّاجَدوى، تُعشّشُ إلى الآن في ذاكِرتِي طرِيقَنَا الطّويل وسيّارَة المرسِدس التي تُجابِه رِيح الأجواء وصَمت الظّهيرة، تمضِي سَريعة سُرعة لا تسمح لي بالتقاطِ كلّ الصور التي أراها وأنا أُسنِد رأسي للنّافِذة، وحدَها المُوسيقى تمشِي الهوينا، وحدَها كلمات راشِد الماجِد وهو يطلُب المُستحيل تَعلَقُ بالذّاكرة: لا تلوح للمسافر!
أحبّ المرسدس190 إلى الآن، وأحبّ أبو بكر سالم وَالْمُسَافَر، لَم أنسَ الأسفَار كنتُ أحبّها في صميمِ الصّيف، وفي ظلّ الشّتاء، يَمزحُ أخِي يُقلّد لهجة الماجِد الخليجية الگيتار فاتنا! يقصِد أخي القيثارة ويقصِد راشد الماجد القِطار، أمّا أنا لا أخشَى شيئا أن يفوتني، ظِلال عمَامة سوداء تُطوّقُ مخاوِفي، يصمُت أبِي لا يتحدث كثيرا في الطّريق، أورَثنِي تِلك الصّفة، السّفرُ للتأمّل !كيفَ لِمن ينام أو يثرثر كثيرا أن يُدرِك لُغة الطّرقات، الذين يصمتون تهبهم الأرض فُرصة لمسِ السّراب!…يُصمّمُ راشِد على طلباته المُستحيلة :لاتنادِي للمسافِر!
ويستمّر سفرنا الطّويل، تتصاعدُ أحيانا طقطقة حبّات السُّبحة، لا يكفّ عن الذّكر، أعرِف أنّه لَم ينَم، نصِل المدينة الأخرى أحيانا مع حلول الظّلام، يكون أبو بكر سالِم حينها مُستعدّا لبِداية غناء ما يهزك ريح يا مركب هوانا، في ما يتناسب وجوّ المدينة الأخرى من نَسمَات بارِدة ومراكِب البَحر وتلويحات صيّادٍ ما…
لا أسمَحُ للكلمات أن تخرُج من ذِهني، وإن غادَرت ألحانها مُسجّلَ السّيارة، أثبِت عيناي جيّدا في زجاج السّيارة البارِد، وأتخّيلُ سفَر العُيون، لمّا كانت لِي عُيُون …!أتأمّل وأتخيّل حتّى تنام أنوار الشّوارع…

سَافَرَت كلَ الأشياء على حِينِ غَفلَة منّا، توالى المُسافِرون تِباعا، أبِي والمرسدس وكاتِب الأغنية بَدر، الأغنية ذاتها ارتدت جناحا وطَارت…استطَعتُ أن أدرِك معنى رَحيل العُيون، لمّا كانت لي عُيون…لم أعُد أتأمّل الطّرقات، وأغنيات الطّريق مهما علا صوتُها تظلّ خافِتة في أذنِي بِلا صوت، صامِتة كلّ الأشياء، لا تلوح للمسافِر، لاتنادِي للمسافِر، كانت صادِقة…كانت الكلمات حينها أعمَقَ منّي، كنتُ أخاله القِطار أو مزحة أخي الگيتار! كُنت صغيرة تتسلّقُ خُيوطَ الزّمَن لكي تَهِيم في المَعانِي، ومَضى القِطار الذي حين مَضَى خطَف معَهُ الأمَان، وأفِلت بعد رحِيله النّجوم وتبخّرت الأطياف، قال راشِد وانطَفَا ضيّ الحُرُوف، أهرُب مِن كلِماتِه لِكي لايُدرِكني ظلامُ الشّوارِع، أنا لا قنادِيل عندي أهتدِي بِها لكي أستحضِر طيفَه سِوى الحُروف، أنا التي خبّأتُ أبِي في ورقة …

تحيةٌ فلسطينيةٌ من الأعماق إلى جبهاتِ المقاومة والإسناد

لم يقف معنا سواهم، ولم يقاتل إلى جانبنا غيرهم، ولم يؤيدنا في حقنا ويساندنا في مقاومتنا إلا هم، ولم يتحمل معنا تبعات المقاومة ونتائج القتال بحقٍ أحدٌ مثلهم، وكانوا أسبق الناس إلى نصرتنا، وأسرعهم إلى مساعدتنا، وألهفهم علينا، وأصدقهم في تحالفهم معنا، وأنبلهم في وقوفهم إلى جانبنا، في وقتٍ انحطت فيه القيم، وانتكست الأخلاق، وغابت الفضائل وتراجعت الشمائل، وعزَّ فيه النصير وقلَّ الصديق، ونذر الوفاء وانعدم الرجاء، وتخلى عن نصرة الحق الأخُ والشقيق، وتحالف مع العدو القريبُ والبعيد.

إنهم فئةٌ من الأمة قليلة، وثلة منها مباركة، وجماعاتٌ مختارةٌ، آمنت بربها وصدقت وعدها، ووفت بعهدها، والتزمت كلمتها، وكانوا أهل شهامةٍ ونبلٍ، وأصحاب مروءةٍ وشرفٍ، إذ انبروا منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة إلى حمل السلاح وفتح الجبهات، وبادروا العدو بالقتال، وقاوموه بالفعل، وأعلنوا أنهم جبهاتٌ مساندة، وقوى رديفة، تقاتل إلى جانب الفلسطينيين ومعهم، وتساندهم في حقهم وتدعمهم، فأوجعوا العدو وشغلوه، وناوشوه وقاتلوه، ومن قريبٍ وبعيدٍ قصفوه، وبالمزيد هددوه، وبالشواهد أرهبوه، وبالكثير من الأهداف قيدوه، وبالقرار الحاسم خيروه، فإمَّا وقفاً للعدوان على غزة، أو يتحمل وحده تبعات الحرب ونتائج القتال وفتح المزيد من الجبهات.

إنه لبنان ومقاومته الإسلامية، وجبهة جنوبه الجامعة، التي اتسع قوسها للرماة الصادقين من كل الجهات، وتزينت سماؤها بالصواريخ من كل الجماعات، فكانوا إلى جانب حزب الله الذي لم يتأخر في موقفه، ولم يستشر في سياسته، ولم يتردد في قراره، ولم ينتظر رأياً لأداء واجبه، إذ أعلن منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أنها معركة الأمة التي تستوجب النفير العام والنصرة الممكنة، وهي حربٌ بين الحق والباطل، وأن العدو يجب أن ينكسر فيها، وأن المقاومة يجب أن تنتصر في غزة وفي كل مكان، ووعد صادقاً أنها ستبقى صامدةً ولن تهزم، ولن ينال منها العدو وعليها لن ينتصر، وما زال على أرض المعركة ثابتاً يقاتل، لم يتعب رغم طول الحرب، ولم ييأس رغم عظم تضحياته، ولم يتراجع عن موقفه الأول، أنه مع غزة حتى تضع الحرب أوزارها، وينهي العدو عدوانه عليها وينسحب منها.

ربما تكون الجبهة اللبنانية هي أكثر الجبهات سخونةً، وأكثرها عطاءً، وأعظمها تضحيةً، وأخطرها على العدو، وأشدها على حلفائه، وأصدقها موقفاً وأثبتها سياسةً، وأصبرها على القتال، وأقدرها على مواصلة الإسناد، وقد طالها الكثير مما طال أهل قطاع غزة، تدميراً وخراباً وقتلاً ونزوحاً، وقدم حزب الله خلالها العشرات من خيرة رجاله، وأفضل قادته، ونخبة مقاتليه، وأكثرهم تميزاً في الميدان واختصاصاً في الحرب والقتال، ورغم ذلك فهو يعض على الجراح، ويصبر على التضحيات، ويصر على مواصلة القتال، حتى يرى قطاع غزة حراً عزيزاً، محرراً مطهراً لا وجود فيه لجنود العدو، ولا قدرة له على تهديده أو قتاله. 

وعلى ذات الدرب كان اليمن السعيد، الشقيق المخلص البعيد، الذي ننتمي إليه نسباً ونتشرف به أصلاً، الذي رغم الجوع والحرمان، والعدوان والحصار، وشظف العيش وَمُرَّ الحياة، فقد أَصَرَّ أن يكون له في هذه المعركة سهمٌ يباهي به ويتفاخر، ويلاقي به ربه عز وجل ويتواضع، وينافس به إخوانه ويتسابق، وأبى رغم جراحه وكثرة همومه إلا أن ينصر فلسطين وأهلها، وأن يساند المقاومة ورجالها، وأن يكون إلى جانب غزة وأبنائها، ولم يبالِ بما قد يصيبه أو يلحق به، فقد وَطَّنَ نفسه على تلقي الضربات، وتحمل الأعباء، ومواجهة الأعداء، وصبر على عدوان بريطانيا والأمريكان، واحتسب عند الله عز وجل نتائج الغارات وتبعات العدوان.

وغير بعيدٍ من فلسطين انتظمت المقاومة العراقية وتعاهدت، وتظافرت جهودها واتسقت، وأصرت أن تعيد مجد العراقيين وأن ترهب الإسرائيليين، الذين لم ينسوا بأس العراق، ولم تشف جراحهم من جبهات قتاله في فلسطين ضدهم، ولم يستطع الزمن أن يمحو آثارهم، فتنافست مجموعاته وتسابقت كتائبه، كلها تريد شرف المشاركة وفضل السبق، فأطلقت صواريخها وسيرت مسيراتها، وأعدت المزيد ليوم كريهةٍ آخر، يوجع العدو ويؤلمه، ويترصده ويصدعه، ولعلها لا تخش ردة فعله ولا انتقام حلفائه، ولا تبالي بغضبة أمريكا ولا ردة فعل أتباعها، التي لا يروق لها فعل أهلها ولا غيرة رجالها.

ظن العدو وحلفاؤه أن محور المقاومة وهمٌ، وأن وحدة الساحات خيالٌ، وأن جبهات الإسناد سرابٌ، وأن أحداً لن ينصر الفلسطينيين أو يقف معهم، أو يقوى على مساندتهم ويستطيع مساعدتهم، وأنه سيتمكن منهم وسيستفرد بهم، وسيحقق ما يريد، وسينال منهم ما يتمنى، ظناً منه أن الفلسطينيين باتوا وحدهم، لا ناصر لهم ولا سند، ولا معين لهم ولا شريك معهم، وأنهم أضحوا ضعفاء لا حول لهم ولا قوة ، وعاجزين فلا قدرة لديهم ولا حضن قريب عندهم.

لكنهم فوجئوا بأن وحدة الساحات حقيقة، وأن جبهات الإسناد صادقة، وأن قوى المقاومة حاضرة، وأن بأسها شديدٌ، وفعلها مؤثر، وقدرتها على الثبات والمواصلة، والاستمرار والتطوير كبيرة.

خالص التحية والتقدير باسم المقاومة في فلسطين، وأهلنا في غزة وعموم الفلسطينيين، إلى قوى المقاومة التي ساندتنا وأيدتنا، ووقفت معنا وساعدتنا، ولم تتركنا وحدنا ولم تتخل عنا، وأعادت بمواقفها عملاً لا قولاً، للإسلام إخوته، وللعروبة تضامنها، وللجيرة نخوتها، وللحلفاء صدقهم، وللمقاومة جديتها ومصداقيتها، وإخلاصها وولائها، حماها الله وأيدها، وحفظها ورعاها، ووسع قوسها وفتح إطارها، وجعلها جنداً للتحرير، وذخراً للأمة. 

الابتزاز العاطفي

“لو كنت تحبني لفعلت كذا وكذا من أجلي” هي عبارة رخيصة يستخدمها أصحاب النفوس المريضة من أجل الحصول على كل شيء وعدم خسارة أي شيء. يرجع ذلك إلى الطفولة نظراً لأن أحد الوالدين يستخدم عبارات مثل “افعل ذلك من أجل أن أحبك”، “لو فعلت كذا سوف أحبك”، “لو فعلت كذا ستسعد أباك”، “لو فعلت كذا ستفرح والدتك”. جميعها عبارات ابتزاز عاطفي يستخدمها الوالدان لكي ينفذ الطفل ما يأمرانه به، دون أن يعلمان عواقب تلك العبارات عليه حينما يكبر في علاقاته الشخصية في تكوينها ومفهومها. نتاج ذلك، تترسخ تلك العبارات في دماغ الطفل ويشب على هذه العقلية.

وإليكم بعض أنماط الابتزاز العاطفي:

النمط الأول:

البعض يترجم العاطفة والمحبة حسب هواه؛ على سبيل المثال: “أليس أنكِ تحبينني؟ إذن تنازلي قليلاً عن طموحكِ، أليس أنكِ تحبينني؟ ابتعدي عن كل أهلكِ وأحبائكِ وابقِ معي، أليس أنكِ تحبينني؟ اتركي كل ما تحبينه من أجلي.”

– “لكنني لا أستطيع فعل ذلك.”

– “إذن أنتِ لا تحبينني، لأن لو كان في قلبك ذرة حب، لكنتِ فعلتِ ما أحب.”

– “حسناً، سأبتعد.”

– “أرأيتِ؟ أنتِ لا تحبينني، لو كنتِ تحبينني، لكنتِ تحملتِ كل شيء من أجلي، لو كنتِ تحبينني، لكنتِ تحملتِ عصبيتي وتنازلتِ عن طموحكِ وابتعدتِ عن كل أحبائكِ وجعلتني محور حياتكِ وتخلّيتِ عن راحتكِ من أجلي. لكنكِ لا تحبينني؛ غالباً أنا اخترت خطأً، لأن من يحب يتنازل ويسامح بلا حدود ويتحمل، لكنني أرى أنكِ لا تمتلكين أي شيء يدل على أنكِ تحبينني.”

النمط الثاني:

تعالي نذهب إلى المكان الفلاني أنا أحبه، تعالي نسافر إلى المنطقة الفلانية أصلي أحبها، ارتدي هذا الأسلوب لأني أحبه، وهكذا كثيرًا… من أنماط الابتزاز العاطفي. من خلال تلك البوابة تجد نفسك تفعل كل ما يحبه ويريده الطرف الآخر، ولا يفعل هو أي شيء من أجلك، وتفقد أنت هوايتك وتصبح نسخة مما يريده هو. إذا كنتِ/كنتَ تقابل هذا النمط في حياتك، فللأسف أنت تستغل باسم الحب.

سؤال:

لماذا لا تعكس الأمر عليه؟ إذا كنتَ تحبني، لماذا لا تتنازل عن شيء أو آخر لأجلي ولأنك تحبني؟! لماذا يجب عليَّ أنا التنازل دائمًا وأنت لا تتنازل عن أي شيء؟! لماذا يجب أن أكون أنا الشخص المضحي والمتهاون في حقوقه من أجل الحب؟! لماذا لم تفعل أنت شيئًا من أجلي؟ الحب أسمى من كل تلك الادعاءات. الحب هو أن أحترم مساحتك الشخصية، أن أتفهم طموحاتك وتطلعاتك. الحب هو أن أفهمك وتفهمني، أن أتنازل من أجلك وتتنازل من أجلي؛ كما يقولون: كل مفعول مردود، فما تحب أن أفعله معك افعله معي كي يعود لك. العطاء متبادل، لا يوجد ما يسمى بالتنازل والتضحية في قانون الحب. إذا كنتَ تهواني، اقبلني كما أنا حتى وإن كان غير متناسب معك. لم يكن هذا أبدًا هو الحب؛ قبل أن تفصحوا عن مشاعركم لمن تحبون، تعلموا في البداية كيف يكون الحب. الحب يقوي، لا يضعف، الحب يقدم، لا يؤخر. اجعل قلبك وعقلك في الحب كالصنارة؛ القلب كالخطاف العالق في الخيط، والعقل هو العصا التي تتحكم فيها. كلما اجتر قلبك وراء الوهم، أنجاه العقل بسرعة الرد حتى لا تُستنزف عاطفيًا.