تحديّات الجيل الجديد

وصلت اليوم الى الكلّية مبكّرا في الصباح الباهر. والطقس ممزوجا من البرد والحرّفي موسم الربيع. تقع أبنية الكلّية شائقة عريقة حافلة بالتاريخ في وسط حديقة خلّابة. وبها أزهار متنوّعة الأشكال والألوان. وأشجارها عالية مع أثمار يانعة طازجة. وعلى أغصانها عصافير مغرّدة مختلفة الألحان الشجيّة. والطلّاب دائما يجري ويمرح في مروجها الخضراء تحت أشعّة الشمس الذهبيّة، مظاهر خلق الله تعالى البديع وقدرته. كنت جالسا في مكتبي الخاص في بهجة وسرور في هذه الحالة المنعشة في سكوت الصباح الباكر. ولم يدخل الطلاب والأساتذة الى رحاب الكلّية حتى الآن ولم أزل أكتب في وصف الكون ما جرى في خاطري من الالهامات والنزعات من جمال هذا الصباح حتى الساعة التاسعة.

وما ان اتنتقلت الى مهمّاتي والتقطت بضعة الأوراق المهمّة اذ جاء ني الناطور وأخبرني أنّ رجلا يستأذن لزيارتي فأذنته. دخل رجل  نحيل شاحب  في الخمسينيّات على ما ظننت. وكان ذاهلا واجما مرتبكا ويأدّي أقصى احترام لي. لم أتذكّره كيفما حاولت، وعصرت ذاكرتي ولم أنجح. حينما كنت في حيرة قليلة اذ أسرع اليّ الناطور لعوني وأخبرني أنّ هذا الرجل والد ذالك الطالب الذي يواجه إجراءات تأديبيّة منذ أسبوعين. ولمحت برقا خاطفا في خاطري عن الطالب الذي تمّ القبض عليه اثر سلوك غير صالح وسبّبت صراخا هتافا بين الطلّاب.

ومع الأسف، دهشت كيف يكون ابن هذا الرجل الضئيل الكئيب مشاركا في الحادثة التافهة التي انتهت في تعليقه. على كلّ حال طلبت من الناطور أن يحضر لي المحفوظات والشكاوى ضدّه. التمست من الرجل بيانا عن تصرّفات ابنه وموقفه تجاه العائلة والأقرباء. تردّد قليلا ولكن بعد اصراري بدأ أن يقول: ” أنا بائع في متجر صغير حيث أعمل صباح مساء وزوجتي تشتغل في بيوت الأغنياء طبّاخة. وهي تطهي الأطعمة وتغسل الصحون والأقمشة وتربّي الأطفال، ولكنّ المال في أيدينا لم يكن كافيا والمعيشة كانت باهظة التكلفة للغاية”. يكاد يبكي ويصرخ أنّ له أربعة أطفال، ابنان وابنتان وعلى عاتقه عبئ أسرة كبيرة، وحياته في شدّة. “ولم أكشف قطّ عن صعوباتي الى الأطفال حتى لا يضطربوا ولا يحزنوا. والزوجة أيضا كرهت أن يدرك الأطفال عن فقرهم وعدمهم. وهي دائما تذكّرني في تثقيف الأطفال في أقصى وسعهما. هكذا الولد الأكبر أتقن دراسته في الصفّ الثاني عشرة مع علامات عالية وامتياز. رغبت أن يدخل في بعض المتاجر كما أنا، بل الزوجة حالت دوننا وألحّتني في التحاقه بالكلّية. ولم أسترح بعد، طالت لي عمليّة حسابيّة عن تكليفات الكلّية والرسوم الجامعيّة. وأصبحت أبا لطالب جامعيّ وشاركت زوجتي هذه الأخبار السّارّة مع العائلات التي تزورها للخدمة. ووعدوا مالا ومساعدة لاكمال دراسته كما دعوا للتوفيق من الله.”

وهو الآن في رجاء وثقة في أنّي سأصفح لابنه على ما حدث. وينتظر من ثغري بما ينتظر الظمآن لشرب ماء. وكان الرجل يعتذر مرارا حتى يكون ذاهلا متعبا، وفي هذا الفراغ سألته عمّا يعرف عن حالة ابنه في الكلّية ومستوى علاماته في الامتحانات الفصليّة والجامعيّة وما هي انجازاته الدراسيّة وغير الدراسيّة. ولم يتكلّم قطّ ولم يكن لديه أيّ المام عن هذه الامور. منعتني الدموع المنحدرة عل خدّيه من الاسئلة. فات الوقت في هذا المأزق. وفي هذا الأثناء جاءني الموظّف وذكرّني عن النّدوة الوطنيّة مقرّرة، وأنّ المنظّمين ينتظرونني. لا بدّ لي أن أخرج، ونظرت الى الرجل في التعاطف والحنان وأخبرته عن حاجتي للخروج. مشيت الى قاعة الندوة والموظّف ورائي. سرعان ما فكّرت لم أتعهّد بعد لالقاء خطبة افتتاحيّة في الندوة. ولم أر بدّا الّا أن أتراكم بعض الملاحظات التي تحيط موضوع الندوة، بل الوقت ضيّق. وكان ذهني خال الوفاض كما كان قلبي مقلقا ومضايقا. دخلت القاعة ولفتت انتباهي لوحة ملوّنة مكتوبة عليها عنوان الندوة وهي: “تحديّات  الجيل الجديد”. جلست على المقعد المخصّص لي.

القاعة مملوئة بالطلّاب والطالبات وعلى المنصّة شخصيّات بارزة من مختلف مناحي الأكاديميّة. نظرت الى أعين الطّلّاب واحدا واحدا حتى شعرت مع أنّهم في شرخ الشّباب وهم في  انهيار آمالهم وفقدوا حماستهم وأصابهم اليأس والاحباط. كما شعرت، في الحقيقة،  أنّ لهم آمال وأمنيّات وحبّ استطلاع. وهم ينظرون الى البعيد في حدّ ذاتهم. وعائلتهم تنتظر أوبتهم في تقديم حمايتهم وعونهم الى حدّ كبير. والمجتمع أيضا يجبر عليهم نصيبا وافرا. وهم مشدودون ومقيّدون بعمرهم وجيلهم ويحاولون محاولة جادّة صادقة ليخرجوا أنفسهم من حبال المجتمع الفاسدة وشدائده. ألآن أحسست بعزاء وركّزت في ذهني بعض والملحوظات والأفكار عن موضوع الندوة.

حان وقت خطبة افتتاحيّة وبدت النقاط تظهر أمامي. بعد الحمد والصلا ة والتحيّة بادرت قولي في مدح الشّبّان والشّباب. وهم يخالطون فيما بينهم مع أنّهم ينتمون الى مختلف الأسر والخلفيّات الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. يتعلّم الطالب فنّ الحياة من البيئة أكثر ممّا يتعلّم من الدّروس. وحكيت لهم بعض الحوادث التي مضت في واقع حياتي في الأيّام الجامعيّة، وذكريّات تلك الأيّام الغابرة لا تمحوها الشهور والأعوام مهما طالت. ما أحلاها وأجملها. ولكن ذكّرتهم أنّ الذكريّات لم تكن دائما عذبة الّا اذا لم ينجح الانسان في تحقيق امنيّاته وقضاء مسؤوليّاته. والحياة الجامعيّة فرصة رائعة لإثبات الكثير من التميّز والابداع. وعلى الطالب الذي يعي مصلحته جيّدا أن يحرص على هذا التميّز بكلّ ما يملك من قوّة وبكلّ ما لديه من شبابه واندفاعه. وليست الدراسة الجامعيّة لقرائة النصوص واجتياز الامتحانات فحسب، وانّما هي لإعداد المستقبل والاستزادة من العلم والمعرفة والتجربة. وفي كلّ خطوة يسير الطالب ويدنو إلى مصيرته في حياته. وهودائما يصمّم حياته متأثّرا بحياة الآخرين وخبراتهم الواقعيّة ومعاناتهم الشخصيّة. الانطوائية لدى الشباب تعتبر ظاهرة اجتماعية معقدة تستدعي فهمًا عميقًا لعوامل متعددة تشمل النفسية والاجتماعية. وهم يواجهون تحديات فريدة تتطلب فهمًا دقيقًا ودعمًا فعّالًا. الانطوائية تتجلى عادة في تجنب المشاركة الاجتماعية والحلّ الوحيد لمعالجة هذه القضية، هو تعزيز الوعي الذاتي لدى الشباب والتشجيع على تطوير مهارات اجتماعية والتفاعل مع الآخرين بطرق إيجابية.

عالجت قضايا الشباب ومشكلات المجتمع وواقع الحياة الانسانيّة طوال خطبتي. واقتبست آراء العلماء والفقهاء وخواطرهم حول البشريّة والحياة. ضمن هذه الهتافات في الحياة  نحن في حاجة ماسّة لمتابعة أشخاص نثق بهم ليقودنا ويهدينا ويزكّينا في مواقف شتّى تهمّنا، والذين يقيمون بدوورهم القيادي في نموّنا وتطوّرنا. ولا أذكر تماما بقية ما قلت عن الموضوع.

وما ان أتممت كلامي حتى أسرعت الى مكتبي حيت ينتظر الرجل أوبتي. وهو يذرف دموعا قليلة يحاول إخفاءها. واعتذر لي عن ابنه عمّا حدث ووعدني بعدم تكراره. وكان واضحا أنّه نادم على ما جرى وخطف يديّ وقبّلها معتذرا. وهو متأثّرا بتفكير خاطئ أنّني الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ ولده من هذا المأزق، ولا يدري الاجراءات القانونيّة لإعادة قبول الطالب بعد تعليقه. ولم تكن عندي وسيلة لأواسيه واهمال  ايقاف ولده مباشرا. وعليّ أن أننتظر قرارا نهائيّا من قبل الهيئة الاداريّة الكلّية. اضطرب قلبي وتنهدر الدموع من عينيّ ومسحتها فورا بأكمامي لأن لا يشاهدها أحد.

بعد طول التفكير أذنت الرجل ليغادر المكان لعلّني أتحدّث الى الطالب. بعد مغادرته لاحت في خاطري فكرة بديعة وظهر في قلبي نور جديد ووقع في نفسي حلّا مثاليّا.طلبت من مأدّب الطالب أن يحضر أمامي مع الطالب مساء.