التلفزيون

شيخة الفجرية/مريم الزرعوني

إلى العزيزة الشاعرة والكاتبة مريم الزرعوني

 تحية وبعد

يسعدني أن أبعث إليك برسالتي للاطمئنان عليك أولًا، بسبب محاصرة فايروس كورونا الجاثم على عموم الكرة الأرضية، ثم أود أن تشاركيني الحديث عن التلفزيون موسوعة المعارف الناطقة، وأثره في حياتك.

وسأعود في رسالتي إلى الوراء، إلى أولى عشرينيات عمري، حين ذهبت لأول مرة   إلى التلفزيون، إذ تأملت جيداً في المبنيين الذين قابلاني، ما أن دلفت من بوابة مبنى الإذاعة والتلفزيون الكبيرة في مدينة الإعلام في مسقط، المُسَيَّجة بطاقم أمني ودود، استدعيتُ الصندوقين البلاستيكيين (الراديو والتلفزيون) فوراً في مخيلتي، فيما كانت خطواتي تقترب أكثر من هذين المبنيين، في أول زيارة لهما، كنتُ متأبطةً مجموعة من الأوراق، كان في هذه الأوراق نواة مسلسل تلفزيوني ([1])؛ بدأت بكتابته في الصف الثاني الثانوي.

ابتسمت في طريقي القصير ذلك، للخيال الطفولي الذي كنتُ عليه قبل ممارسة الكتابة، حيث لم يكن  التلفزيون إلا ذلك الصندوق البلاستيكي المستطيل الشكل، الملصق به شاشة زجاجية وجهاز يعمل على تشغيله وإغلاقه عن بُعد، والذي كنتُ أفكرُ كثيراً كيف أدخل إليه لمراقبة ما يحدث فيه من مسلسلات وبرامج ورسوم متحركة، أوهمني كلاً من “نيلز”([2]) و”السيدة ملعقة”([3]) أن ذلك ممكناً، إن وجدت ذات المادة التي عملت على تحويلهما إلى أقزام؛ إذ تشغلني فكرة “ماذا يفعل وأين يذهب “نيلز” و”الكابتن ماجد” و”سالي” و”كاتولي” إلخ بعد نهاية كل حلقة؟ كيف يقضون بقية يومهم إلى أن يعودوا إلينا من جديد؟!

كنتُ كبيرة لأتخيل أنني ذاهبة لأجدهم يمثلون المسلسلات أمامي، وغيرها من الخيالات التي تجاوزها عقلي قبل ذلك اليوم بوقت طويل، فقد ذهبت مقتنعة أنَّ التلفزيون، نافذة “الثقافة الرفيعة…، صلة بين حضارة مخصوصة وإنسانية كونية” كمايقول  تيري إيجلتون، ويمكن عدّه مجموعة من الأصدقاء، ومجموعة من الأعداء كذلك، ففي ظلِّ التدفق العظيم للبرامج المختلفة من القنوات الكثيرة جداً، تُبثُ عبر أثيرها وإرسالها مجموعة من الأيديولوجيات، التي تتزاحم وتتكالب علينا لتختطف عقولنا؛ في ظل برمجية مبتغاة ومشتهاة منّا بشدة.

ومن هذه البرمجيات تأتي البرامج الحوارية والمسرحيات والبرامج الأجنبية المترجمة، والأغاني، وبرامج المسابقات الغنائية، وبرامج المسابقات الثقافية، ونشرات الأخبار، والبرامج الاقتصادية، والبرامج الدينية والأسرية، كل هذه البرامج تكوّنُ مجموعة الأصدقاء التي رافقتني طوال سني عمري؛ منذ الطفولة مروراً بالمراهقة وإلى اليوم.

 فالتلفزيون هو من ألجأ إليه للترويح بعد المذاكرة، بفضله تكوّنت لدي معلومات أعتمد عليها في الإجابة عن الكثير من الأسئلة في مسابقات المدرسة، أو حتى في الدروس اليومية في الفصل، أتذكر معلمة مادة الدراسات الاجتماعية في الصف الرابع الابتدائي،” الأستاذة رئيفة”، التي هي في ذات الوقت أمينة مقصف المدرسة، كانت تأتي كل يوم بعد الفسحة وتناول الطعام، أي في الحصة الرابعة، تحمل في يديها أكياس النقود(مبلغ البيع اليومي في المقصف)، تقوم بعدِّ تلك النقود على طاولتها أمامنا، ولكي تضمن هدوئنا تسألنا أسئلة عشوائية لا علاقة لها بما ندرس، كنت أسابق زميلاتي في الظفر بالجائزة حين الإجابة، والجائزة في كل مرة مبلغاً وقدره (نصف ريال عُماني)، كان مبلغاً كبيراً بالنسبة لي، ولكنني أتذكر أنني ادخرتُ مبلغاً لابأس به من أسئلة “أبلا رئيفة”([4])، فقط لأنني كنتُ مرتبطة بمتابعة المسابقات الثقافية والبرامج منذ طفولتي، فيما لم أكن أقرأ الكتب؛ أو حتى مجلات الأطفال في هذه المرحلة إطلاقاً.

أما الارتباط بالبرامج الإخبارية، فقد كان ذلك في المرحلة الإعدادية، من أجل تأمين أخبار يومية للإذاعة المدرسية، سرعان ما تحولت مع الأيام تلك المتابعة إلى روتين يومي؛ في متابعة التطورات السياسية وتداعياتها.

في المرحلة الثانوية استهويتُ كثيراً متابعة البرامج التراثية والوثائقية التلفزيونية، حيثُ أكون أمام فرصة معرفية متعددة المصادر على اعتبار أن المتحدثين عن التراث العُماني متعددي الثقافات، فمنهم الأديب والشاعر والنوخذا والبحار والمغني والراقص، وأستطيع القول أنني كنتُ أدونُ ما أسمعه من كبار السن في البرامج التراثية، لأستفهم عنها فيما بعد في حال أردت إعادة استعمال تلك المعلومات؛ في مسلسلاتي وبرامجي الإذاعية والتلفزيونية.

أمَّا البرامج الوثائقية، فهي متنوعة، منها البرامج التي تتناول عالم الحيوان، والحشرات والطيور والبحار والجبال، وتلفزيون السلطنة غني بهذه البرامج المفيدة، سواء تلك التي تختص بالبيئة العمانية (الأفلام الوثائقية عن النمور في عُمان، والطيور والبحر، والجبال ووو إلخ) أو غير العمانية، ومن كل ذلك يمكن القول، أن التلفزيون منظومة ثقافية متنوعة ومتعددة يمكن انتقاء المفيد، الذي يغذي العقل قبل ملأ الفراغ لمجرد ملأ الفراغ فقط، ويأتي الجمال فيما ذكرت هو القالب الفني المؤثر الذي عرضت من خلاله البرامج المذكورة؛ لأنَّه كما يقول فراي:” العمل الفني العميق يجذبنا نحو نقطه نستطيع من خلالها رؤية عدد هائل من الأنساق ذات الدلالة القيمة متجمعة”.

من كل ذلك؛ أصبح التلفزيون بالنسبة لي مصدر آخر من مصادر الثقافة والإلهام، لم يعد مجرد صندوق بلاستيكي، بل هو أدب ناطقٌ بالواقعية والخيال معاً، هو عالم أستطيع المشاركة في إثراءه من خلال كتابتي للمسلسلات التلفزيونية؛ فما هي طبيعة علاقتك بالتلفزيون؟

هذا ولك وافر التقدير

 تحياتي: شيخة الفجرية

…………………………………………………………………………

الرد:

عزيزتي الصديقة الأديبة شيخة الفجرية

تحياتي وأشواقي

أرجو أن تصلك الرسالة وأنتِ في أتم الصحة والسرور. قبل أن أجيب على سؤالك، لابدّ أن أخبرك بما فعلته رسالتك، لقد أسعدتني وأعادتني إلى زمن بعيدٍ، كانت الرسائل فيه من ورق، والكلام من حبر تذوب فيه المشاعر وتتسربّ إلى قلوبنا ما إن نقرأ الكلمات. إنه زمنٌ لطالما شدّني إليه حنين جبّار، عندما كنت في المرحلة الثانوية أُكاتب صديقات الدراسة عند زيارتهنّ لبلدانهن في العطلة الصيفية، أنسام في الأردن وغادة وايمان في مصر. لازلت أحتفظ برسالة أنسام الأخيرة التي وصلت قبيل تخرجي من الجامعة، لتبتلعنا فيما بعد دهاليز الحياة.

أعرف أنك كاتبة سيناريو ومؤلفة مسلسلات إذاعية وتلفزيونية، شغوفة بعملك، ولتسمحي لي بالانحراف عن سؤالك والحديث عن الإذاعة قليلاً، فحنيني إلى زمن المراسلات لا ينفصل عن علاقتي بالمذياع، فقد لازمني فترة طويلة وأنا طالبة في المدرسة، كنتُ أعود إلى البيت وأدير المذياع من فوري على برامج المنوعات أبحث بين الموجات المشوّشة والأصوات المتحشرجة عن طرب أصيل وكلمة شجية، فتصادفني نجاة الصغيرة بأغنية تمتد دقائق تزيد على العشر، أتمكن أثناءها من تغيير ثيابي وترتيب كتبي وفق جدول الغد، ثم أوقف المذياع للالتحاق بوجبة الغداء.

لقد كانت الإذاعة امتداداً لأثر جدّي الذي أتلمّسه لشدّة تعلقي به، فقد كان يستمع بعد عودته من السوق مساءً وفراغه من العشاء، إلى النهامين في أغاني البحر وفنّ الصوت، لم أكن أدرك معاني الكلمات آنذاك، لكنني الآن أرى وجه جدّي في كل نهمة بحرية تتسلل إلى أذني.

ثم أدمنت سماع كبار نجوم الطرب العربي فكنت على موعدٍ مع أم كلثوم ظهيرة كل يوم على إذاعة دبي، وفي المساء، يرافقني المذياع وأنا أنهي مهامي المعتادة، فأستمع إلى مختلف البرامج والمسلسلات التاريخية والاجتماعية متنقّلة بين الإذاعات العربية المتاحة، أذكر مما استمعت إليه بدهشة كبيرة وفائدة عظيمة، برنامج المعلومات العامة الشهير “قالت جهينة”، كما قضيت الكثير من ليالي العطلات مع حفلات المطربين الكبار على إذاعة صوت العرب من القاهرة، ومن ضمنها أغنية “من غير ليه” الطويلة، للموسيقار محمد عبدالوهاب في سهرة شتوية عام ألف وتسعمئة وتسع وثمانين ميلادي، أي قبل وفاته بعامين.

هل تعلمين يا شيخة أنني لازلت مرتبطة بشدّة بالإذاعة، فلديّ على هاتفي الجوال تطبيقات العديد من الإذاعات العربية والأجنبية، وعلى رأسها صوت العرب، وإذاعة الكويت، وبي بي سي، فهم رفاقي في السيارة والمطبخ وحتى الجلسات الأسرية في فناء البيت.

لقد شكّل المذياع أسس ذائقتي الموسيقية وزودني بأنوية عديدة لمواضيع تصلح للكتابة، كالموسيقى العربية، والشعراء الغنائيين، كما فتح لي أبواباً للقراءة والاستزادة عما يُطرح في البرامج الثقافية على وجه التحديد.

وأزيدك يا شيخة عمّا فعل بي المذياع، فصرت هاوية أجمع أجهزة المذياع القديمة، شرط أن تكون صالحة للعمل، من محالّ متخصصة في الإمارات ومن الأسفار أيضاً. فقد صار وجود المذياع في الغرفة والسيارة يحقق لي درجةً عاليةً من الرضا والاستمتاع.

 أما التلفزيون فليس أقل أهمية من المذياع، إلّا أن دوره بالنسبة لي انحسر منذ ارتباطي بالأجهزة الذكية.

لازمت التلفزيون في مرحلة عمرية مبكرة، فكنت أتابع المسلسل الكويتي “جحا” الذي عرّفني بشخصية تيمور لنك، كما كان السبب الرئيس في حبي للزراعة، فعرفت المواسم الزراعية وفكرة استصلاح الأرض، وأنواع المناطق الزراعية تبعاً للتربة في الإمارات، كل ذلك عن طريق البرنامج المحلي “أرضنا الطيبة” الذي كان يعرض في قناة أبوظبي، أما البرامج المحلية في قناة الشارقة فقد شوّقتني لمناطقنا المختلفة وبيئاتها الغنية، فعرفت أننا نزرع القمح في مرتفات رأس الخيمة، والدخن في وادي الحلو، ونصنع نوعاُ من الحلوى اللذيذة المعروفة بمقطوعة الدّخن. كان ذلك دافعاً رئيساً لزياراتي المستمرة للساحل الشرقي عندما تعلمت قيادة السيارة.

 أما “افتح يا سمسم” فقد كان بوابتي التي ولجت منها إلى اللغة العربية والعالم العربي فحفظت معظم أناشيده، وتعرفت إلى العواصم العربية وأشهر معالمها قبل أن تطأها قدمي.

وبعد طول انقطاع عن التلفزيون، أعود إليه الآن مع الجائحة لأستخدم مزاياه الأخرى كتلفزيون ذكي يتيح متابعة الفيديوهات عبر تطبيق “يوتيوب” وفي أضيق الأحوال وعندما لا أجد برامجي المفضلة في شبكة الإنترنت، أعود لأتابع البرامج الوثائقية، والأفلام العربية الكلاسيكية.

ماذا عنكِ، كيف شغفت باللغة وعلومها؟ في انتظار رسالتك.

دمت بخير

مريم الزرعوني.

دولة الإمارات العربية المتحدة

مدينة دبي


([1]) . مسلسل اليرام، حصل على جائزة “أفضل نص درامي” في جائزة الإبداع الإعلامي بوزارة الإعلام 2009م.

([2]) . “نيلز” مسلسل رسوم متحركة.

([3]) . “السيدة ملعقة” مسلسل رسوم متحركة.

([4]).معلمة مصرية، جميلة البشرة والشكل على الرغم من بدانتها، تتميز عن جميع المعلمات اللائي قمن بتدريسي منذ الابتدائية إلى الثانوية، أنها تُشبه هوانم جاردن سيتي في مصر، من خلال ملابسها الغير معتاد لبسها من معلماتنا المصريات، أكثر ما يُضحكني ولست أدري إن كانت تعلم بذلك، إذ كانت أغلب زميلاتي الطالبات ينادينها “أبلا رهيفة”، بعد الصف الخامس عادت أبلا رئيفة إلى مصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *