التفكير داخل الصندوق وخارجه
العربي لعرج (الأديب والناقد العربي)
يجمع الفلاسفة وأصحاب الرأي على أن الإنسان ليس حرا في تفكيره، فالصحيح أن الشخص كل ذات عاقلة وواعية تتحمل مسؤولية أفعالها الأخلاقية والقانونية والاجتماعية. وأن الحرية نعني بها استقلالية الذات فكرا وتصرفا، وتخلصها من معظم الإكراهات لإنجاز فعل أو الإمساك به، فإن الضرورة تجعله رهين إكراهات وحتميات لا بد وأن تحصل في ظروف معينة
دعاة التنمية البشرية.
فالتصور الحديث والمشاع من الأسئلة الجوهرية تصب من صياغة أحدثها مجموعة من دعاة التنمية البشرية وتعني أن الإنسان وجب عليه التفكير خارج الصندوق ككتاب لمؤلفه ديان ديكون ومايك فانس فصار فكرا ومرجعية متبعة. وهكذا فالإشكالية صحيحة في بعدها النظري،غير أنها لا تسلم من انتقادات تجعلها في قلب العاصفة حول الظروف التي صاغتها وكذا الخلفية الايديولوجية والفلسفية وراء استيقاظها بعد أن عرفت صراعا ونقاشا في قلب ألمانيا في بداية القرن العشرين. معارضون لهذا التصور يرونه مثالي وأفلاطوني، وولد قيصريا في مجتمع عربي هجين عصي عن التصنيف، ويجعل من الإنسان أعمى وأضل ويسبح في مجموعة من العلوم والإيديولوجيات غير المعتادة بالنسبة إليه.
فالأساس النظري لهذا التصور صحيح في شقه المعرفي والنفسي والصحي ومنه: أن يغير الإنسان وضعه، ويبتعد عن الأنظمة النمطية التي تجعله يشعر بالسأم والملل والتقزز جراء الوضع الراهن من كوارث وحروب وصراعات وجشع وطمع وأوضاع سلبية، وأن يرسم التغيير المنشود، وأن يستحدث عادة محددة نحو الإبداع، من أجل أن يأخذ حمام داخلي يستطيع به غسل أفكاره وتجعل له مساحة نفسية في جدوله الزمني والنفسي.
العصف الدهني من القواعد التي تعمل على طرح الكثير من الأفكار السلبية والأخطاء من أجل أخرى إيجابية وصحيحة إلى حد ما، تبعث الشعور بالنشوة والتحسن الشعوري للفرد. أضف الى ذلك الانشغال بالبحث وتوسيع الخيال، والتخلص من السلبية التي تعيق الفرد وتكبل طاقاته وتجنب القوى السيئة التي تكسب العادات الخبيثة. والسؤال الجوهري، ماهي خلفيات هذا المشروع الغربي وهل يستطيع النجاح داخل تربة عربية عصية وهجينة؟ تجعل من الحاجة إليه والضرورة مقياسا اعتباريا لكل رد فعل سليم.
فما هي حركة التفكير خارج الصندوق؟
فحركة التفكير خارج الصندوق: تلخيص بعد الاضطرابات في الفكر وبين الحزب البديل لأجل ألمانيا querdenken بعدالحداثة لجماعة والتي نشرت معلومات مغلوطة أو مفبركة تعمل على تقويض النظام الحاكم. وتركز على نفي الاضطرابات التي يعاني منها الفكر ما بعد الحداثة كالنفور من الهيكلة والنسبوية كأساس للتفكير، وتقبل التناقض المنطقي والوقوف ضد مبدأ القاعدة المشتركة.
تأثير الحداثة على أوروبا:
إذن فأوروبا عرفت حداثة وخلخلة في النظم والأفكار في جميع مناحي الحياة الفكرية والبنيوية وعمتها تفاصيل شتى في أسسها النظرية والتطبيقية، وتمخضت عنها فئة من الفلاسفة ونقاد الوضع السياسي والمستفيدين من الوضع القائم فانتقدوا وأصروا على أن الإنسان مستعبد داخل شبكة مفاهيمية من الايديولوجيات والسياسات ودعاة نفي النفي وتم خلالها رسم قواعد جديدة في التفكير في أمريكا وأوروبا لتجاوز التفكير الديني الروحاني واستبداله بقواعد جديدة تعالج الإحباط والاكتئاب في صفوف الكتاب والمفكرين جسدتها كتابات الشعراء رامبو واليوت الأرض الخراب، وشعراء المهجر سؤال البحث عن الذات، وروايات كويلهوا وكارسيا مركيز وهمنغواي.
كل هذه الأفكار الأوروبية تميزت خلالها بطبيعتين اثنتين كرد فعل للتفكير داخل وخارج الصندوق جسدتها أطروحتا الفلاسفة في كيفة التعامل مع الغير لتجاوز الأزمات الداخلية. تعامل داخلي انبنى على أسس فلسفية تنظر إلى الغير المحلي بأنه إنسان سام تربطني به علاقة إنسانية وجدانية وتمثلت في مؤلفات كانط نقد العقل الخالص لديكارت واعتبرت العلاقة مع الغير صداقة قائمة على الاحترام المتبادل، بعد أخلاقي لا يقوم على مصالح ومنافع معينة.
وذهب على خطه أوغستين كونت إذ اعتبر العلاقة مع الآخر مبنية على الصداقة الغيرية والغيرية هي الإيثار والدعوة لمحبة الغير. وتعامل ثان من مرجعية هيغل يرى من علاقة الإنسان مع الغير علاقة صراع حتى الموت،علاقة العبد والسيد كل ذات تسعى إلى نزع الاعتراف من الآخر.
ومنه استقى الغرب نظرته الشوفينية البرغماتية وتم تصدير الأزمات إلى الخارج بدواعي الحماية والاستعمار. وذهب مريدوهم إلى نزع الفتيل واستخدام أدوات وإجراءات فلسفية تدعو إلى فك النظر عن الأزمات الداخلية والتفكير في حلول بديلة نفسية علاجية تساعد على تغيير الفكر النمطي بأساليب منعشة تهذب الذوق السليم وتحيي الروح الداخلية.
إذن فالتفكير خارج الصندوق سليم من الناحية النظرية في بعده الصحي النفسي لكنه جرد المواطن من هويته السياسية والدينية والاجتماعية الاقتصادية. فالإنسان كائن اجتماعي كما يقول ابن خلدون ولن يعيش بمعزل عن العلاقات المتشعبة ويجمع كل المكونات والترابطات السالفة داخل منطقة جغرافية وتاريخية تجعل من الماضي والحاضر خلفيتان لبناء المستقبل ولتشكيل مجتمع حضاري ومدني يرتكز على أسس عقلية وواقعية، بعيدا عن الطوباوية والديكارتية. فلن نستطيع المسح على الطاولة وإن أكرهنا على ذلك، فالواقع أشد وأمر، فنحن لسنا أحرارا في اختيار جيناتنا ومدى صلابة تفكيرنا ولو غيرنا حقول تربيتنا أو مخيرين، فالإنسان صحيح أنه يولد صفحة بيضاء كما قال جون لوك ولكن التجربة والمحيط والنشأة الاجتماعية تزيد من خبراته وتزوده بمجموعة من المنبهات والتأثيرات التي اعتاد وسيعتاد على استعمالها وتختزن في الذاكرة والشعور، وفي حالة عدم تطبيقها سيشعر بالغثيان ويصاب بالهبل كالاسكندر المقدوني ونابوليون وهتلر الذين رغبوا في السيطرة على العالم.
كيف سيتخلص الإنسان من أفكاره الكاريزمية ويفكر خارج الصندوق الأسود؟
لقد مر العالم بمجموعة من الأزمات العالمية كالحرب العالمية الأولى1914\1918والأزمة الإقتصادية لسنة 1922|1929 وتلتها حرب عالمية ثالثة وحروب باردة تطلبت منه التعايش، وتغيير نمط التفكير.
فالآراء جد مختلفة، والواقع شيء آخر يحكمه الساسة من العقلاء والحمقى والرأسمال، ورغم ذلك فالاستقرار حلم كل فرد عاقل سوي ينشد ويؤمن بالإنسانية ونبذ الصراعات العنصرية العرقية والطبقية، ويجعل من السلم والسلام والأمن والأمان فلسفة رئيسية تنظم توجهاتنا وتربيتنا في تعاملنا مع الغير، وتطرح كل السلبيات والنفايات من التفكير القذر كالحقد والأنانية والاستحواذ والتملك الفردي والتسلط ونشر القيم الانسانية المتينة كالإيثار والصدق وحب الآخر من غير ضغوطات تجعلنا نفر من واقعنا إلى التفكير خارج الصندوق.
بمعنى آخر أن نعجز عن حل مشاكلنا الداخلية بمنطق مستبد وغير سليم يكرس العجز والتبعية والزبونية والمحسوبية والإتكالية، وفرض الأمر الواقع بشراء الذمم والمثقفين والفنانين في العالم ومعالجة هذه القتامة بالاستجداء بالغير من خارج الحدود أو بالأحرى من خارج الصدوق لا داخله.