بين أروقةِ الذاكرة، همسٌ خافتٌ يُناجيني…
حاجتنا لكهل
هأنذا، بين جنباتِ «الذّاكرة»؛
السماءُ متوشحةٌ السواد، وفي عينيها عتابٌ لن يفهمه إلا من عاش تحت كنفِها سنواتٍ طوالًا. عتابٌ يغمره طيفُ المحبة، ويُجاريه الشوق تحت ضوء القمر. بسطتْ ذراعيها بعد طولِ انتظار، لتُعانقني، وكان العناقُ طويلًا.
شيئًا فشيئًا، بدأت حباتُ المطر تنهمرُ تباعًا، وندى الأيامِ الغابرة يُداعب أنفي. ليأخذني إلى جدرانٍ ناحت وتآكلت أطرافُها؛ نظرتْ إليّ بنظرةٍ ألِفتُها، واحتضنتْ وجهي بكفّيها… دون أن تنبس ببنتِ شفةٍ سألتني: كيف أنا الآن؟ وكيف حالي؟ أخبرتها أنني بخير، ولكنني اشتقتُ إليها، وإلى أيامٍ بكيتُ فرحًا وحزنًا على كتفيها.
أشارت إلى ركنٍ كان يومًا ملاذي، توجهتُ إليه بتوجّس؛ وأنا متيقّنة بأنه سوف يُحيي أوجاعًا صامتة، ويُعيد إلى أذناي صدى الذكرى. وقعتْ عيناي على روايةٍ لي بين الركام، فارتجف قلبي شوقًا؛ وذهبت إليها أناملي دون أن تُشاورني. حملتُها برفقٍ كما تحملُ الأمُّ رضيعَها، وعطري القديم يفوح منها ببطء.
أشحتُ بوجهي حينما هبّت رائحتُه، لكنه أصرّ على أخذي إلى حيث لا أريد. وقفتُ بجمودٍ يتخلله الحنينُ أمام غلافها، حائرةً على عتبتها. لم أقوَ على فتحها، فما كلُّ الأبواب تستحق أن تُطرق مرتين. أعدتُها إلى حيثُ كانت، وبصري يتفقد أرجاء الركن بوجلٍ.
الأصوات تتعاقب، والوجوه تغدو مسرعة، بعضها مبتسمٌ، وبعضها غاضبٌ، وبعضها حزينٌ. البابُ الخشبيُّ المهترئ، يصدُّ عني كلما اقتربتُ منه، خشيةَ أن أزيح عنه ثِقل الذكريات. أما الكرسيُّ، فهو صامتٌ كعادته، مكفهرّ الوجه، وعلى يمينه مذكرتي. أبعدتُها عنه فلانت ملامحه، وكيف لا تلين، وهو قد تحمّل ثقلَ أفكاري برهةً من الزمن.
لم أُطل النظرَ إليها – أي مذكرتي – بل شرعتُ في فتح أبوابها، وكلُّ التفاصيل والرسوم والأحداث تفرّ من أوراقٍ كانت يومًا مسكنها، خائنةً… أغلقتُها، وأودعتُها هي الأخرى مكانها.
أدرتُ ظهري للرحيل، وكلُّ شيءٍ في المكان يدعوني إلى البقاء. دنوتُ من العتبة مودّعةً نسخةً قديمةً مني، ومذكرتي في الخلف تصرخ، وتلتمس مني اصطحابها. حتى الكرسيُّ استنطقتُ صمتَه برغبتي في الرحيل، وتحدث ليقول بعبارةٍ مقتضبة: «لا تُغادري». أومأتُ بأسفٍ، فما عاد هذا المكانُ يسعني، وما عادت هذه الدارُ داري. جئتُ لألقي سلامًا عابرًا وأُكمِل المسير.