مقابلة افتراضية مع الدكتورة ميادة أنور الصعيدي (كاتبة وناقدة من غزة، فلسطين)

كيف عاش الكاتب الغزيّ يوميّاته في الحرب؟ وكيف أثّر ذلك على طريقة كتاباته وتعبيراته؟

الكاتب الغزّيّ ليست كأي إنسانٍ عاديّ؛ هو خليط من مشاعر مرهفة، وإنسانيّة عاليّة وفكرٍ وطنيّ؛ يحاول بهذا الخليط أن يسطّر حروفه على صفحاتٍ مخضّبة من دماء الشهداء، وتضحيّات أبناء هذه المدينة العظيمة.

ثمَة مشاعر من فرط جنونها لا تتّسع لها الصفحات، وثمّة حكايا تَروي قصص الطالعين من الوجع، إنّه النزوح والدمار والقتل والإجرام.. رحلة المخاض الطويل مع الألم، والحرمان الذي يمتص ملامحنا، والجروح التي لم تندمل، والأجساد التي أعطبتهم الحرب، والأرواح التي تئن تغالب نشيجًا بقى ينوء بدواخلنا، والأيتام الذين يقاومون بأطراف قلوبهم الغضّة.

تعدّ الكتابة عن محنة الوطن تجربة مميّزة سواء من حيث الأفكار والموضوعات أو من حيث الشكل واللغة التي تعبر عن واقع المدينة، إنّها تجربةٌ حافلةٌ بالذكريات ومرتبطة بالأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، وتنقل تفاصيل الحياة بمراراتها من حرمان وفقر وفقد وعنف.

كيف أثّر القصف والدمار ومن ثمّ النزوح على قدرتكِ ككاتبة في الحرب؟ 

 إن وضع النزوح الراهن قد أجّج في عقولنا صورًا لكلّ محطّة من محطّات تاريخ فلسطين ولكرامتها المرسلة ولبطولاتها المتوارثة والصور والتضحية والصمود والكبرياء التي تقفز قبالة واقع تواطأ فيه الجميع على الصمت، واقع استبد به الظلام والظّلّام والجلّاد بالأمّة.

لتكن غزّة بصمودها وتضحيّاتها شمسًا قبالة عتمة الضمائر ولجم الأفواه وتدجين العقول وقبالة مخالب العدو وترسانته.

إن ذاكرة الكاتب وعاطفته هي سبب محنته وتأزّمه، إذ لا يمكن أن يكون إنسانًا عاديًا يعبّر عمّا يراه ويفكّر به تعبيرًا يخلو من العمق والتّأثير.  إنّ الكاتب الحقيقي هو صاحب الدور الرياديّ الذي يجعل منه مدافعًا عن قضية الإنسان يشعر بمحنة الغير وبوطأتها ويجد متنفسه الوحيد في الكتابة التي تجسّد رغبته في حريّة التعبير عمّا يريد قوله.

ما الذي أثّر على لغتكِ حول مدينتكِ وما يحدث بها؟ وكيف جاءت تعبيراتكِ على إثر ذلك؟

ما عاد أمرٌ بهذا العالم يعنيني؛ سوى الكرامة أحياها وتحييني. نحن لسان أرضنا ودرعها الحصين وعينها القويّة على الأحداث، والعقول العنيدة في وجه الظلّام، والأقلام الكاشفة لمآلات الأمور والمتطلّعة لغدٍ مشرق مأمول. 

إنني ككاتبة وناقدة أحاول عبثًا أن أعبّر عن مدينتي الصامدة، أو أن أحلّل مشاعر الثكلى والأيتام، أو أن أصوّر جسارة أهلها المرابطين الطاهرين الذين يرفضون المساومة. إذ لا يمكن لأي لغة أو أي فنّيّ أدبيّ أن يصوّر ما حدث أو أن يعبّر عن آيات التضحية والصّمود والعزّ والصبر العظيم؛ ذلك لأن غزّة هي اللغة الأصيلة وكلّ لفظة خارج أبجديتها لا حاجة لنا بها. سنظل طيلة عمرنا نغني عنها وفيها أغنية الخلود فهي الفردوس المفقود الذي سننشده ونعلّمه لأبنائنا ونتمسّك به… فنحن – المعذّبين – أبناء هذه البلاد الثكلى الذين نقتات من دمنا ونعتصر الجذور. يقول الشاعر الغزّيّ معين بسيسو:

هذي هي الحسناء غزّة في مآتمها تدور

ما بين جوعي في الخيام وبين عطشى في القبور

ومعذّبٌ يقتات من دمه ويعتصرُ الجذور

صورٌ من الإذلال فاغضب أيّها الشّعب الأسير

فسياطهم كَتبت مصائرنا على تلك الظهور

لذلك سنظل كالصّبّار شوكًا في كلّ الفصول نبحثُ عن وطنٍ حرٍّ عزيزٍ أبيٍّ. 

ماذا تعني غزّة بالنسبة لأدباء فلسطين؟

يقول الأديب الفلسطينيّ. وائل محيي الدين: غزّة أنشودة البحرِ هديّة السماء قصائد الثّائرين والعاشقين، غزّة البطولة المتواترة والكرامات المرسلة يتعب القهر في جنباتها ولا تتعب. ويمتصّ الحرمان كلّ ملامحها ولا تعطي الدنيّة لعتلٍ زنيم.

لذلك فإنّ غزّة مع كلّ محطات تاريخها المبارك كانت عنوانًا صادقًا للطّهر والعزّة والكبرياء.

كلّ وقتٍ كنّا نُشرّع وجوهنا للسماء فلا نملّ المناجاة والابتهال، وفي السَحَر نأوي إليه وحده فيتجلّى الطهر والنقاء، وننفّض ما علق بأرواحنا من سوادٍ وأوجاع. ولعلّك حينما تسأل أيّ غزّيّ عن حاله وحال البلاد تراه يردّد الحمد ويرتل آيات الصبر على الابتلاء؛ ذلك لأنّ مدينته هي  غزّة الأم المكابرة الثكلى التي تقبض على جرحها الدامي بصلابةٍ لا مثيل لها وصبرٍ قلّ نظيره..

لهذا كلّه فإنّ غزّة استندت على نفسها دائمًا وكأنها أكثر الأشياء ثباتًا بهذا الكون، بل هي التي تمنح المنطقة برمّتها عزّة ونخوة..

يقول جلال الدين الرومي: 

“ماضرّك لو أطفأ هذا العالم أضواءه كلّها في وجهك، ما دام النّور في فلبك متوهّجًا”.

هل يمكن أن تصفي شعور أو موقف أثّر عليكِ شخصيّا؟ وكيف يتعامل الكاتب الغزيّ مع المواقف الصعبة؟

كلّ هذه الأيام الثقيلة التي رافقتني في هذه المدينة المظلومة كادت تطبق على روحي كما تطبق الصخور على رأس حالم بالحياة.. أذكر حينما وردني خبر استشهاد أخي الأعزّ على قلبي لم أبك البتّة لكنّي شعرت بالبرد يقصّ أطرافي، ويكسر ظهري. فارتجفت أوصالي وجعًا وحسرةً. حينها تركتُ البيت وخرجتُ هائمةً على وجهي أتخبّط بالنّازحين هنا وهناك؛ أبحث عن إجابات لتساؤلات أضمرتها لحين الوصول. 

حينها راح انتباهي ناحية ثلاثة أطفال بدا لي أنّهم إخوة، فالشَّعر منكوشٌ مائلٌ للإصفرار من أثر حرارة الشمس في خيام النازحين، وملابسهم ممزّقة وأقدامهم حافية وأصابعهم مدملة.. أجسادٌ بريئة نهشها عيش النزوح. لقد رأيتهم يتنازعون على رغيف خبزٍ وراح كل منهم يقضمه ويقطعه من طرف.. حينها جثوت على ركبتي بالشّارع بكيت.. بكيت بكاء مرًّا. 

أحيانًا يظن من حولك أنّ اضطّرابك فرحًا ولو تأمّلوه لأدركوا فيك نبضًا كلّه وجع.. رأيت أمًّا مكلومة تتفرّس بوجه طفلٍ نائم في أحد أسرّة المشفى تحضنه وتتأمله وتلوذ بصمتٍ وراءه صخب واضح ثم تضحك ضحكات متتالية. فهمت بعد السؤال أنّها أمٌ فقدت طفلها الوحيد الذي منحها الله إيّاه بعد عشرين سنةٍ من زواجها، وهي تأتي كل يومٍ لهذا الطفل بالذّات لأنه يشبه طفلها شكًلا وعمرًا.

كيف تصفين العلاقة بين الألم الشخصيّ والإبداع؟ 

في داخل كلّ كاتب تجد طفلًا يضحك ويئن ويبكي. يريد أحيانًا أن يدسّ رأسه في صدر أمّه ويسترسل بالبكاء، ويطلق زفرات الفقد وشهقات الأسى.

الإبداع منارةٌ ذات سلم طويل لا يتسلّقه سوى من توجّع عن حقّ وتألم كالآخرين وعاش معاناتهم؛ فالآلام ضباع لا يطردها غير جسارة الضوء وضوء الجسارة؛ ففي وسط العتمات نتحسس النجوم.

ماذا تعني الكتابة للكاتب الغزيّ؟ وماهي الفكرة الرئيسة التي ينطلق منها الكاتب في خضم حرب طاحنة وشهور قاسية؟

إنّنا  ننتمي إلى شعبٍ مارد؛ فلا نبكِ بتلك السهولة التي يبكي بها أيّ إنسان يرى في البكاء وسيلةً للتخلص من ثقل الأسى والخذلان، إنّنا نحاول الغوص بمخيلاتنا كي نعثر على تفسيرٍ واحدٍ لهذه الشهور القاسية حدّ الهستيريا.. 

ذكريات ونزوح وحرب وحب وأنين وشوق وضجر ورضا كلها مشاعر متباينة قد توقد بصدورنا رغبةً تشبه البكاء المختلط بالغناء.

إنّنا ككتّاب نتّخذ الكتابة كمظلّة أمانٍ تحمينا من أمطار اليأس والاستسلام؛ إذ نغالب نشيجًا ينوء بدواخلنا منذ اندلاع الحرب واشعال فتيلها.. فالفكر والقلم سلاحان؛ وما اغتيال ريشة ناجي العلي وتصفية غسان كنفاني إلّا دليلًا على أن وقع القلم والريشة أوجع وأحدّ وأقسى من وقع السّلاح.

ومن خلال  الأعمال الأدبيّة التي أتابعها وقرأتها وحلّلت بعضًا منها خلال هذه الفترة العصيبة  لفت انتباهي أنّ الوضع الراهن قد أجّج بداخل عقولنا صورًا كانت نائمةً في الغياب وفي حضن الأمنيات؛ إذ يمكنك قراءة هذه الأعمال والخروج بأفكارٍ عامّة ممكن إدراجها تحت عنوانات نقديّة مثمرة مثل: 

رحلة المخاض الطويل مع الألم

رفض لسلطة الحضور

تنقية للذاكرة وأنسنة التاريخ

رواية الطالعين من الوجع

شخصيّاتٌ مثقّلةٌ بالخيبات

الأماكن بريئة الغربة بأنفسنا

التواطؤ على الصّمت والخذلان 

احتفاءً بالأسى في ظلّ التّسلّط

اشتغالٌ مكثّفٌ للّغة واحتفاءٌ بقلق السّؤال

حضور التّسلّط وغياب العدل

وخز الواقع ولذّة الحلم

تجلّيات الغربة والحنين

المنتصر المهزوم أمسيا في إنسانٍ واحد وهو الغزيّ.

ما هو دوركِ كناقدة وأنتِ تتابعين المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ خاصّة والعربي عامّة؟ وما هي الرسالة التي توجهينها للأدباء؟ 

إنّنا أمام واقع يضرب القلب..  فالتّحدّي يشتدّ في وجه أولئك الذين يحاولون تصوير عالمنا الذي نعيشه، ويحاولون تفسير وقائعه، أولئك الذين يشعرون بأنّ لديهم ما يقولونه لنا، ويودّون لو يدخلون شيئًا من النّور إلى حياتنا.. 

الأدباء والأديبات.. الفنّانون والفنّانات..

ثقوا تمامًا أنّكم لم تواجهوا تحدّيًا كالذي تواجهونه اليوم؛ إنّه تحدّي مرهونٌ بإحساسكم بمنظور الحياة وبالانسانيّة.. ومرتبطٌ بقلقٍ خفيّ على صنعتكم والهدف الذي بُنيت عليه..

ففي اعتقادي أنّ هذه الفترة بالذات ضروريّةٌ لديمومة تدفّق الحيويّة في الفنون كلّها وفي الأدب العربيّ على وجه الخصوص؛ فتتّسع الأساليب وتتجدّد النظرات؛ ففي الانحلال فتنةٌ للرائي.

هذه الفوضى العارمة التي نحياها اليوم هي وقود المستقبل القريب لكم، وهي التي ستشغل وعيكم ولا وعيكم، وهي التي ستخلق الجوّ الذي يتوجّب فيه أن تفكّروا وتتخيّلوا وتبدعوا بأدواتكم إبداعًا أكثر تطوّرًا، وأشدّ فاعليّةً، وأغنى إحساسًا وديناميّة؛ بحيث يستثير المشاركة والتحليل.

كونوا على يقين أنّ إثراء التجارب قد يتمّ في حضارةٍ منهارةٍ أو عالمٍ يحتضر؛ فقد تكون ألوان الخريف أشد لألاء من ألوان الربيع.

ما تأثير الحرب على الهوية الثقافيّة الفلسطينيّة؟

أيّ مأساة من المفترض أن تعزّز الانتماء، وفي نظري أن الوضع الراهن قد عزّز هويتنا بشكلٍ أو بآخر. وخير دليلٍ على ذلك التّحرّكات الثقافية لوزارة الثقافة في بلادنا والبلاد الأخرى في تعزيز صمود الأدباء ودعمهم وطباعة يوميّاتهم وقصصهم في الحرب. بالإضافة إلى دور اتّحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين في غزّة والضّفّة والتّعاون المشترك مع الوزارات العربية والاتّحادات الداعمة للثقافة. 

ويمكن الاستدلال على عمق هديتنا ومحاولات الاحتلال العبثية لطمسها هو ما نراه من تحرّكات عالميّة داعمة للقضيّة والحديث هنا ليس على مستوى أفراد ذي مراكز عالية فحسب بل على مؤسسات لها مقام موزون.

ما رسالتك التي تسعين لتوصيلها من خلال كتابتك؟

مضت علينا أعوامٌ مترعةٌ بالتناقضات، والناجح مَنْ يستطيع الصمود ومواجهة كلّ تلك الأزمات الملفّحةِ بالسواد، وأن يمضي قُدمًا بما لديه من أملٍ نحو وميض السماء، وهو على يقينٍ من قدرة الله في تحويل خريف العمر إلى ربيع مزهر.