الخبيزة،النّبات المُقدّس!

لم تتواطأ نبتة الخبيزة مع الذين وقفوا عاجزين عن إدخال كسرة خبز للقطاع، بل انبثقت من الأرض واهبة نفسها بوفرة لمن أنهك الجوع ما تبقى من أجسادهم التي اخترقها الألم من كل الجهات، برا وجوا، رصاصا وحزنا ودمارا، ثم نهش العجز قلوبهم مليا!
تمر بك قبل الحرب عربات البائعين المحملة بحزم البقولة ثم تمضي عنها خالي البال، دون أن تعتريك فكرة واحدة، فم الذي يمكن أن يستوقف المرء عند رؤية نباتات أو خضر تباع؟ لكنك الآن تستطيع الإجابة حينما تعلم أن نبتة سدت رمق من أذبلك التفكير به وتأنيب الضمير وأنت تشعر بالرهبة حينما تمد يدك لتتناول وجبة ما، الآن تدرك أن كل شيء وإن كان لا يمتلك يدا هرع ليمد أطراف أو جذور المساعدة بينما عجزت أزيد من مليار يد أن تمتد للعون…
لم أجرب طعم البقولة إلا قبل الحرب بأشهر قليلة بعدما أقنعتني صديقة أن أتناولها، ثم شاء القدر أن أتذوق تلك النبتة المباركة، نبتة الجنة التي تعرف أهل تلك الأرض جيدا، وتخبئ في أكنافها ذويهم ريثما التحقوا هم بهم.
لكننا حينما نتحدث عن مكانة الخبيزة في فلسطين فلا يشبه الأمر بذلك مكانتها في بلادي أو بلادك، إنها علاقة سنوات بعيدة المدى، علاقة تراث وارتباط بالوطن، عن حيفا وعن أرض سميت بها قرية باسم “الخبيزة”، علاقة ليست وليدة اللحظة قطعا ولم تنشأ عند العجز أو الحاجة التي خلفتها الحرب، بل تبلورت في الذاكرة مرتبطة بمواسم الفرح لا بالحزن، بالاجتماع لا التفكك وفي سنوات كان شتاءها دافئ على أهل غزة وفلسطين حيث كانت النسوة ترددن الأغنيات والألحان والأمثال الشعبية أثناء القطف، وأخال أن الأماكن التي كانت تقتطف بها الخبيزة لا زالت تحمل صدى إحداهن وهي تغني: ” عزمتني عالعشا وتاري العشا خبيزة”! وصوت أخرى وهي تقول: “خبيزة واللبن يكثر”، فتخبئ الأماكن أصوات غنائهن وتحفظ أطياف كل واحدة حتى تنتهي الحرب لتعيد لهن بحة أصواتهن وعزومة العشاء المنسي واللبن الذي كثر بعد نفاذه طيلة الحرب فذاكرة الأماكن أقوى من ذاكرة البشر…
إن في وضع قوت هؤلاء الأبطال في نبتة تخرج من باطن الأرض حكمة، ورسالة لإنسانية واهنة وخرائب جيوش لا تستحق أن يولى إليها أمر إطعام جائع وذلك أضعف الإيمان، ولو تأمل العاقل في الحوادث عبر الزمن لوجد حكمته -سبحانه وتعالى- تتجلى عبر وسائط الأمور بل وأقلها شأنا أحيانا، فالنخلة التي أطعمت السيدة مريم والغراب الذي علم الإنسان والبعوضة التي أهلكت النمرود إلى الخبيزة التي أطعمت أناسا أبى أهلهم أن يطعموهم…
فتقول سيدة فلسطينية نازحة في هذا الصدد عبر محطة تلفزيونية وهي تعد الغذاء، قامت الخبيزة بما عجز عنه جيوش العرب والعالم، فادتنا أكثر من جيوش العالم ولربما تختصر جملتها هذه أسطرا من الكتابة وشرائط طويلة من التفسير والتصوير والشرح، لذلك فالأمور جميعها تغيرت وحال الأمة قبل الحرب ليس كحالها بعد الحرب، وكذلك الشأن بالنسبة لمرورنا أمام عربة تباع بها الخبيزة، هذه المرة تحتم علينا أن ننحني لها تقديرا عن فعلها ما لم نفعل أو بعبارة نحبها وتزيح العبء عن كاهلنا قليلا: في فعلها ما لم نستطع إليه سبيلا…!