المقامة الاستقلالية

حدّثنا أبو الزمان، عن أخبار هذا الأوان، فقال:
لما أطلَّ فجرُ الخامس عشر من أغسطس، وأتمّت الهند تسعًا وسبعين عامًا في العزّ والقدس، خرج الناسُ في الساحات، يرفعون الرايات، ويستعيدون ذكريات الأجداد والجدات، يومَ طُرد المستعمر، وتقطّعت حباله، وتبدّدت آماله.
وما كاد الفرح يُكمل دورتَه في القلوب، حتى طرق الأسماعَ صوتٌ جهوريٌّ يجلجل في المحافل والشعوب، صوتُ راهول غاندي، عنيدِ الموقفِ في وجهِ الاستبدادِ، يقول: “يا قوم، إن بعضَ الأحزاب – وأعني حزب البي جي بي – قد مدَّ يدَه إلى صناديقكم، فسَرَق منها ما شاء، ومد ساعده إلى مقابركم، فأحيى منها من شاء، فجعل القبر بابا إلى البرلمان، وحُوّلَ التزويرُ سلّما إلى السلطان”، ثم أردف مُحكِما، ولقائمة الناخبين متهكّما: “غرفة صغيرة تعيش فيها الآلاف، ناخبون لهم آباء مسمَّون بمجرد الحروف، بيوت ليس لها أرقام إلا صفرا، أشخاص لا تجدونهم إلا قبرا”.
وهنا أنشد شعراء من الحاضرين، وبالمفوضية معرّضين:
أتتْه بعد طلبٍ منه رَقمـا
بورَقٍ مثل جبل الهند طولا
تخافُ الحق ناصرةً لسوءٍ
فهُم سرّاق صوتٍ لا محالة
فاهتزّ المجلس حرارة، وضحك البعض مرارةً، وتساءلوا: قديما حصلنا الاستقلال من سُرّاق الأموال. حديثا، الوطنُ في أيدي سراق الأصوات! وكيف يُعانق الوطنُ الحريةَ بيمين، ويُسلِّمها إلى بائع الضمير بشمال كمين؟
فقام شيخٌ وقور، بِقولٍ لن يبور، قد غزا الشيبُ لحيتَه، ولم يضعِّف جبهته:
“يا أبناء الهند، ويا من له جند! الاستقلالُ ليس تاريخًا يُحفظ، بل عهدٌ يقبض. وما نفع استقلال إذا كانت القائمة تُملأ بالأوهام، وتُخطّ فيها أسماءُ الأموات والأحياء بالوئام؟ وأما مفوضية الانتخابات، فهي كالحارس الذي يغض الطرف عن اللص في الظلمات، أو كالنائم وسط حرائق البيوت”.
فعلمتُ أن الحريةَ بلا عدل، كالسفينة بلا شراع، وأن الوطنَ بلا أمانة، كالجسد بلا أرواح. فالسارقُ قد يتسربلُ سِربالَ الخدمة، ويتقنّعُ بقناعِ الذِّمّة، والمستعمرُ قد يجيءُ من ذاتِ البلدة، ويطرقُ البابَ باسمِ المودّة، فلا بدّ للعاقل من بصيرةٍ نافذة، ويقظةٍ راصدة، حتى لا يكون الاستقلال ذكرى تذكر في الكتب، ووقودا يلهب في الحَطَب.
قُم تقدَّمْ قولَ حقٍّ قائلا
مُستقِلَّا تَلْقَ وطنًا قابِلا