تأملات

في الطُرقِ الخاليّةِ، ثَمّةَ رياحٌ عاتيّة، تُشيح بوجهها عن كلِّ ما هو في مأمن، لترمي أشياءَ قُدِّر لها بالفعل أن ترحل. عندئذٍ تتساقطُ أوراقُ الشجر، ويعزِفُ القمرُ سيمفونيةَ أحزانِه لتؤازِرَهُ النجومُ عن كثب. أمّا الأديبُ فهو غارقٌ في تأملاتِه ومضمراتِ وجدانِه، لا يَدري كيف يُدوّنها، وكيفَ يجدُ صُدفةً تُخرجها إلى حيثُ الكون. أَيجوب الأزقّةَ بحثًا عن الكلِمات، أم يستمعُ إلى معزوفاتِ القمر لعلّها تُثير شجونه، فيتسنى لِمَا في جُعبتِه البُزوغ؟ أَيكتب عن أحلامِه الصامدةِ على الجدران، أم عن ذِكرياتٍ تحتَضنُ مشاعِرَه؟ ليست مُحاكاةُ القلمِ بالأمرِ الهيّن؛ يأبى في لحظاتٍ كثيرةٍ الصمت. فلا يردعُه شيءٌ عن البوح، حتى وإن كانَ ذلك الشيءَ كَسْرَهُ.

يُقاطعه صوتُ الواقعِ أحيانًا، لكنّه يتعمّد تجاهُلَه وإكمالَ المسير. فالقلمُ عنيدٌ جدًا، آنِفٌ، شُجاعٌ، وهِنٌ تارةً. لا يَقبلُ المُنتصف: إمّا الوجودُ أو العدم. إمّا أن يُثرثر دون أن يغيبَ عقلُه عنه، أو يصمُتَ دونَ أن ينبِس ببنتِ شفة. يَخشى الأديبُ مُسامرةَ ورقته فلا يخرُس القلم، ويَخشى هِجرانَها فيغضبُ ويثورُ ويحزنُ وينصرفُ عنها. يَخشى أن يَعبَثَ في الأوراقِ ويُلطّخها، ويَخشى ازدحامَ المشاهِد وإتلافَها. يتمنّى مَحوَ حروفٍ عالقةٍ في طيّاته، والسّماحَ لأخرى بالإنجلاءِ.

يَتوقُ إلى رسمِ شعورِه بدِقّة، بفرشاةٍ سِحريةٍ لا يلبَثُ مفعولُها أن يتبدّدَ وينمحي أثرُه كأنّه لم يَكُن. أو أن يَكتُبَه بريشةٍ ينجلي مدادُها فورًا، فيُجسّد ممرّاتِه ومُفترقاتِه دونَ وجَل، ويروي حكاياتِه المبتورةَ بكلِّ لُطفٍ ورِقّةٍ غيرِ واجف، وينسجُ خيوطَ كلماتِه كلّما ساورته فكرة، كلّما أبهره مشهد، كلّما راقَه موقف. ثم بينَ غمضَةِ حرفٍ وانتباهتِه، يَرنو نحو اللاشيءَ وبِجواره كلُّ شيء.