ذكرى بائسة

يشغلني حديث الذكريات، ويطربني تأمل الماضي بآلامه وآماله حتى إنني أسترسل معه فأنتقل من دنياي الضيقة هذه إلى دنيا أرحبَ وأوسع، ويحلو لي أن أعود إليه لمجرد القَصص حيناً وللتأمل أحياناً، ولولا أن الكلام يُعاد لنفد، لعل ذلك هروبٌ من واقعٍ أليمٍ أمقته، أو يأسٌ من مستقبل مخوف أراه ظلماتٍ بعضها فوق بعض، أو هو مجرّد حنينٍ إلى عهدٍ كنت أبكي فيه منه والآن أبكي عليه، ربما يكون بعض ذلك وربما يكون ذلك كله.. لا أدري.

أزعم أن ذاكرتي حادّة ولكنها غريبة، حادةٌ تأتيني بأشياءَ نسيتُها ثم نسيت أنِّي نسيتُها، وغريبةٌ تُعيد أحزان الماضي وأنا في أحلك الأوقات وأشد الأزمات كأن ما أنا فيه لا يكفيها! وجديرٌ بي أن أحمد الله على حِدَّتها وأسأله السلامة من انتقائها، وأنا بين هذا وذاك لا أقطع بتفاصيل الذكرى على سبيل الجزم وإنما هو تسديد ومقاربة، فالشك أحياناً أول طريق اليقين، وإن كان لا بُدَّ من عَلاقة شبه حتمية بين الثبات الوثوقيِّ لصاحب رأي في رأيه وبين الجهل والغباء فتوشك أن تكون عَلاقة طردية؛ لأن العاقل يشهد أنه ناقص، والكمال لله وحده ” وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ”.

وإليك يا قارئي العزيز موقفين حدثا في المرحلة الابتدائية وما زال صداهما يتردد في أذني ويبعثان في قلبي الضحك والحزن معاً أو هو “ضحك كالبكاء” على قول أبي الطيب في البلد الطيب مصر.

الموقف الأول وأنا أقرأ أمام المعلمةِ الآيةَ الكريمةَ “تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ”، فسألتني جادّةً غير هازلة ولا هازئة: “لماذا قلتَ: أبِي لهب، أهو أبوك؟” فأجبتُها بالنفي، فقالت: “اقرأها أبا لهب حتى وإن كُتِبتْ بالياء” فقرأتُها بالألف وأنا أنظر إلى عصاها الغليظة وأنتظر التأنيب والتأديب، ثم ألقيتُ ما كنت أحفظ في أقرب ترعة مجاورة للمدرسة، وعاتبتُ أبي الحقيقيَّ الذي أساء إلىَّ وإلى نفسه حين حفّظَني “أبِي لهب”، وكيف لقارئ الإذاعة لم يفرّق بين أبيه وبين عَبْدِ العزَّى بن عَبْدِ المُطَّلِبِ!

مرّت السنوات ولم يدُرْ بخَلَدِي أن هذه الثقة التي تكلمتْ بها نابعةٌ من لا شيء ومستندةٌ إلى جدار يريد أن ينقضَّ حتى حكم الزمن حكمه وتجاوزنا العام بما فيه من خير وشر، وعرَفت الحق والحقُّ أحقُّ أن يُتّبَع فلا أساء أبي ولا أخطأ قُرّاءُ الإذاعة وحاشاهم لكنَّ المعلمة قررت أن تذهب الأسماء الخمسة إلى الجحيم وطاوعتُها خوفاً وقهراً، والذي لفت نظري وجعل الموقف جديراً بالتأمل الآن وغداً وكل يوم هو ثقتها البالغة في نفسها وهي تردُّ قراءتي، واستعدادها لمعاقبتي لمجرد أنها صاحبة سُلطة وعصا لا صاحبة علم أو حجة.

الموقف الثاني أدهى وأمَرّ، ويهون معه كل فادح، لكن المساحة المتاحة قد نفدت، ربما أؤجله إلى المقال القادم.. أو إلى الأبد، لا أدري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *