المسافِر راح

ياضِيّاع أصواتِنا في المَدى والرّيح..
لكنّه الشّوق، أحيانا نُنادِي ونُلوّح رُغم اللّاجَدوى، تُعشّشُ إلى الآن في ذاكِرتِي طرِيقَنَا الطّويل وسيّارَة المرسِدس التي تُجابِه رِيح الأجواء وصَمت الظّهيرة، تمضِي سَريعة سُرعة لا تسمح لي بالتقاطِ كلّ الصور التي أراها وأنا أُسنِد رأسي للنّافِذة، وحدَها المُوسيقى تمشِي الهوينا، وحدَها كلمات راشِد الماجِد وهو يطلُب المُستحيل تَعلَقُ بالذّاكرة: لا تلوح للمسافر!
أحبّ المرسدس190 إلى الآن، وأحبّ أبو بكر سالم وَالْمُسَافَر، لَم أنسَ الأسفَار كنتُ أحبّها في صميمِ الصّيف، وفي ظلّ الشّتاء، يَمزحُ أخِي يُقلّد لهجة الماجِد الخليجية الگيتار فاتنا! يقصِد أخي القيثارة ويقصِد راشد الماجد القِطار، أمّا أنا لا أخشَى شيئا أن يفوتني، ظِلال عمَامة سوداء تُطوّقُ مخاوِفي، يصمُت أبِي لا يتحدث كثيرا في الطّريق، أورَثنِي تِلك الصّفة، السّفرُ للتأمّل !كيفَ لِمن ينام أو يثرثر كثيرا أن يُدرِك لُغة الطّرقات، الذين يصمتون تهبهم الأرض فُرصة لمسِ السّراب!…يُصمّمُ راشِد على طلباته المُستحيلة :لاتنادِي للمسافِر!
ويستمّر سفرنا الطّويل، تتصاعدُ أحيانا طقطقة حبّات السُّبحة، لا يكفّ عن الذّكر، أعرِف أنّه لَم ينَم، نصِل المدينة الأخرى أحيانا مع حلول الظّلام، يكون أبو بكر سالِم حينها مُستعدّا لبِداية غناء ما يهزك ريح يا مركب هوانا، في ما يتناسب وجوّ المدينة الأخرى من نَسمَات بارِدة ومراكِب البَحر وتلويحات صيّادٍ ما…
لا أسمَحُ للكلمات أن تخرُج من ذِهني، وإن غادَرت ألحانها مُسجّلَ السّيارة، أثبِت عيناي جيّدا في زجاج السّيارة البارِد، وأتخّيلُ سفَر العُيون، لمّا كانت لِي عُيُون …!أتأمّل وأتخيّل حتّى تنام أنوار الشّوارع…

سَافَرَت كلَ الأشياء على حِينِ غَفلَة منّا، توالى المُسافِرون تِباعا، أبِي والمرسدس وكاتِب الأغنية بَدر، الأغنية ذاتها ارتدت جناحا وطَارت…استطَعتُ أن أدرِك معنى رَحيل العُيون، لمّا كانت لي عُيون…لم أعُد أتأمّل الطّرقات، وأغنيات الطّريق مهما علا صوتُها تظلّ خافِتة في أذنِي بِلا صوت، صامِتة كلّ الأشياء، لا تلوح للمسافِر، لاتنادِي للمسافِر، كانت صادِقة…كانت الكلمات حينها أعمَقَ منّي، كنتُ أخاله القِطار أو مزحة أخي الگيتار! كُنت صغيرة تتسلّقُ خُيوطَ الزّمَن لكي تَهِيم في المَعانِي، ومَضى القِطار الذي حين مَضَى خطَف معَهُ الأمَان، وأفِلت بعد رحِيله النّجوم وتبخّرت الأطياف، قال راشِد وانطَفَا ضيّ الحُرُوف، أهرُب مِن كلِماتِه لِكي لايُدرِكني ظلامُ الشّوارِع، أنا لا قنادِيل عندي أهتدِي بِها لكي أستحضِر طيفَه سِوى الحُروف، أنا التي خبّأتُ أبِي في ورقة …