على مَتنِ التّفاصِيل. نوستالجيا الجزء ٢

على البَال كلّ التّفاصِيل، يتصادى صوت فنّان العَرب، نسِير في المَساء حِينما تأفل الشّمس، تَبدو السَّماء حُرّة.

لحظات قُبيل حلول الظّلام، أنظُر إلى النّافذة، أنا كالسّماء أيضا أستَشعِر لحظات الحُريّة، ضَفيرة مائِلة كما أُحِب وأتخلَّصُ بِذلك من الوقوف في الطّابور الصّباحي وتَسريحة الشّعرِ الكلاسِيكيّة، أُمِيلها لليمين تارَة ولليسار تارَة، الرِّحلة قصِيرة لكنّ السّفَر عبر مُخيّلتي طويل، لا أرى الطّرِيق منذ طفولتي لا أرى الطّرِيق، أرسُم طُرُقا أخرى، أسلُكها وحدِي، تتراءَى لِعيني المُدُن التي أُحِب، أمطَارٌ مِن البَنفسَج وجَداوِل ماء زَهر، نصِل إلى أرض خالِية، أرض التّأمّل، بَراح السَّكِينة، مُستَراح المُتعَب ومَلاذ أنصارِ العُزلة، تُركَن المرسدس 190 جانِبا دون أن يتوقّف محمّد عبده عن الغناء، كلّ مانسنس من الغَربِ هبوبي، حمّل النّسمة سَلام، يشدّني لَحن هذه الأغنية دائمًا، ترنِيمة سَلام قادِمة من بعِيد، أحبّ سماعها، يذكُر في أغنيّتِه سُهيل، وإن لَمَحت سهيل، أتذكَّرُ حِكايات أمّي عن النّجوم، الثّريّا وسُهيل، الشّامِيّة واليَمانِي، وتِكرارها أبيات عمرو ابن أبي ربيعة، يقول عمَّرَك اللّه كيف يلتقيان؟ كيف تلتقي ثريّا الشّاميّة وسُهيل اليَماني، كَيف تلتَقِي كلّ الأشياء المُتباعِدة؟ عبرَ المُخيّلة ربّما، ولِي خَيال يخلُق طُرقا لم تَهتَدِي إليها هندسة الطّرق بعد، أزفّ الثّريّا إلى سُهَيل مُتجاهلة كلّ الأبعاد…
مُنيتي ليتَك مَعِي، يتفَرَّدُ أبو نورة بِقولِها، أتشَاجر مع أخِي دائمًا، أنكُر دروس الفلسفة التي علّمني إيّاها، وقصائد درويش الذي أخشى ذِكره هامشًا في نَصّ لأنّه في حِكايتِنا البَطل، وأثِق في ذوقه المُوسيقي أعترِف بذلك، مُطرِب الحيّ الذي أَطرَب بِأعجوبة، لكنّ على البَال كلّ التّفاصيل أدقّ وصفا، وأحلى التّفاصِيل، تمامًا كما نطقها فنّان العَرَب، زُرقة السّماء، دِفئ الجو وإن كان الفصل شِتاء، والسِّلهام البُنّي، ناسِك في حَدِيثِه، لِسان رطب من ذِكر الله وصَوت سُبحة لا يتوقف، يُحبّ سَماع حديثي، الطرائِف التي أحفظها خصيصا لِكي أُضحِكه مساءً، قال إنني أحيانا أشبه طائِر البُشرى، يضحَك إخوتي لقوله الكلمة بالأمازيغية، أمّا أنا فأحببت الاسم، أخبرت به كل من التقيت، يمرّ مساءنا هادئًا، نَحتسي شاي البَرّ، نتبادل الأحاديث… ياقلبَها قلبي، فريدة هي الأخرى بصوتِه، والحِلّ والتِّرحال، أمّا الحِلّ هنا فقدِ انتهَى، أمّا التِّرحال فأسهَلُه السَّفر والتَّنقّل، وأَصعَبه تِرحال الذِّكريات، جمع أَصدافِها من الأَمكِنة التّي حلّت بها التّفاصيل يوماً، ذاك الجَبل وقفتُ فوقه مرّة، حُرّة كما اعتَقدت سابِقاً، لكنّني قايَضتُ في أشياء ماعادت أسواق تجارتِها مُتاحة، أَهَبُ حريّة اختيارِ تسريحات شَعري، مُقابِل لحظة خاطِفة أستَعيد بها التّسريحة الكلاسِيكية، وكلّ معاطِفي مُقابِل رُقعَة ثوبٍ من السّلهام البُنّي. النّظرة هي المَكسورة والبَسمة هي المَقهورة يُتمم محمّد عبده…