مع احترامي للمواهب

من اللافت للانتباه قبل بدء أية مباراة لكرة القدم أن يقف مدرب حراس المرمى ذو الخبرة الطويلة أمام الحارس العملاق المشارك في المباراة ثم يقذف الكرة نحوه من مسافة متر تقريبًا، فيلتقطها الحارس بسهولة، مما يجعل المتأمل يتساءل عن جدوى هذا التمرين البسيط الذي يقدر عليه مَنْ لا خبرة له ولا دراية بالكرة أو ربما بالرياضة عمومًا، ثم نجد المدرب يبتعد قليلًا عن الحارس بشكل تدريجي، ومع زيادة المسافة بينهما يزيد المدرب من شدة ركل الكرة فيزيد الحارس من تركيزه وحركته، ومع الوقت يتكرر التقاط الكرات السهلة القريبة الضعيفة إلى أن يكون الحارس قادرًا على التقاط الكرات الصعبة البعيدة القوية قبل المباراة وبعدها حيث اعتادت عيناه متابعة الكرات البطيئة المتوقعة ثم ازدادت متابعته وقدرته في أثناء المباراة على متابعة الكرات السريعة المفاجئة، وهذه هي فلسفة التمرين لحراس المرمى واللاعبين والبشر جميعًا، وما يُقال عن حارس المرمى يقال عن غيره، وما نتعلمه من فلسفة التمرين على التقاط الكرة ينسحب إلى غيرها من المهارات بل يشمل الأفكار والمشاعر والعلاقات أيضًا.

أخبرني صديقي طبيب أمراض النساء والتوليد في بداية عمله أن حالة الولادة القيصرية كانت تستغرق ما يزيد عن ساعة ونصف، وقد وصل بعد الحالة التسعين إلى ثلث ساعة تقريبًا، (ويصعب أن يقل الوقت عن ذلك لا لقلة مهارته لكن لسبب طبي يتعلق بالتأثير على الأنسجة وغيرها)، ورأيت غيره من الجرَّاحين وأطباء الاستقبال والطوارئ مَنْ كانوا يفقدون أعصابهم وترتعش أيديهم مع حالات الخياطة ثم صاروا بعد ذلك متميزين أو (محترفين) بعد فترة تطول أو تقصر من التدريب والتعود، وغير ذلك الكثير ممن عملوا في كل مجال وممن عرَفتُ أو لم أعرف.

يتساءل بعض الناس عن الفرق بين الموهبة والمهارة، وعن فضل إحداهما على الأخرى، والإجابة المباشرة أنه لا قيمة للموهبة بلا مهارة أو تدريب أو عملٍ جاد، وإن الاعتماد على الموهبة وحدها ضرب من العبث، وانتظار ثمرتها حصاد للهشيم، فلا موهبة بلا تدريب مستمر ولو كان قليلاً، والقاعدة الذهبية “قليل دائم خير من كثير منقطع” تشير إلى أن الجرعات المكثفة من العمل المتقطع ليست كاستمرار العمل مهما قلّ أو تضاءل، وشر منهما الاعتماد على الموهبة أو انتظار الإلهام لتحقيق المستحيل وظهور الإبداع، وليس هذا إنكارًا لوجود الموهبة الوراثي والچيني بل إنني أدعو نفسي وغيري إلى التمسك بما يرى أنه موهوب فيه ويمكن له أن يفعله بسهولة ويشعر معه بسعادة، لكن للتأكيد على أن الإبداع والإنجاز لا يظهران إلا في البيئة التي تعزز ظهورهما والعمل المستمر الذي يعين على تطويرهما، وما ظهرتْ فكرة (هاري بوتر) مثلاً ولا استمر إصدارها لعدة أجزاء، وهي تحقق في كل جزء نجاحًا يفوق ما قبله إلا بالاستمرار والتكرار، وكذلك عندنا في العالم العربي عندما نرى هذا الكم الهائل من القصص والروايات التي كتبها (نجيب محفوظ)، بغض النظر عن بعض الفروق المطروحة مؤخراً بين الكتابة الآلية والكتابة الإبداعية وغيرهما.

وفي مقولة (ستيفن كينج) الشهيرة تأكيد على هذا المعنى: “المبتدئون ينتظرون الإلهام أمّا نحن فنستيقظ كل يوم لنعمل”.

وفي قوله – صلى الله عليه وسلم-: “إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتقِ الشر يوقه” وقوله ” من سلكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا سلكَ اللهُ به طريقًا إلى الجنة” دلالةٌ على أن العلم لا يولد مع صاحبه، وإنما هو مكتسب كما قال الله -سبحانه وتعالى-:” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً” وأن الحِلم لا يأتي إلا بالتَّحَلُّم بمعنى أن يحاول  الإنسان تعويد النفس على الحِلم وعدم الأذى؛ لأن الحِلم إذا درب الإنسان عليه نفسه صار سجيةً له، لذلك ليس من المقبول أبدًا أن نسمح لأحد الناس بالسب والشتم بلا داعٍ لمجرد أن هذا طبعه وقد خلقه الله على ذلك! أو نتهاون في الأخذ على يد الضارب لأنه بفطرته عصبي لا يملك نفسه، بل حتى مَنْ كان بطبيعته غضوبًا أو كسولًا أو (بيرمي دبش) وجب عليه أن يتكلف الهدوء ويواصل العمل ويسهل ويلين قدر استطاعته حتى يُحَصِّل من الصفات الحميدة والخلال الكريمة ما أمكنه تحصيله، وخيرٌ له أن يجرب مرة واثنتين وعشرًا وهو يخطئ من أن يحتج بالطبع والفطرة دون محاولة مستمرة وتكرار دائم.
نظرية (التجربة والخطأ) أو (النظرية الارتباطية) هي إحدى نظريات علم النفس السلوكي، وخلاصتها أن عملية التعلم هي حاصل الربط بين (المثير) و(الاستجابة) وتقوى أو تضعف بمدى قوة هذا الترابط، بمعني أن التمرين المستمر لنفس العمل يؤدي لتقوية ارتباط المثير بالاستجابة أي أن الإنسان أو الحيوان لا يتعلم إلا بالتَّكرار المستمر.
في عام 1898م وضع عالم النفس التربوي (إدوارد ثورندايك) أسس تلك النظرية بعد تجربته الشهيرة التي أجراها على قطة جائعة وضعها داخل صندوق لا يُفتح إلا عن طريق سحابة، وعلى القطة أن تسحبها ليُفتح لها الباب حتى تتمكن من الخروج، ووضع طعامًا ذا رائحة نفاذة بجانب الصندوق، فكان من المستحيل على القطة الوصول إلى ذلك الطعام إلا إذا كان بإمكانها فتح الباب والخروج منه.
في البداية تحركت القطة بشكل عشوائي داخل الصندوق ثم أخذتْ تعض في القضبان وتدفع أقدامها محاولةً الضغط على جدار الصندوق، لكن بعد ساعات من تجربة هذه الاستجابات غير الفعالة، قامت القطة بشد السحابة عن طريق الخطأ فوصلتْ إلى الاستجابة الصحيحة وفُتح باب الصندوق وتمكنت القطة من الخروج والحصول على الطعام الموضوع بجانب الصندوق. وضع (ثورندايك) القطة داخل الصندوق مرة أخرى لكنها في هذه المرة استغرقت وقتًا أقل لشد السحابة، وفي كل مرة يكرر فيها التجربة تتقلص المدة الزمنية التي تستغرقها القطة لفتح الصندوق حتى إنها بعد عدة محاولات على مدى أسبوع استطاعت فتح الصندوق في دقيقة واحدة، وهو ما يعني انخفاض زمن الاستجابة، وأن القطة تعلمت الخدعة أخيرًا، ثم أصبحت تشد السحابة بمجرد وضعها في الصندوق، ومن هنا وُضع مصطلح (التعلم من التجربة والخطأ)؛ لأن عدد التجارب أدى إلى انخفاض عدد الأخطاء، وبذلك وجد أن التمرين والممارسة المستمرة لنفس العمل يؤدي لتقوية ارتباط المثير بالاستجابة، و(المثير) بالتجربة طبعاً هو (الطعام)، و(الاستجابة) هي (فتح الصندوق)، أي أن القطة ستتعلم بالتكرار المستمر، ثم أجرى نفس التجربة على عدد كبير من القطط وخرج بنفس النتيجة فقام بوضع تلك النظرية.
يقول چوستاف لوبون في كتاب (روح الاجتماع): “للتَّكرار تأثير في عقول المستنيرين، وتأثيرُه أكبرُ في عقول الجماعات من باب أَوْلَى، والسببُ في ذلك كونُ المكرر يَنطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسبابُ أفعال الإنسان، فإذا انقضى شطرٌ مِن الزمن نسي الواحدُ منا صاحب التكرار، وانتهى بتصديق المكرَّر”.
وبهذا التكرار تحصل المَلَكَة في العلم والأدب وتتكون الذائقة وتتشكل اللغات، والمَلَكَةُ هي الصفة الراسخة التي تكتسبها النفس بالتكرار والممارسة، والتي تقود إلى الحفظ والفهم وسائر الأعمال الفكرية والجسدية بسرعة وسهولة، وإن كل الأفعال التي يمارسها الإنسان لا بُدَّ وأن تعود آثارها على نفسه حتى تثبت في لحظةٍ ما بقوة التكرار وبتنمية الملكة والمهارة.
ودائمًا ما أشدد على أهمية التكرار وأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع وكل قليل على قليل يخرج منه الكثير، ولا أحب لنفسي أو لغيري الاستسلام من المرات الأولى لاكتساب مهارة أو تعلم شيء جديد؛ لأنه لا سبيل لتعلُّم شيء إلا بالعمل المستمر بغض النظر عن وجود الموهبة أو انتظار للإلهام.
اليومَ شيءٌ وغدًا مثلُهُ
من نُخبِ العلمِ التي تُلتَقَطْ
يُحصِّلُ المَرء بها حكمةً