طيف اللون الأبيض

أستطيع أن أدوّن الألم…
الآن فقط أدركتُ تلك القدرة: أن أجسّد جراح الروح على الورق.
لكنني اكتشفتُ أيضًا أنني عاجزة عن السماح لأولئك الذين نفثوا الأذى نحوي أن يمرّوا عبر السطور.
الحروف طاهرة، ثمينة، وبعض الأفعال لا ترقى للتدوين، ولا للحفظ، ولا حتى للبوح.

ضحكت سيدتان يومًا وهنّ يُخبِرن أمي أنني عزمتهنّ على كوب من الشاي، أعددته بأوانٍ لعبة، أكواب بلاستيكية ملأتها بالماء وقدّمتها لهنّ مقلّدة أمي.
لم أشعر بالإحراج إلا حينما كبرتُ قليلًا.
أصبحتا تُذكّرانني بها من باب الدعابة.
كنتُ أخجل في سرّي، وأُخلّد الموقف بصمت، لأنني لم أنسَ ما فعلتاه حينها: شربتا “شايّ الماء” في أكواب بلاستيكية كما لو كان حقيقيًا.
ذاكرة الطفل لا تصدأ، ولا تعرف النسيان…

في موقف مشابه، فُزعت أمي يومًا وهي تسمع حديثًا صاخبًا يخرج من الغرفة، ولم يكن سواي معها في المنزل.
وحين سألتني، أجبتها: “ألعب مع نفسي”.

نفسي… هكذا أجبت دون أن أعرف معنى آخر لهذه الكلمة، لا أفلاطونيًا ولا صوفيًا ولا لغويًا.
كلّ ما كنت أعرفه أن “نفسي” هي الشخصية الأخرى التي تُطبّق كلّ الأدوار التي أمليها عليها.
كانت هي “الآخر” الذي أتخيّله فيتجلّى في مخيّلتي، يملك صوتًا يُشبه صوتي، ووجهًا يُشبه وجهي، وينصهر في قالب كلّ الأدوار التي اخترتُ له أن يجسّدها.

كنتُ أيضًا أتحدّث مع الجمادات.
ربما لأنها تُجسّد الأدوار أيضًا وتتحدّث بما أُحبّه؟
لكنني كنت أشعر أنها تملك لغة، وأحاسيس مكنونة، تتواصل مع من يفهمها ويحاول إتقان لغتها.

علبة الألوان التي تبدو لأي شخص آخر علبة عادية، كنتُ أراها بيتًا.
الألوان تُشكّل عائلات: الأصفر الغامق قرب أخيه الأصفر الفاتح، ثم الأخضر، ثم الأحمر… وهكذا مع بقية الألوان.
لم أكن أضجر خلال فترة المراجعة، فقد كانت كل أداة مدرسية تؤدي دورًا في الحكاية، من الأقلام إلى الدفاتر والكراسات.

كان يبدو الأصفر لامعًا، برّاقًا، مميزًا في كل مرة.
وكانت مكافأتي أن أبرد اللون “المهذّب” أكثر من البقية.
لم أُخبر أحدًا بالأمر، حتى أفراد أسرتي، فقد كان لدي من الوعي ما يكفي لأدرك أنني قد أُنعَت بالجنون إن قلت إن الأدوات تتحدث إليّ.

ذات يوم، بينما كنت أرتّب الأقلام في علبة التلوين، أخبرني القلم الأبيض بشكوى لا تزال تسكنني حتى الآن:

“تعبتُ من كوني قلمًا بلا فائدة.
وتعبتُ أكثر في كل مرة يُصرّون فيها على إبقائي في علبة الألوان، لا لشيء، فقط لكي أبقى على الهامش.
ذنبي أنني شفاف.
لا أحد يرى دوري حين أخفف اشتعال الألوان، أو أخفي العيوب، أو أضيف الضوء في الرسم.
ألون الظلال والمساحات، لكنني بالرغم من كل ذلك، أبقى اللون المنسي.
لا أستطيع حتى أن أكتب على الورق… لأني غير مرئي.
إن كبرتِ يومًا، احملي رسالتي، واكتبي بوحي بقلم حبرٍ جاف… أو أسود.”

لم أستهتر يومًا بشكواه.
كنتُ أخصّه بمعاملة خاصة، وأتعاطف معه، وأحاول التخفيف عنه في نهاية كلّ حصة للتفتح الفني.
كانت المعلمة تأمرنا باستخدام الألوان “الساخنة والباردة فقط”، ولم نستخدم القلم الأبيض أبدًا.

حكاية اللون الأبيض لم تنتهِ في علبة الألوان.
بل تتجلّى في واقعنا أيضًا… على هيئة أشخاص.
لذلك، كلّما رأيتُ شخصًا يبذل ما في وسعه، ويُركن في نهاية المطاف إلى زاوية منسية، أتعاطف معه.
طيف اللون الأبيض ظلّ يرافقني دائمًا، يذكّرني أن خلف كل ما لا يُرى، حكاية تستحق أن تُروى.

حين كبرتُ قليلًا، وكأيّ فتاة يعتريها الشغف تجاه الأعمال المنزلية وتتطلّع إلى أن تُشبه أمّها، بدأتُ أحب الغسيل والكنس والتنظيف.
كانت أمي تقول لي: “لا تستعجلي… عندما تكبرين، ستكرهين كلّ هذا.”
لم تكن كاذبة.
حدث ذلك بالفعل.
ومع ذلك، كنتُ أعود إلى المطبخ لحاجة في نفسي… لأن رحلتي مع الأواني كانت قد بدأت.

تحدّثتُ مع الملاعق الخشبية والعادية، أنِستُ بحديث الطناجر، وواسيْت كلّ من أصبحت بلا غطاء.
غسلتُ الكؤوس بلطف، وعرَفتُ لغة الشوكات الغامضة.

لكنني وجدتُ في عالم الأواني من كُتب عليه أن يُشترى، ويبقى مهملاً في الزوايا…
كانت ملعقة طويلة، تُشبه المغرفة، لكن لها أسنان مثل الشوكة.
لم أعرف ماهيّتها، ولم أكن قد تعلّمت الطبخ بعد.
الأهم أن أزيح عنها شعور الإهمال الذي التصق بها دون ذنب.
لها دورٌ ما لا شك، لكن في ثقافة أخرى، أو بلد آخر…
ومع ذلك كانت تُقتنى.
أو لعلها فُرض عليها أن تُباع ضمن مجموعة لا تشبهها: مغرفة تُستعمل، ومقشدة للزيت… وهي تبقى، بلا وظيفة، ولا ملامح، سوى الحضور المنسي.

كنتُ أغسلها بين حين وآخر، لأطارد شعورًا لا أعيشه في البيت، لكن أودعنيه اللون الأبيض…
الأبيض الذي يرافق كل مكان، دون أن يترك أثرًا واضحًا، كما لو أنه يُكمل المشهد دون أن يُرى.
رأيتُه في المدرسة، وفي المطبخ، وفي الزوايا المنسية من كل بيت.
كان يحضر دائمًا قرب الأشياء اللامعة، صامتًا، لكنه ضروري.
كلّ أولئك الذين يُشبهونه — أناس، وأشياء، وأقلام، وحتى ملعقة لا تُستعمل — صاروا عندي وجهًا واحدًا:
المنسيّ الذي يعكس الضوء دون أن يُرى.
تمامًا كما يفعل القلم الأبيض، أو الطفل الذي يتحدث مع الأشياء، ويُصغي لما لا يُقال.