رواية “الدين والعلم والمال” ويوتوبيا لفرح أنطون
على الرغم من عنوانها الطويل وغير اللافت؛ إلا أنها تعد واحدة من الروايات الهامة المحتشدة بأفكار الإصلاح والعدل الاجتماعي في فترة مبكرة من تاريخ الرواية العربية، ولا يعيبها في ذلك صغر حجمها، وقلة عدد صفحاتها، وقد كتبها “فرح أنطون” ونشرها عام 1903م.
كانت شهرة “جورجي زيدان” في تلك الفترة تجوب الآفاق لما لجأ إلى التاريخ العربي والإسلامي مستلهماً من قصصه الكثيرة ما يصلح لأن يكون مادة روائية لعصر إحياء جديد، ونشر تلك الروايات في مجلة “الهلال” التي كان يصدرها ويتولى أمرها، وينتظرها قراؤها بما تحمله من مادة ثرية تشير إلى ماض تليد وشعوب عريقة، وواقع حافل بالأحداث، ومستقبل يرنو إليه الجميع بأمل امتلاك أدواته، إلا أن كاتبنا عرف عنه أنه كان على النقيض من مجايله، وبدا للناس كزعيم ثائر من أشد الداعين إلى الأخذ بكل أسباب العلم سعياً إلى مجتمع متسامح لا أثر فيه لتعصب، ولا وجود فيه لاضطهاد ونفي، وفي سبيل تحقيق العدل الاجتماعي آمن بالاشتراكية، واعتبر أنها تحمل الخلاص للإنسانية مما هي فيه من سوءات وعوار!، ولما كانت كتابة المقالات بها من الجفاف ما يمكن أن يصرف القارئ عن مادتها، فقد وجد فرح أنطون أن الفن الروائي هو الأنسب لتوصيل الأفكار إلى القراء لأنه يستحوذ على عقل ومشاعر القارئ بما تحمله الرواية من سحر وصور وتشبيهات.
فرح أنطون
“فرح بن أنطون بن الياس أنطون” (1861-1922م)، أو (1874- 1922م) هو صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي. ولد وتعلم في مدينة “طرابلس” بلبنان، ثم انتقل عام 1897م إلى الإسكندرية بمصر هرباً من الاضطهاد العثماني، وسرعان ما تفاعل مع أوساطها السياسية والثقافية وأصدر فيها مجلة الجامعة مجلة الجامعة التي صدر عددها الأول في الخامس عشر من مارس عام 1899م الموافق للثالث من ذي القعدة عام 1316ه، كما تولى تحرير “صدى الأهرام”، وأنشأ لشقيقته “روز أنطون” مجلة “السيدات”، وقد كان يكتب فيها هي الأخرى بتواقيع مستعارة. وقد استمر على هذا الحال حتى رحل من مصر إلى أمريكا سنة 1907م، وهناك أصدر مجلة وجريدة باسم “الجامعة”. غير أن إقامته لم تطل في أمريكا، فعاد من جديد إلى مصر متفاعلاً مع زخمها الثقافي والسياسي، فشارك في تحرير عدة جرائد ومجلات، وكتب عدة روايات، ثم عاود إصدار مجلته “صوت الجامعة”، وقد استمر بمصر متفاعلاً ومتوهجاً بأفكار الإصلاح، وآليات التقدم إلى أن توفي في القاهرة عام 1922م.
كان “فرح أنطون” واحداً من أبرز المثقفين السياسيين والاجتماعيين اللّبنانيّين في الدولة العثمانية التي كانت تهيمن على العالم العربي تقريباً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كما كان رائداً من رواد حركة التنوير. وتأثّر بأفكار المصلحين الأوروبيين أمثال جان جاك “روسو”، و”فولتير”، و”مونتسكيو” وغيرهم، وكان من الدعاة البارزين للتسامح الديني والسياسي والاجتماعي بين المسيحيين والمسلمين. ومثلما تأثر بكتاب ومفكرين من الغرب؛ تأثّر كذلك بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال “ابن رشد”، و”ابن طفيل”، و”الغزالي”، والشاعر الفيلسوف “عمر الخيام”، وآخرين، وعلى هذا فهو يعد من أعلام النهضة العلمانيّة العربية، وقد عكست ثقافته الواسعة انحيازه للإنسان بغض النظر عن دينه، أو لونه، أو عرقه، وأراد بسعي حثيث ومثابرة أن ينشر في المشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية والاجتماعية التي هزّت الغرب وأطلقته في الآفاق الواسعة الجديدة من التقدم، لعله هو الآخر ينتفض ويخطو خطوات واسعة وجريئة في طريق التحرر الفكري والرقي الاجتماعي والعلمي.
أثارت كتابات فرح أنطون الجريئة، وأفكاره التنويرية التي تدعو إلى التسامح ونبذ التعصب، واحترام عقول الناس، عدداً من الكتاب السلفيين ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، فكتبوا منتقدين فكره، واتهموه بالإلحاد والعلمانية.
ترك فرح أنطون للمكتبة العربية مجموعة كبيرة من الإبداعات الفكرية والأدبية وقد أنجز حوالي خمس وعشرين رواية من أبرزها روايات “الدين والعلم والمال”، “الكوخ الهندي”، “الوحش”، “بولس وفرجيني”، “أورشليم الجديدة”، “الحب حتى الموت”، الدين والعلم والمال، مريم قبل التوبة. ومن الكتب الفكرية: كتاب ابن رشد وفلسفته، وكتاب “تاريخ المسيح” (مترجم عن الفرنسية)، وتعد رواية “الدين والعلم والمال” من أجمل رواياته حيث صوّر فيها عدة جوانب من المجتمعات، وصور أيضا أضرار التفرقة والتعصب وما يمكن أن تؤدي إليه من تهلكة وفناء.
آثر كلمة “التساهل” في تصوره للدولة المدنية بدلاً من كلمة “التسامح” كترجمة اجتهادية للمقابل الأجنبي tolerance حيث يتجمل المرء في التعامل مع كل مالا يوافق عليه ليتقبل حضوره بوصفه مظهراً من مظاهر الطبيعة التي يقوم عليها معنى المواطنة في الدولة المدنية التي من الممكن أن تكون بداية التجسيد للإنسانية الجديدة، وأكد الكاتب أن التطبيق العملي لمبدأ التساهل يعني أن الإنسان لا يجب عليه أن يدين أخاه الإنسان على أساس من المعتقد الديني لأن الدين علاقة مخصوصة بين الخالق والمخلوق، والتسامح لا يوجد إلا في الدولة المدنية التي تنظر إلى مواطنيها نظرة المساواة، ولا تفرق بينهم حسب المعتقد أو الثروة أو الأصل والعرق، فالإنسانية التي تؤكد حق الاختلاف هي الإنسانية التي تتقدم صوب حلم العصر الذهبي والأمة التي تكفل حق الاختلاف بين أبنائها هي التي تبقى وتزهر وتقوى ولا تندثر،
المال والعلم والدين
كان فن الرواية ما يزال في بواكيره في ديار العرب، وقد رأى فيه كاتبنا منبراً جديداً ومهماً للوصول إلى القراء والمهتمين، وهي نبوءة مبكرة بما سيصبح عليه شأن الرواية في المستقبل إلى الدرجة التي دفعت واحداً من كبار النقاد أن يطلق مصطلح “عصر الرواية” مع ميلاد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كما رأى في فن الرواية فناً صاعداً متميزاً لإشاعة مناخ لأفكار النهضة ومعنى الدولة المدنية، كما وعى أن من الروايات ما كان يكتب من أجل التسلية، ومنها ما ينشأ من أجل الإفادة ونشر المبادئ والأفكار، وضرب مثلاً بالغرب الذي استطاع أدباء مثل تولستوي، وزولا، وكيبلنج وغيرهم اعتبار الرواية منبراً تنشر من خلاله أفكارهم وآراؤهم بطريقة تصل إلى أذهان القراء بسهولة، فرأى أن يهجر أسلوب المقالات إلى أسلوب الروايات في نشر أفكاره، وعلل ذلك بقوله إنه أجمع وأوعى وأشد تأثيراً لأنه يتيح الوصف وتصوير العواطف والحوادث، ولأنه فن جمال وتأثير متى عُمل على حسن سبكه ولطف أسلوبه، كما أن الرواية سهلة في الإقناع مآبين دعاة الدولة الدينية المعادية للتقدم، ودعاة العلم والدين الذين يحاولون أن يرثوا كهنوت الغلاة من رجال الدين وأصحاب رأس المال الذين لا يأبهون بشيء سوى الربح.
وهذا الكتاب هو الرواية الأولى لكاتبنا وقد سمَّاه رواية على سبيل التساهل لأنه رآه بحثاً فلسفياً اجتماعياً في علاقات المال والعلم والدين، وهو ما يسمونه في أوروبا بالمسألة الاجتماعية التي تتوقف مدنيتهم عليها، والكتاب يؤسس لهذه المسألة في ديار العرب. تدور أحداث الرواية حول القوى الثلاث الدين، والعلم، والمال عندما تتصارع، وما جرى بين سكانها من نزاع ودعاوى وكيف أدى ذلك إلى فناء الجميع، وهو الموضوع الذي شغل الكاتب ودفعة إلى صياغة رؤية فنية استخدم فيها التلميح بدلاً من التصريح، والمجاز بدلاً من الحقيقة، والرمز بدلاً من الإشارة المباشرة، وهي رؤية ظلت تحلم بنوع مغاير من الإنسانية أطلق عليه كاتبنا مصطلح الإنسانية الجديدة، وقيام عالم مثالي يقوم على التوازن بين القوى والمصالح والاتجاهات والمعتقدات.
نشرت الرواية عام 1903م ضمن مطبوعات الجامعة التي كان يصدرها من مدينة إقامته الإسكندرية، وفي صفحات الرواية الأولى تحذير للعالم من يوم يصير فيه الضعفاء أقوياء، والأقوياء ضعفاء، لأن سيطرة الأقوياء ستؤدي إلى تمرد الضعفاء ومحاولتهم صياغة عالم جديد يحقق لهم ما حرموا منه، وقد صاغ روايته صياغة تجريدية فلسفية بعيداً عن فن الواقعية، والاتجاه إلى بعد لم يتجه إليه كاتب عربي قبله وهو مجال البحث الفلسفي الاجتماعي في علاقات قوى الدين والمال والعلم. ولم يكن مشغولاً بسؤال الماضي وإنما بسؤال المستقبل الذي حاول تأسيسه وتأصيله.
البطل الفنان
بطل الرواية “حليم” فنان حالم، وعالم ومفكر، وصاحب رؤية مستقبلية تفتش عن الكمال الممكن للوجود، لم تعجبه المدنيات القديمة لأن حقوق الضعفاء فيها مهضومة، ولا المدنيات الحديثة لأنها جعلت الحياة عراكاً هائلاً بين الناس، وقد وجد في فن الرسم ما يصوغ به رؤاه للمستقبل، فحقق شهرة بين أقرانه، لكنه لم يقتنع وأخذ يجوب العالم بحثا عن “يوتوبيا” جديدة للإنسانية التي لم يكف عن الحلم بها والتي أسهم في صنع تجربتها الأولى في الصفحة الأخيرة من الرواية بعد الدمار الذي أحدثه التعصب بالمدن الثلاث، وهذا الفنان يتنكر أحيانا وراء شخصية مستعارة هي شخصية “جميل” الذي تفضي دلالاته إلى عالم الجمال عندما بدأ الرحيل إلى المدن الثلاث بحثاً عن بداية لتحقيق حلمه في جنة أرضية، وقد جمعت مدينة الدين كل من لا يرى شيئاً في الكون سواه، والعلم رأى أنه هو المفتاح الوحيد لحل مشكلات الوجود، ووصلت مدينة المال بين الذين آمنوا بأن الثروة هي عصب الحياة، ثم بدأ الانقسام الذي أدى إلى تباعد المدن، وانتقلت العلاقة من الحوار إلى الصراع والنزاع فكل أهل مدينة لا يرون إلا أنفسهم، مع أن الله يشرق بشمسه على الأخيار والأشرار، ومن ثم وجب على الإنسان أن يتشبه به ولا يضيق لأن ما يطلبه من غيره هو النقص أو التقصير الذي يشترك فيه الجميع لا المعتقدات التي تختلف من شخص إلى آخر.
الرواية
بدأت كارثة المدن الثلاث لما أنكرت مبدا التسامح، واستبدال المرونة بالتسلط، فتعصبت كل مدينة لما عندها ونظرت من عل بريبة نحو الآخر فكانت بذرة الدمار التي ذهبت بالجميع، كانت الثروة هي أصل الفساد، وتجاهل رجال المال للمطالب العادلة لعمالهم، وكانت الشرارة هي التي أهاجها تحالف تجار الدين مع كبار المستغلين حتى تزايدت النار وصارت بركاناً صار يعصف بالجميع، لأن الخراب هو النهاية الحتمية للتعصب الذي لابد أن يقضي على الجميع والتبعة واقعة على الكل بلا استثناء، وكان فيما همس به الشيخ الرئيس لابنته قبل أن يودع الحياة مع من ودعوها نبوءة بذلك المآل، وكأنه وهو يتحدث إليها يلقي علينا بالدرس الذي يجب أن نتعلمه وهو التعصب نتيجته الدمار إذا تسلط على عقول الجميع.
لا ينجو من الدمار سوى الفنان “حليم” وصديقه والفتيات الجميلات اللائي كن تجسيداً للجمال الإنساني، كما لو أنه رأى ان المستقبل للإنسانية الجديدة هو فرع من ائتلاف الفن والحياة، تنتهي الرواية بإشراقة دالة على وعود فجر جديد، فيتزوج حليم من فتاته وهي الأخرى فنانة ويتولى معها ومع قريناتها اللائي تزوجن من أصحابه بناء المدن المدمرة تكفيراً عن سيئات التعصب القديم، ويعيشون حياة يحسدهم عليها أهل العصر الذهبي هي المعيشة الفردوسية، وفي ذلك إشارة إلى اليوتوبيا التي لم تكف عن مخايلتها لكاتبنا فرح أنطون الذي رأى أبعاداً متعددة للتسامح في الدين على أسس المجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التفتيش في ضمائر الناس، أو شق صدورهم، واحترام المخالفة في الاجتهاد، وعدم الخلط بين المخالفة في الرأي والخروج على الدين، وتقبل المغايرة في الملة، والاختلاف في المذاهب، فالدين أصل الحضارة والمنبع الأول لكل صور التسامح. كما رأى العلم مقترناً بالمعنى الخلاق للابتكار، حيث التقدم مرهون بالمغايرة، والابداع مقرون بالاختلاف، واللاحق لا يتقدم إلا بالانطلاق من حيث انتهى السابق على سبيل الإبداع وليس الاتباع، وفي المال فإن علاقة صاحب المال بالعمال والعكس، أو علاقة الطرفين ببقية طوائف وفئات المجتمع لا فضل لأحد فيها على أحد إلا بما يؤكد انسانيته السمحة
أحلام الشيخ الرئيس
في أزمة المدن الثلاث قدم الشيخ الرئيس مقترحات لحل النزاع، فدعا إلى زيادة الرواتب، وتحديد الحد الأدنى للأجور، وتحديد ساعات العمل، وإنشاء صندوق لرعاية العمال عند التقاعد، وفرض الضرائب المتدرجة، وتوظيف عوائدها في النفع والصالح العام، ونشر التعليم المجاني لكن ما اقترحه ذهب سدى وهو يقف بين أبنائه كالمنارة الهاوية التي أضاعوها، وهو لا يمل يطلب منهم مراعاة التساهل والاعتدال، وألا يقولوا السوء لأن الإنسان يستطيع أن يصرح بأدب ولطف بكل ما توجب عليه مصلحته التصريح به دونما تقليل لأحد، ولن يفيد التسامح الديني الناس إذا ظل التعصب موجوداً في بقية الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويظل يؤكد على التسامح لأنه يراه الضربة القاضية على الحيوانية والأثرة والأنانية، ويحذر من أهل التقليد، وأصحاب الأفق الحاقد الذين يسارعون إلى تكفير المرء إذا اختلف معهم في التأويل الديني، أو اتهامه بالخيانة إذا خالفهم في الاجتهاد السياسي، أو الضلالة إذا خرج عليهم في السلوك الاجتماعي. وفي خطابه إلى رجال الدين يقول إنه يحسن بخدام الله أن يكونوا هم البادئين بإقامة مملكة التسامح وقتل روح التعصب.
يقول الشيخ الرئيس إن الوفاق في بلادنا لا يمكن أن يكون إلا بمراعاة الوسط الجديد الذي صرنا فيه، لأن الوسط الماضي قد تغير علمياً واجتماعياً وسياسياً وهذا الوسط لابد وأن تجتمع فيه جميع المذاهب والآراء، وبناء على ذلك لا سبيل لدوام الوفاق إلا بإطلاق الحرية المغلقة على جميع المذاهب والآراء والمبادئ والأفكار من أي نوع كانت ولم تكن هناك شهوة دينية تحركها تتفق وغرض واحد وهي تتجه إلى الخير ومحاربة الشرور في أي مظهر.
هكذا كتب “فرح أنطون” روايته التي انطوت على جمال الصراع في الأفكار، ورمزية صياغة المجردات، وبلاغة العبارة عن القضايا الشائكة، فوضع الرواية وقارئها على أول الطريق الذي يمزج فيه بين الفكر الفني والحقيقة بالمجاز وتمضي الرواية إلى عوالم الفاعل الجمالي الخصيب للفكر الجسور بمناظراتها الفكرية، والمجادلات بين الاتجاهات حتى كثر فيها الحوار على الوصف، وتضاءل السرد لطغيان الحوار الفكري الذي ظل يؤرق الكاتب وهو يحلم بأمنياته الاشتراكية التي تشبه اليوتوبيا.
مراجع
- مقدمة بقلم د / جابر عصفور عن الرواية وكاتبها منشورة مع الرواية التي أعيد طبعها عام 1995م ضمن مهرجان القراءة للجميع
- ويكيبديا
- كتابات متفرقة حول الرواية وفرح أنطون