الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي: العقل يهدي والتقنية تخدم

إن الله وهب الإنسان عقلا يميزه به عن سائر مخلوقاته، ليكون قادرا على التفكر في بديع خلقه، والتدبر في الكون من حوله، والبحث عن الحقيقة التي تنير طريقه في الحياة، فإن العقل والفطنة والذكاء نعمة وأمانة تستدعي من الإنسان أن يسعى قصارى جهده لتوسيع مداركه وإفساح بصائره خبرة ومعرفة ونباهة وأن يرتقي بها إلى استثمار العلم فيما ينفع الناس ويقربهم من الخير، ومن هنا تأتي أهمية العلم والحكمة في حياة الإنسان، فهي ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، كما أخبر به النبي عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات: «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها» ، فيسعى إليه المؤمن بكل إخلاص، سواء في كتاب قديم، أو حتى في وسيلة حديثة تساعدنا على التعلم، فالإنسان المؤمن لا ينتظر أن تطرق المعرفة بابه، ولكنه يلتقطها أينما وجدها، ويحوّلها إلى نور يهتدي به في الحياة وسلاح يُعِينه على التمييز بين الصواب والخطأ، والخير والشر، ويعلم أن كل وسيلة تصل به إلى المعرفة، مهما كانت بسيطة أو حديثة، وهي فرصة لإغناء العقل باستخدام الوسائل الممكنة لتسهيل رحلة التعلم بذكاء مطلوب وحكمة مطلوبة. فبالعقل يسمو الإنسان ويرتقي، ينهل من كل مصدر نافع وبه يحقق الغاية من وجوده في إعمار الأرض ونشر الخير بين الناس.
مكانة العلم في الإسلام ودعوته إلى الحكمة والمعرفة:
فإن ديننا الإسلام الحنيف قد وضع للعلم مكانة رفيعة ومنزلة عظيمة لا تضاهيها أي منزلة أخرى، وجعل السعي وراء المعرفة واجبا وفضيلة، وأول أمر نزل من عند الله عز وجل كان: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، فتلك دعوة صريحة إلى الانطلاق في رحلة العلم والإقبال على المعرفة بكل صدق، وقد جاءت العديد من الأحاديث النبوية تؤكد فضل العلم وتشجع على طلبه، مثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»، فالعلم في الإسلام أمانة، والسعي وراء الحكمة واجب لكل مؤمن، كيفما كانت الوسائل والأدوات التي يستخدمها، ومع التطور التكنولوجي الذي نشهده اليوم أصبح الذكاء الاصطناعي وسيلة فعالة لتيسير طلب العلم، فهو ينظم المعلومات ويجعل الوصول إلى المعرفة أكثر سلاسة وسهولة، وبالتالي يصبح أداة تساعد العقل البشري على التركيز على الفهم العميق والتفكير بدلاً من الانشغال بكثرة البيانات، فالآلة هنا مساعد يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى من الأداء والتفكير والتحليل.
تحوّل الأدوات وتثبيت الغايات عبر العصور:
ومنذ أن خطت البشرية أولى خطواتها، حاول الإنسان لتحويل العجز إلى قدرة والإحباط إلى ابتكار، وقد تغيّرت الأدوات عبر القرون، بيد أن الغاية ظلت ثابتة على طول مسار الزمن، وهي أن يكون الإنسان قادرًا على التفاعل مع الكون بوعي وحكمة وأن يترك أثرًا إيجابيًا في الحياة التي يعيشها، فكما كانت الكتب والمكتبات والمكتشفات العلمية أدوات الإنسان في الماضي، أصبحت اليوم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أدوات العصر الحديث التي يمكن توظيفها في خدمة العلم والمعرفة، فهي تربط بين الباحث والمعلومة بطريقة سريعة ودقيقة، وتُسهّل على الطالب والباحث الوصول إلى المصادر والبيانات المهمة التي قد تحتاج سنوات لاكتشافها سابقًا، ومن هذا المنطلق يمكن لنا أن نرى كيف تحولت التقنية إلى وسيلة لتبسيط البحث عن الحكمة والمعرفة، فتفتح أبواب المعلومات أمام الإنسان بطريقة سلسة وسريعة، مع الحفاظ على عمق التفكير وروح النقد التي تميز العقل البشري عن الآلة.
فوائد التقنية وحدودها في تبسيط المعرفة:
وقد أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم وسيلة مهمة لمساعدة الإنسان على الوصول إلى المعلومات وفهمها بسهولة، فهو قادر على قراءة ملايين الصفحات واستخراج المعلومات الدقيقة وتحليل البيانات المعقدة بسرعة فائقة وتقديم ملخصات تساعد الطلاب والباحثين على فهم المحتوى وتنظيم أفكارهم، وعلى الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على تنظيم البيانات، يبقى الإنسان هو من يقرر معناها ويستخلص الحكمة منها، فالآلة وسيلة لتيسير العملية التعليمية، فقد شهدنا في الجامعات والمختبرات كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي في إعداد الرسائل الجامعية والأبحاث العلمية، فتبدو الأعمال منظمة ومرتبة من الخارج، وكان كثير منها أو معظمها مرتبًا وجاهزًا للنشر من الناحية الشكلية، لكنه في كثير من الأحيان يفتقر إلى العمق الفكري الذي يضفي على العلم قيمته الحقيقية ، فالأداة تبسط الطريق وتسهله، ولا تمنح القدرة على التأمل والتحليل المستقل الذي يجعل المعرفة حية ونابضة، حيث يبقى العقل البشري هو البوصلة التي تحدد المعنى وتمنح العمل العلمي روحَه وصدقه.
وعلى الرغم من ذلك، تظهر الفوائد الكبيرة للذكاء الاصطناعي في تبسيط الوصول إلى المعرفة في المجالات العلمية، فقد فتح أمام الإنسان آفاقًا واسعة في ميدان المعرفة والاكتشاف، حتى غدا أداةً فعالة في تبسيط سبل العلم وتسريع الوصول إلى الحقائق، فقد ساعد العلماء على تطوير وتحليل كمٍّ هائل من البيانات الطبية التي تعجز العقول الفردية عن الإحاطة بها، كما مكّن الباحثين من استكشاف أعماق العقل ورسم خرائطه الدقيقةوكل هذه الأمثلة تبيّن حقيقة مهمة وهي أن التقنية ، تبقى أداةً طيّعة بين يدي الإنسان الواعي ويستخدمها بحكمة وأمانة، فالتقنية هنا تعمل كميسر لتبسيط عملية التعلم والاكتشاف، وتقلل العناء والزمن، لكنها لا تُعطي الفهم العميق أو القدرة على النقد والإبداع، تبقى أداةً طيّعة بين يدي الإنسان الواعي هو من يعطيها روحها ومعناها، ويحوّل المعرفة الجامدة إلى بصيرة حية تنفع الإنسان والإنسانية وتسهم في خدمتها. وقد حلّت اليوم محل الطبشورة والسبورة الشاشات المضيئة والتطبيقات الذكية لمساعدة الطلاب على التعلم والتدريب، مثل المختبرات الافتراضية وبرامج التصحيح الفوري وأدوات التحليل والتلخيص، وهذه الأدوات تفتح أبوابًا واسعة للمعرفة، لكنها تحتاج إلى من يقودها ويستثمرها، وإلى من يمنحها الضبط والغاية، فالتحدي الحقيقي للجيل الجديد هو أن يتقن لغة الآلة دون أن يفقد لغته الإنسانية، وأن يستخدم الذكاء الاصطناعي ليزيد من فهمه وإبداعه لا ليحل محل تفكيره، فإن مسؤولية الطالب المعاصر لا تقتصر على استخدام الأدوات الذكية في جمع المعلومات أو معالجة البيانات، ولكنها تتجاوز ذلك إلى توجيهها بوعيٍ نقدي وبصيرةٍ فكرية، فالعقل الإنساني هو الذي يمنح التقنية معناها ويُعيد توجيهها نحو غاياتٍ سامية، لتصبح وسيلةً لترسيخ الفهم وتوسيع آفاق البحث. ومن هنا تتجلّى القيمة الحقيقية للتعليم في العصر الرقمي بالذكاء الاصطناعي لتبسيط التعلم دون أن يُفرّط في جوهر التفكير الإنساني القائم على التأمل والإبداع. وهنا تتحقق الفائدة الحقيقية للآلة كأداة تبسيط، فهي لا تقلل من مسؤولية الإنسان عن الفهم العميق والتقييم الموضوعي هو من يقرر كيف يستخدم هذه المعرفة وكيف يربطها بالحياة العملية والإبداعية.
الإنسان وتحدياته في عصر التقنية الذكية:
فإن العلم أمانة، والآلة أداة، والذكاء الاصطناعي أداة تبسيطية في عصر المعرفة، وكل خطوة نخطوها يجب أن تكون مدفوعة بالضمير والعقل والحكمة، فالتقنية تصبح نعمة حين تُستخدم لتسهيل التعلم والوصول إلى المعرفة، وتتحول إلى نقمة حين تُترك بلا وعي أو مسؤولية، لكون الذكاء الاصطناعي أشبه بلوحةٍ نرسمها بأفكارنا وألوان قِيَمنا، فإن صفَت نوايانا أشرق عطاؤه، وإن تكدّر فكرنا انعكس ذلك في مخرجاته، فإذا زرعنا فيه الأمانة، سيثمر معرفة نافعة، وإذا تجاهلنا المسؤولية، سيصير أداة تهدد روح العلم وتؤدي إلى استسهال المعرفة وفقدان الإبداع، فالإنسان في العصر الحديث لا يُقاس ذكاؤه بما ينتجه الذكاء الاصطناعي، بل بقدرته على توجيه التقنية ودمجها مع التفكير النقدي وتحويل المعلومات إلى معرفة حقيقية والخبرة إلى حكمة نافعة، وقد يُعلّمنا كيف نكتب، لكنه لا يمكن أن يعلّمنا لماذا نكتب، وقد يُجيب عن أسئلتنا، لكنه لا يطرح سؤال الوجود، ولا يزرع فينا دهشة الاكتشاف، لذلك يبقى الإنسان هو محور المعرفة، والآلة وسيلة لتيسير الطريق وللوصول إلى نور الحكمة الذي لا ينطفئ، ومتى ما أدرك الإنسان ذلك، أصبحت التقنية نورًا للمعرفة، وسُلّمًا لتحقيق الخير، وأداة لتيسير الحياة، وليس وسيلة لتقليص الإدراك أو تعطيل التفكير. والعلم يظل أمانة الإنسان، والآلة تظل أداة العصر، والذكاء الحقيقي يكمن فيمن يستخدم هذه الأداة ليفتح أبواب المعرفة، ويزرع في الأجيال القادمة حب البحث وروح الابتكار وعمق التفكير، فكل معلومة نكتسبها يجب أن تمر بميزان العقل والضمير، وكل تجربة تعليمية يجب أن تُصقل بالقيم الأخلاقية.
وفي نهاية المطاف، فإن العالم في أمس الحاجة إلى نهضةٍ حضاريةٍ إسلامية جديدة، تتآلف فيها أنوار الإيمان مع مكتسبات العلم، وتلتقي فيها براعة التقنية مع مقاصد الشريعة، ليبقى الإنسان خليفةً راشدًا في الأرض، ويسير العلم في درب الهداية لا في مسالك الطغيان، ويغدو التقدم الرقمي وسيلةً للتحرر لا قالبًا لعبودية معاصرة.، فقد قال تعالى في محكم تنزيله إشارة إلى ذلك: ﴿يرفع الله الذين امنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات﴾ [المجادلة: 11]. فالذكاء الاصطناعي مهما أبدع وتفوّق وتطورت الآلة واتسعت قدراتها، فلن يبلغ أبدا جوهر الفكر الذي يكون للإنسان، فالعقل الذي وهبه الله للإنسان هو المعيار الذي يزن به الحق والباطل، فإذا أحسن الإنسان استخدام الذكاء الاصطناعي بعقل راشد وقلبٍ سليم، تغدو التقنية وسيلة إلى الإبداع، وأداة لتحقيق رسالة الاستخلاف في الأرض بوعي وعدل وجمال، لأنّ الإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والذكاء وجعله خليفة في الأرض، مطالبٌ بأن ينهض بهذه الأمانة بعلم نافع وعمل صالح، فيوظّف هذه التقنية الحديثة لخدمة العلم، ويسخّر الذكاء الاصطناعي لرفغ راية العلم والفكر، وكيف لا وقد قال الله تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ فلذلك، الإنسان هو البداية والغاية، وهو الذي تزهر به المعرفة، ومنه تنبثق الإرادة، وعليه تقوم الحضارة وتسمو به الحياة.
