ميزان أبي
.
اعتاد واعتدت…….
علمني الحكمة، فلا أثور ولا يعلو صوتي؛ ولا أشكو من شيء إلى غيره؛ لكن إخوتي كانوا يثورون ولا يهدأون إلا بعد أن يكون الجيران قد عرفوا عنهم أسرارنا؛ لم يكن يصيح فيهم أو يراجعهم أو حتى يعاتبهم، ولم أكن أغضب عندما يراني فيراجعني بذنوبهم، كنت أضحك ساخراً في نفسي كلما استدعاني؛ وأظل على دهشتي منهم ومنه حتى يعاودون ويعاود، لم أكن أتذمر، كما لم أعقد في أي مرة مقارنة بيني وبينهم، ولا حتى اهتممت فسألت نفسي لماذا يُحمِّلني كل ذنوبهم؟!
علمني أبي القناعة، فأرضى بما يضعه أمامي وقت أن تضمنا “طبلية” العشاء، لكن عيني كانت تسبقني فأردها خجلاً فأرى نصيبي كالعادة أقل من أنصبة إخوتي، كان الصمت لغتي وأنا أطيل من زمن جلوسي في مكاني، ولا أنتهي إلا بعد أن يكونوا قد أجهزوا على ما تحت أيديهم، ثم ينبرون فيمدونها ليتخطفوا مني ما تبقى من نصيبي، وكنت أنتظر أن يزعق فيهم بآية من آياته فيردهم حتى لا يجورون، لكنه لم يكن يهتم إلا بالنظر لي، فأرى في وجهه كل آيات غضبه، فأخفض رأسي، وأكبح نظري، ولا أعترض، فقط كنت أضحك في نفسي ساخراً، وأنا أقوم لأغسل يدي من أديم الطعام، وأحرص كعادتي على نظافة فمي فيظل معطراً برائحة الصابون التي تشبه رائحة الورود التي أعشقها والتي ضاق من جذورها الأصيص القديم.
ألزمني أبي مساراً لا أحيده إلى غيره، وشدد غير مرة أن ألتزم بأمره فلا أتوه، لكن إخوتي جميعاً كانت لهم طرقهم ومساراتهم المتشعبة، كانوا يذهبون ويعودون دون أن يضلوا في أي مرة الطريق، كما كانوا قادرين على وصل مسالكهم بدربي، لكن أبي الذي كان يزعجه إن خالفته في صغيرة من التوافه العابرة لم يراجعهم ولم يعب عليهم أفعالهم أو عصيانهم له، كنت في حيرتي منه ومنهم، فأعود لأضحك في نفسي ساخراً حتى يعاودون ويعاود وأنا أحتشد لفاصل جديد من تلك الفصول المتكررة.
أمرني أبي ألا أنظر في أشياء غيري فأرضى بمصروفي الذي يقرره، وكان لا يتورع في مرات كثيرة من تقليله لصالح شقيق أو شقيقة، حتى وصل به الحال في بعض المرات إلى منعه تماماً، وحرماني من أجلهم، لم أكن أهتم ولم أسع إلى مراجعته أو معاتبته، فقط كنت أضحك ساخراً وأنا أنظر إلى يديه الاثنتين متسائلاً: كيف تبسط بيد وتقتر بأخرى، ولما كانت الإجابة تعييني كنت أنظر في وجهه، ثم أعود ضاحكاً بسخريتي التي اعتدتها وأنا أرى اخوتي يسرفون وهم يصرفون، وكان أبي لا يتورع في كسر حصالتي، وتوزيع مدخراتي عليهم، وكنت أعاود الضحك والسخرية وأنا أتعجب من قليلي الذي يغريهم جميعاً، فيرونه أكثر مما في أيديهم، فلا يتحرجون في الطلب أو السؤال، وكنت كعادتي أضحك في نفسي حتى نبتت بذور الحنظل دون أن يصلها ماء في أصيص الورد العتيق!
عاش أبي كهولته وشيخوخته، ولما غزاه المرض تحججوا كلهم، فاتكأت على ما معي فلم تمتد يدي، ولم يمدوا أيديهم بالمساعدة.
في المساءات كانوا يتحلقون حول سريره وكان لا يتأخر فيرفع يده بالدعاء لهم، بينما أنا منهمك في ترتيب فراشه، وتنظيف مرحاضه؛ وكنت أعجب أنه يذكرهم جميعاً دوني وهو يدعو ويلح في الدعاء، ولم أكن أملك إلا الضحك ساخراً، فيغادرني سقمي، وأبرأ من كل أدراني، وأعود جديداً، بينما يظلوا هم على أحوالهم!
عندما أوصى أبي، أوصى لهم جميعاً ولم تشملني بالطبع قائمته، سرت إليه وأنا أضحك في سري ساخراً، ولما اقتربت منه وجدته مثلي يضحك ساخراً، اقتربت منه فمد يده وأمسك بيدي وشدني إليه، وأصبحت في حيرة لما وضع الأخرى فوق رأسي وانساب لسانه في الدعاء، بالرغم مني رفعت رأسي فرأيت وجهه من جديد، وددت لو أطلت النظر لكنه قطع حيرتي، وزاد من دهشتي وهو يناولني ميزاناً قديماً ضاعت كفتاه!.