مقامة النجاح

حدثنا سنان بن رشيد: جاءني رجل مهموم، قد أنهكته الغموم، فهو من الحزن مكظوم، فقال: أيها الناس، حل بنا البأس، وذهب منا السرور والإيناس، وتفرد بنا الشيطان، فأسقانا حميم الأحزان، فهل منكم رجل رشيد، رأيه سديد، يصرف عنا هذا العذاب الشديد؟
فقام شيخ منا، ينوب عنا، وهو أكبرنا سنا، فقال: أيها الرجل الغريب، شأنك عجيب، تشكو الهم والوصب، والغم والنصب، وأراك لم يبق منك إلا العصب، أما تدعو الرحمن؟ أما تقرأ القرآن؟ فإنه يُذْهِبُ الأحزان، ويطرد الوحشة عن الإنسان، ثم اعلم وافهم لتسعد وتسلم، إن من أعظم الأمور، في جلب السرور، الرضا بالمقدور، واجتناب المحذور، فلا تأسف على ما فات، فقد مات، ولو أنه كنوز من الذهب والجنيهات، واترك المستقبل حتى يقبل، ولا تحمل همه وتنقل، ولا تهتم بكلام الحساد، فلا يحسد إلا من ساد، وحظي بالإسعاد، وعليك بالأذكار، فيها تحفظ الأعمار، وتدفع الأشرار، وهي أنس الأبرار، وبهجة الأخيار، وعليك بالقناعة، فإنها أربح بضاعة، واملأ قلبك بالصدق، واشغل نفسك بالحق، وإلا شغلتك بالباطل، وأصبحت كالعاطل، وفكر في نعم الله عليك، وكيف ساقها إليك، من صحة في بدن، وأمن في وطن، وراحة في سكن، ومواهب وفطن، مع ما صرف من المحن، وسلم من الفتن، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك، هل تريد كنوز الدنيا في عينيك؟ أو أموال قارون في يديك؟ أو قصور الزهراء في رجليك؟ أو حدائق دمشق في أذنيك؟ وهل تشتري ملك كسرى بأنفك ولسانك وفيك مع نعمة الإسلام؟ ومعرفتك للحلال والحرام؟ وطاعتك للملك العلام؟ ثم أعطاك مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ومهد لك تمهيداً، وقد كنت وحيداً فريداً. واذكر نعمة الغذاء والماء والهواء، والدواء والكساء، والضياء والهناء مع صرف البلاء ودفع الشقاء، ثم افرح بما جرى عليك من أقدار، فأنت لا تعرف ما فيها من الأسرار، فقابل النعمة بالشكر، وقابل البلية بالصبر، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، واغفر لكل من قصر في حقك وأساء، واغسل قلبك سبعاً من الأضغان، وعفّره الثامنة بالغفران، وانهمك في العمل، فإنه يطرد الملل، واحمد ربك على العافية، والعيشة الكافية، والساعة الصافية، فكم في الأرض من وحيد وشريد، وطريد وفقيد، وكم في الأرض من رجل غلب، ومال سلب، وملكه نهب، وكم من مسجون، ومغبون ومديون، ومفتون ومجنون، وكم من سقيم، وعقيم ويتيم، ومن يلازمه الغريم، والمرض الأليم .
واعلم أن الحياة غرفة بمفتاح، تصفقها الرياح، لا صخب فيها ولا صياح. واعلم أن الدنيا خداعة، لا تساوي هم ساعة، فاجعلها طاعة.
