الأخلاق واللغة والقيم الحضارية
خالد بن محمد بن سعيد الشبيبي
الملخص :
هدفت هذه الدراسة إلى بيان أهمية القيم الأخلاقية في واقعنا المعاصر وأثر اللغة على القيم الأخلاقية في الحضارة، حيث قام الباحث باعتماد المنهج الوصفي التحليلي، الذي يقوم برصد الظاهرة والمشكلة محاولا إيجاد تفسيرات منطقية ودقيقة ومحددة لها. ولتحقيق هدف الدراسة استخدم الباحث أسلوب تحليل المحتوى في الكتب والمقالات والدراسات التي تناولت القيم الأخلاقية، حيث أظهرت نتائج الدراسة أن القيم الأخلاقية الأصل فيها الفطرة السوية المستقيمة ويراعى في ذلك الذوق وثقافة المجتمع وتعددية الأديان والعادات والتقاليد. كما أظهرت نتائج الدراسة أن للغة أثر واضح في تشكيل الأخلاق وذلك بما تتميز به من اتساع مفرداتها وتنوع معانيها وجمال الفاظها وتناسق أساليبها، كما كشفت الدراسة عن أن المجتمعات التي حضيت بالعدل والمساواة والانتماء بين أبنائها كانت مجتمعات متقدمة تسود فيها الحياة السعيدة ويتحقق الانتاج والإبداع، كما أظهرت نتائج الدراسة أن الظلم والاستبداد و الجهل والإعلام السلبي وفقد الثقة من أبرز أسباب انحطاط القيم الأخلاقية عند المسلمين اليوم .
مقدمة :
في كل حضارة من الحضارات الإنسانية أخلاقا تعرف بها وتحيط بأفرادها وتكون سمة تتجسد في معاملاتها سواء أكانت تلك الأخلاق فاضلة كريمة حسنة أو كانت أخلاقا سيئة ظالمة قبيحة فيها طابع الشر كمثل حضارة الفراعنة، والمغول من مقياس الفطرة السلمية وكذلك كان حال العرب في العصر الجاهلي من الطبقية والعرقية فيما بينهم، ومن استيلائهم على أموال غيرهم. والمعنى أن السر في تناغم الحضارات وبقائها وطول امتدادها يرجع جزء كبيرمنه إلى الأخلاق الإنسانية الحضارية التي يتعامل أفرادها بها من مبادىء تتحقق فيها القيم النبيلة والمساوة والعدل بشكل تقبله الفطرة الإنسانية السوية.ولذلك تسعى هذه الدراسة إلى بيان أهمية القيم الأخلاقية وأثرها في الحضارة .
ويرى الماديون البرجماتيون أن الأسباب المادية هي التي تحكم صراع الحضارات وتقرر الغلبة، فالذي يملك من القوى المادية أكثر، سواء العسكرية أو التكنولوجية، أو الاقتصادية أو البشرية هو الذي تكون له الغلبة في الصراع، بينما يرى أصحاب العقيدة أن هناك معايير أخرى تدخل في الحساب، وليست القوة المادية وحدها هي التي تقرر الغلبة وحدها في جميع الحالات، ولقد أيد الله الفئة القليلة المؤمنة في غزوة بدر على ثلاثة أمثالها من الأعداء.( I).
وعليه فإن الحكم إيجابا كان أو سلبا على أي حضارة من الحضارات الإنسانية لابد وأن يُنظر إلى الفكر والسلوك الذي يتعامل به أفراد المجتمع والذي جزء منه يتلخص في الأخلاق، ولا يستقيم مجتمع بلا أخلاق يسير عليها أتباعه، ومن خلال تلك النظرة إلى السلوكيات في هذا المجتمع تسطيع أن تحكم على مدى التطور والذي وصل إليه؛ ذلك لأن انتشار الأخلاق الحسنة في أواسط المجتمع ينعكس بالإيجاب على كل المجالات وتفاصيل الحياة فيه، ومن ناحيه أخرى نجد أن السقوط والانحطاط الأخلاقي ينعكس سلبا ويؤثر في كل جوانب الحياة، فلكل مجتمع من مجتمعات الحضارة الإنسانية أخلاقه، تعطي قيمته، وتظهر حقيقته، وتنسجم مع من يعيش عليه، فالأخلاق موجودة منذ القدم وهي ليست حكرا على مجتمع دون آخر أو كانت محصورة في وقت دون وقت. بل كانت الأخلاق منذ عصر سيدنا آدم عليه السلام ثم تفاوتت وتمايزت واتخذت في كل مكان شكلا وطريقة مبنية على الدين والعادات والأعراف والثقافة أو كان فرضا باسم الملك أو الحاكم .
ومن هنا فالأخلاق سببا لتقدم الشعوب وعلامة فارقة في الرقي الحضاري والأخلاق ميزة في الحياة المنظمة المبنية على الإحترام وتكافل الحقوق ورقي الناس. فبدونها تعم الفوضى ويكثر الدمار وبغيابها ينعدم الأمان، ويخيم الحزن في كل مكان، فالأخلاق الإنسانية مبدأ حياة ووسيلة تقدم وحقيقة وجود، تعطي للإنسان مكانته وكرامته، وتحفظ حقه وحياته وحريته، فبالأخلاق يرقى المجتمع وبالأخلاق يتحقق السلام وبالأخلاق تنتشر قيم المحبة والمودة.
ومما يساعد الأخلاق في التقدم والتمسك بها وجود اللغة الحية التي تستعمل في مفرداتها عبارات أخلاقية مهذبة . “يظن كثير من الناس أن اللغة قوالبُ صماءُ، لا علاقة لها بخلق، ولا نبل، وأنها أنماط جافة، وتراكيب صامتة، لا أثر لها في إحساس، ولا عاطفة، وهو فَهْمٌ مغلوط، وسبيل مَنْ بَعُدَ عن جلالها، وتنكَّب طريقها، وابتعد عن جلالها، وجمالها، ولم يقتربْ من كمالها، ودلالها، ولكن الأدْنَيْنَ منها، والسالكين طريقها، والشادين لها، المستجلين مراميها الواقفين على مجاليها، والناهلين من أنهارها، وسواقيها يعلمون أنَّ معينها لا ينضب، وأن عطاءها مستمر، سحَّاح، يمطر، ويَثْعَبُ، ولا يكسل، أو في أيِّ حال منه يتعب، إنما تتمتع لغتنا بثراء موَّار، وعطاء زخَّار، ودفْق متتالٍ مِعْطار، ولنتجاوز مدح لغتنا النظريَّ، فربما داخل أحدَهم أننا نمدح بلا رصيد، ونعشق من غير أن يكون ثمة فكْرٌ منا رشيد، ومخزون منها عتيد، وامتلاك لمساربها، وعتاد لا يُحَدُّ مجيد ، فإن اللغة وعاءٌ لما في الصدر، تنقل هوامسَ النفس، وهواجس الذات، وهواتف الروح، وتبرز أخلاقيات الإنسان من نبل وحياء، ونقاء وصفاء، وبغض وفرحة وبكاء، وتعاون وإخاء، أو نفرة ، وهراء، وحبٍّ وعدَاء، وتحنان وبغضاء، وافتقار واغتناء.
تنقل اللغة بقوالبها الرقيقة نوازع المدح والذم، وأساليب الاستغاثة والندبة ، وطرائق النفي والاستفهام، وسبل الإغراء والتحذير، وطرق الاستدراك والاستثناء والقسم والتأكيد والتخصيص والتفضيل، وغيرها مما يعتلج في النفس، ويختمر في الذات، حتى إن لغة الجسد لتدخلُ ضمن إمكانات هذه اللغة الحكيمة، من تقطيب جبين، وانتفاخ أوداج، وإشارة بيد ، أو غمز ولمز، أو همس وصخب، أو إشاحة بوجه أو تحية بكفٍّ، أو رفع لإبهام علامة انبهار وإعجاب، أو نفور وضيق ، وعتاب لصديق، أو صمت، أو قول ، أو نظر في الأرض حياء أو تبرُّما، ونحوها من أحاسيس وعواطف، ونكات ولطائف، أو رياح هوج، وعواصف، كل ذلك تُخرجه اللغة بأساليبها، ورقيق عباراتها ، وترى الجملة تطول وتقصر، وتأتي كاملة أو يحذف معظم أركانها، لكنه حذف هو عين الذكر، وصمت هو عين الحديث، فتحار في هذه اللغة الشريفة، وتضرب كفا على أختها من كونها حكيمة حصيفة، ومعطاء ثرة، وبإمكاناتها الرديفة، ولنتخذها مقالات ذات سلسلة مترابطة الحلقات، أسيرة النظم، جاذبة للعين، في صورة مقالاتٍ تترى ، وعبارات بالجمال وللجلال تُعْزَى.”
وكم نحن اليوم بحاجة ماسة إلى معرفة الأخلاق كسلوك حضاري، وبناء قيمي وعلاقتها ببناء الإنسان في شخصيته وفكره وجسده ومشاعره، وأثرها الحقيقي في تنمية طاقاته الحيوية العاطفية والجسدية والعقلية وتأثيرها في الإنجاز والعطاء وتحقيقها لمطلب السعادة.( II )
والمتأمل في لفظة الأخلاق سيجد أن جميع الفلاسفة على مر التاريخ يؤمنون بأهمية الأخلاق وينطلقون في تعريفهم لها من مبادئ وقيم نبيلة .
جاء في تعريف الأخلاق في المعجم الوسيط بأنها جَمع خُلُق، وهو الطبع والسَّجية . والأخلاق : علم يعنى بالأعمال الإنسانية تتعلق بالسلوك و توصف بالحسن أو القبح. والأخلاق ما يتفق وقواعد السلوك المقررة في المجتمع.( III)
وتعد الأخلاق من الموضوعات المهمة التي تشغل مكانا كبيرا في اهتمام المفكرين، وتستحوذ على تفكيرهم منذ القدم. والأخلاق في الاصطلاح الفلسفيّ عرَّفه بعضُ علماء الفلسفة كأَرسطو وأفلاطون وغيرهم أنّ الأخلاقَ هي:القدرة على التّمييز بينَ الخيرِ والشَّر عند الأفراد، ويمكن تعريفها أيضاً من المنظور الفلسفي بأنّها: الفضيلة التي يَتغلَّبُ فيها الجانِبُ الإلهيُّ على جانِبِ الشهوات وتفضيل المحبوبات والمرغوبات، ويَرى بعض الفلاسفة أنَّه يمكن تعريف الأخلاق بأنّها: القدرة على ضبط الشهَواتِ بالعَقل ومُمارسَة الفَضائل والمكارم من الصفات، وتمييز الحسن منها من القبيح. ( IV)
الأخلاق في الاصطلاح الإسلاميِّ: يمكن تعريف الأخلاقُ في الاصطلاح الإسلاميّ أَنَّها: مَجموعَة من المبادئ والقَواعد التي يُحدّدها الوحيُ الذي يكون مصدره الله -سبحانه وتعالى- أو الرسول -عليه الصّلاة والسّلام-، وتقوم تلك القواعد بتنظيمِ حياةِ النّاسِ جميعاً، وتوجيه سلوكياتهم على نحوٍ يُحقِّقُ الغايَةَ من وُجودِهم، ويمكن بها تمييزهم عن باقي البشر، ممّا يجعل حياتهم تسير وفق قواعد وأحكام الدين وضوابطه. ( V ) .
وللأخلاق أهمية كبيرة في المجتمع تتمثل تلك الأهمية في كون الأخلاق هي اللبنة الحقيقية في بناء أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية والذي تنظمه القوانين والأحكام المنسجمة مع الأخلاق، والتي بها ينهض المجتمع، وتستقر الحياة، وهنا أقصد تلك المجتمعات والحضارات الإنسانية التي كانت على مر التاريخ لابد وأن تكون بعض القيم الأخلاقية الإنسانية متجسدة فيها كالحضارة البابلية والسومرية والأشورية والفراعنة والأنباط .
كما أن الأخلاق تحمي المجتمع وأفراده من التفكك والضياع والهلاك، فالأخلاق تحمل معاني الود والحب والقرب والتماسك، فحين يكون المجتمع متماسكا بسلطة الأخلاق لا الاستعباد وبسلطة الحب لا الخوف يكون المجتمع سليما من مشكلات الكراهية، أو بذور الفتنة، وحقيقة الزوال .
وإذا كان هذا هو حال المجتمع في أخلاقه فكذلك الحال بالنسبة لأفراده وكل من يعيش عليه تتجه الأخلاق في جسده وتتغلغل في عرقه وتسكن في كل زاوية من زوياه فبين الأسرة الواحدة أخلاق الأمومة والأبوة وبين التواصل الأسري أخلاق صلة القرابة والرحمة وبين التواصل المجتمعي أخلاق المحبة والطمأنينة. وقس على ذلك أخلاق الصانع والطبيب والمهندس والعامل والتاجروالقاضي والجندي والمعلم … .
وبالجملة فالأخلاق مضاد حيوي للمجتمع من التحطم والتهدم، ومن التفكك والتقزم والضياع، تصبغ المجتمع بصبغة السعادة وتبعث فيه الطمأنينة والراحة فالأخلاق معلم من معالم الجمال ومكسب من مكاسب التقدم وفرصة للتآلف وهي ترمومتر العدل والقانون.
والإسلام دين عظيم جاء بالأخلاق العظيمة والقيم النبيلة فقال جل في علاه : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)”. سورة الحجرات. ففي هذه الآية نهي وتحذير من كل ما يدعو إلى الفرقة والكراهية والاحتقار والكبر والغرور فذلك ظلم وخيم وذنب عظيم فيه إعلان إلى دواعي الشر وتحقيق العصبية.
وانطلقت دعوة الرسول محمد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم معلنة بإتمام فضائل الأخلاق وتعميم مغانم الخير للجميع. ففي هذه الدعوة المباركة من الأخلاق الراقية النقية الفاضلة الزكية ما يجعل السلوك يستقيم ويثمر في المجتمع؛ فإن الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة من محاسن هذا الدين قال صلى الله عليه وسلم : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق فقال: ” وخالق الناس بخلق حسن ” رواه الترمذي .
من هنا فاتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالأماني والانتظار الغيبي، وإنما هو خطة طريق وعمل، تقوم على فنية القيم والأخلاق الإسلامية استعدادا لمهمة الإصلاح في الأرض ولن يتحقق إصلاح الأرض وعمارتها بدون العدل والأخلاق. فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك لنا عمق المنهج الفني العملي لبناء أخوة متماسكة من القيم والأخلاق .( VI) .
إن الأخلاق الحسنة هو أعظم ما تعتز به الأمم وتمتاز عن غيرها، والأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها وتلفت الأنظار لها ويتحير أعداؤها فيها، وبقدر ما تنحط أخلاقها وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم، وكم سادت أمة ولو كانت من غير دين الإسلام وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره ، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق.
إذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح أمن الناس وحفظت الحقوق وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع وقلت الرذيلة وزادت الفضيلة وقويت شوكة الإسلام، وأصبح التواصل الحضاري بناءا ومفيدا وله اهميته وقيمته، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب والخيانة والظلم والغش فسد المجتمع واختل الأمن وضاعت الحقوق وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع وضعفت الشريعة في نفوس أهلها وانقلبت الموازين ، وكانت الحضارة عرضة للضياع والزوال.
بل حتى في بداية الدعوة ولما اشتد التعذيب للمؤمنين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة ذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم: «إن بالحبشة ملكًا لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجًا»، فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت الأخلاق سببا للهجرة إليها، والجوار عند ملك كريم بأخلاقه الحسنة رغم اختلاف الدين.وفي هذا الحديث ملمح جليل يكمن في سر الأخلاق بأن تكون ملجأ يحتمي فيه الضعيف ولو اختلفت الأديان وتعدد الأفكار وتباينت الآراء تكون الأخلاق الحصن المنيع الذي يحميهم من الخوف والذل والحضن الدافيء الذي يسعدهم بالقرب والراحة.
والمتأمل اليوم في أحوال أمة الإسلام اليوم يلحظ ضعفا شديدا في الجانب الأخلاقي وانهيارا كبيرا في الركن القيمي وتأخرا واسعا في التقدم الحضاري، يصحبه هدر في الفكر والمال وضياع في الجيل والبناء وتظهر هذه الأزمة الأخلاقية لعوامل عديدة وفي الميادين كثيرة تتلاطم فيها أمواج البغضاء والإفلاس الحضاري والواقع المؤلم لحال المسلمين وذلك للأسباب الآتية:
غياب العدل: واحدة من أكبر المشكلات التي تمزق أمتنا الإسلامية غياب العدل، وغياب العدل في كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية وغيرها فحين لا يكون التكافؤ والفرص بين أبناء الوطن المسلم يسود الظلم وتنتشر الرشوة وتكثر الوساطات وتتكدس الفرص لأفراد دون غيرهم ويصعب تحقيق القيم الأخلاقية التي تأتي بالتبعية بعد وجود حيز كاف من العدل المجتمعي. ومن روائع العدل حق المساواة ويرتبط بحق قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد عندما ذهب ليشفع في المرأة المخزومية .
رغبة الدول القوية سياسيا في تحطيم وهدم أخلاق المسلمين . فتحركت لذلك قوى داخلية وخارجية تعمل ليلا ونهارا من أجل تحقيق هدف واحد أثيم، وغاية دنيئة لئيمة وهي هدم العقيدة الإسلامية في قلب الجيل المسلم، وإخماد جذوة الأخلاق في قلوبهم وسلوكهم، حتى أصبحت بلاد الإسلام غرضا لكل طامع، ولقمة سائغة لكل مريد.( VII)
في الحكم : من تسلط الحكام في كثير من دول المسلمين على شعوبهم وإزهاق أرواحهم ومن الزج بهم في السجون وتعذيبهم ومن أخذهم الأموال، وتقييدهم لحرية الفكر والإبداع . فآلت الشعوب إلى خوف دائم وإلى انهزام في العطاء في مختلف ميادين الحياة.
في الاقتصاد: من تحكم لرؤوس المال في ثلة بسيطة من البشر واحتكارهم للتجارة دون غيرهم ومن وجود بنوك ربوية تعمل على قاعدة أن يعيش المواطن عبدا للعمل وأسيرا للبنك ومن جانب تفشي الرشوة في التجارة والوساطة لمن لهم الجاه دون غيرهم ما ساعد ذلك على ازدياد في عدد الفقراء ووجود مشكلات البطالة والفقر و الكثرة الدويون وذلك أثر سلبا على الحياة الاجتماعية.
الحياة الاجتماعية: كثرة المشكلات الأسرية والجرائم الأخلاقية متبوعة بكثيرة التذمر والشكوى من كل شي وبعدت قيم المودة والتسامح والحب والتواصل، لتحل محلها ثقافة الخصومة وتتنوع فيها مشكلات العصبية الاجتماعية والعرقية. ( VIII ) .
فلم يتمسكوا بقيم الدين ولم يسيروا على نهج القرآن الكريم والسنة الشريفة. وانعكس ذلك سلبا على الأولاد إلا ما شاء الله فهم لا يحترمون أباهم ولا يقدرون أمهم وكثيرا ما يعصون أوامرهما ويصدر منهم العقوق والجحود. وحدثت من مشكلات عقوق الوالدين جرائم لا تخطر على بال المسلم القريب من ربه من يد ابن مدت على الأم الضعيفة وعلى الأب الكبير في عمره. وكم من أزهقت أرواح الوالدين بعد تعب سنين لابن كان حاله في كبره كالشيطان المغتر بقوته والمتجرد من قيم الرحمة .
قلة الوعي و المعرفة: فعلى الرغم من الثورة المعرفية والتنوع المعرفة إلا أن كثيرا من الناس تنقصهم المعرفة في مختلف شؤون حياتهم من معاملات وسلوكيات وأصبح من الاستمرارية في الخطأ ولادة لعادات خاطئة وثقافة بين الشعوب سيئة ومن ذلك انتشار ظاهرة التدخين في كثير من المجتمعات المسلمة بين الرجال والنساء بل وحتى الصغار من الشباب. وارتدف مع ذلك تنوع في وسائل التدخين رغم خطورتها وشدة أضرارها والذي يفتك بالبشر فتكا ذريعا. ذكرت منظمة الصحة العالميةحقائق صادمة عن التدخين، فالتبغ يقتل نصف من يتعاطونه تقريباً. والتدخين يودي بحياة أكثر من 8 ملايين نسمة سنوياً، منهم أكثر من 7 ملايين ممن يتعاطونه مباشرةً ونحو 1.2 مليون من غير المدخّنين المعرّضين لدخانه غير المباشر.يعيش نحو 80% من المدخّنين البالغ عددهم 1.1 مليار شخص على الصعيد العالمي في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ( IX)
الإعلام والانفتاح الحضاري: واحدة من المشكلات الجذرية التي يواجهها أبناء المجتمع الإسلامي، الانفتاح الحضاري الغربي والذي ينعكس بسلبياته على أبنا الوطن المسلم، فكانت شبكة المعلومات العالمية واحدة من وسائل التواصل الذي يحمل الكثير من الإيجابيات وكذلك السلبيات، من المواقع الإباحية والإلعاب المدمرة لعقلية الأبناء يرافق ذلك العدد الكبير من القنوات الفضائية المتخصصة في الرقص الفاحش والتي تنشر الرذائل بكل الوسائل. كان لتلك الوسائل الإعلامية المضار الكثيرة المتمثلة في عدم اهتمامها لنفسية الأطفال وعدم احترامها لمشاعرهم وأفكارهم فتعثرت مسالك القيم، وساعدت على تنمية العنف من خلال البرامج المختلفة من الرسوم المتحركة التي تعرض اليوم ليلا ونهارا وتنمي السلوك العدواني نظرا لما لهذه البرامج من مشاهد قاسية في مرحلة طفولتهم تعرض العنف والقتل والحركة . بل ساعدت في وجود فئة من أطفال التوحد وأطفال فرط الحركة وتركتهم أسارى و حيارى في بيوتهم لتلك القوة الإعلامية وسيطرت على مشاعرهم وحكمت سلوكهم .( XI ). ومن وسلبيات وسائل التواصل الاجتماعي: تسبب الإدمان الإلكتروني عليها وهدر الوقت وانعدام الخصوصية ونشر الأفكار الخاطئة والمسئية وسبب للإنضمام إلى الحركات الإرهابية . (XII)
التقليد السلبي : أحد أبرز المؤثرات في منظومة القيم الأخلاقية هو التقليد السلبي والذي يتمثل في مختلف جوانب الحياة من الأكل والشرب والتفاخر باللباس والكماليات الأخرى وصرف المبالغ الكثيرة فيما لا فائدة فيه . وهذا التأثير السلبي كون جيلا من أبناء الأمة الإسلامية لا هم له إلا متابعة أخر الموضات المصدرة من الغرب للشرق والعالم الإسلامي.
البيئة الأسرية : تشكل الأسرة المنغلقة سدا منيعا لفكر الأبناء وترسخ مبدأ الكبت والقهر عند الأبناء، والخلافات الأسرية من انفصال وطلاق وخلاف دائم، ولوم ونقد لاذع، تسهم في ضرب العاطفة عند الأطفال وإكسابهم الخوف والهزيمة النفسية وكل ذلك من الظلم الإجتماعي. كذلك الإفراط في حماية الأبناء وتدليلهم الزائد وتهميش جوانب الثقة لديهم يؤثر سلبا في أخلاقهم، ويجعل منهم أبناء لا يعرفون قيمة النعمة ولا يهتمون ببر الوالدين، بل يكبرون بلا أهداف ولا أحلام. ( XIII ) يقول ابن خلدون : “من كان مرباه بالعسف والقهر، ضاقت نفسه، وذهب نشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك”. (XIV) .
المدرسة: حين تكون المدرسة أحد وسائل اكتساب الأبناء على القيم الأخلاقية السيئة من خلال احتكاكهم بزملائهم، ووجود طلابا من ثقافات وبيئات مختلفة وأسر مفككة كل ذلك يساعد الأبناء على اكتسابهم أخلاقا سيئة تتمثل في القول أو السلوك . أهمية دور المدرسة والمنهج والكتاب في غرس المضامين الأخلاقية في نفوس المتعلمين الصغار، لا سيما في هذا العصر الذي يشهد تحولات علمية وتقنية ومعلوماتية تفوق قدرة الإنسان على السيطرة عليها، نتيجة لما تحدثه من تغيرات اجتماعية جوهرية، مما قد يؤدي إلى حدوث مشكلات اجتماعية وهزات عنيفة في القيم والأعراف والمعتقدات. ( XV ) ” وأن الأخلاق تساعد في بناء مهارات التفكير العليا عند الطلاب كما تساعدهم على الإستقرار والتوازن العاطفي.” ( XVI) .
الانتماء والمواطنة: أحد الموضوعات المهمة التي تشغل الكثير من الناس وهي مدى شعورهم بالانتماء والمواطنة في بلادهم، وفي الآونة الأخيرة يلاحظ هجرة الكثير من الناس لأجل الحصول على اللجوء السياسي في بلدان غربية، وهذا يؤكد حقيقة ما يتعرضون له من تهميش أو إذلال مقصود في بلدانهم. ويلحظ ذلك جليا في البلدان النامية كالدول الإفريقية وكذلك الكثير من دول العالم الثالث كبعض الدول العربية. ( XVII )
فقدان الثقة: من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقدان الثقة بأنفسهم، وهي من أشد الأمراض الاجتماعية وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على إنسان إلا أودى به، ولا على أمة إلا ساقها للفناء. وقد أجمع الأطباء في الأمراض البدنية أن القوة المعنوية هي رأس الأدوية وأن من أعظم عوامل الشفاء هي إرادة الشفا، وكيف يصلح المجتمع الإسلامي ومعظم اهله يفتقدون الثقة ويرون أنفسهم أنهم لا يصلحون لشيء، كما أن أخلاقهم لا تساعدهم في الوصول إلى المتقن من الأعمال أو الأقوال. ( XVIII )
وفي الختام واقع حال المسلمين اليوم مؤسف إذ كانت أخلاقهم لا تتفق مع منهج القرآن الكريم أو تستقيم وفق السنة الشريفة بل تغلبت الشهوات على سلطة الدين والعقل، وحلت المصالح محل القيم النبيلة، وتغلغلت فيهم الأنانية واكتسحتهم الشهوانية وأصبحوا في معزل عن سبل التطور الحضاري والتفوق العلمي والاتزان الفكري والنقاء الخُلُقي، فكان حال المسلمين اليومَ تتقاذفُ بهم أمواجُ الفتَن، وتحيطُ بهم أسبابُ التفرق والشرور والمحن، يسعى الأعداءُ لتفريق صفوفهم، ويبذُلون كل جهد لبذر أسباب العداء بين أبنائهم، يفرحون بخرق صف المسلمين وتفريق كلِمتهم، ويسعَدون ببثِّ روح التباغُض في مجتمعاتهم، وفُشوِّ الكراهية بين شبابهم. وحينئذ فما أحوجَ المسلمين اليومَ للالتزام بالمنهج الذي تصفو به قلوبهم، وتسلَم معه صدورهم، وتنشر من خلاله مبادئ المحبة والوئام في مجتمعاتهم وأوطانهم.
إنَّ المسلمين اليومَ بحاجةٍ ماسة لمراجعةِ منهَج المدرسةِ الأخلاقيّة العظمى، وفي ضرورةٍ ملحة لتحقيق مدرسةِ قواعدِ الفضائل العُليا، تلك المدرسةُ التي تضمَّنت المبادئَ الكبرى للمحبَّة والوئام،والمودة والسلام، والأصولَ العُظمى للخِصال الكِرام، إنه منهجُ مدرسةِ الإسلام التي حرصت على تأصيل أسبابِ المحبَّة بين المسلمين، وبذرِ قواعِد الأخوَّة والألفة والتعاون بين المؤمنين، يقول ربّنا جلّ وعلا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) سورة الحجرات ، ويقول نبيّنا صلى الله عليه وسلم : (وكونوا عبادَ الله إخوانا). ذلكم أنّ تلك المبادئَ الكريمة، من الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، والفضائلَ العظيمة، تقودُ الأمّةَ إلى كلّ خير، وتحقِّق لهم كلَّ منفَعة. مبادئ الأخلاق هي أساسُ استقامة مجتمعاتهم وأوطانهم، وسعادةِ حياتهم، وتحقيق مصالحهم. (XIX) .
تلكم الأخلاق والقيم والمثل العليا لا تأتي من فراغ أو من مجرد خطب على المنابر وإنما تحتاج إلى نوايا صادقة وعزيمة نافذة وتعاون دائم واهتمام متواصل، تحتاج إلى القيادة العادلة الفاضلة وإلى المعلم المخلص والمربية القدوة، وإلى تطبيق تعاليم الإسلام دين الرحمة والسلام لتكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم في طريق صحيح، ولتكون حضارة الإسلام قوية بمنهج القرآن الكريم والسنة الشريفة حيث يعلو فيها العدل، وتسمو الأخلاق، وترتقي النفوس فتسلك مسالك السعود وتصعد إلى مطالع الصعود. هناك تكون الحضارة قوية متماسكة، وعظيمة متحابة. فبالأخلاق نرقى ونزكى ونسود ونقود ونهنأ ونعيش كرام وتكون للحضارة الإسلامية كلمتها، وقيمتها، وقوتها، وعزتها.
وختاما يقول الشاعر الهندي محمد إقبال ” فواعجبا لقد أصبح الكتاب الذي أنزل ليمنحك الحياة، يقرأ عليك الآن لتموت بسهولة إذا حضرتك الوفاة” . ( XX )
___________________________________________________________
المصادر و المراجع :
- قطب، محمد .من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر. القاهرة: دار الشروق، 2003م.
- الشبيبي، خالد بن محمد.الأنشطة التربوية بين النظرة الإسلامية والغربية. مسقط، سلطنة عمان: دار الوراق، 2018 م.
- مصطفى، وآخرون. المعجم الوسيط. استطنبول: دار الدعوة، 2000 م.
- المزين، خالد محمد. القيم الأخلاقية المتضمنة في محتوى كتب لغتنا الجميلة للمرحلة الأساسية الدنيا. رسالة ماجستير غير منشورة،كلية التربية، ، غزة، فلسطين:الجامعة الإسلامية 2009م.
- السرجاني ، راغب . الأخلاق والقيم في الحضارة الإسلامية.عمان: دار المسيرة، 2017م.
- مالك،بن نبي. مشكلات الحضارة. دمشق: دار الفكر، 2016 م.
- علوان، عبدالله ناصح. الشباب المسلم في مواجهة التحديات. دمشق ، سوريا: دار القلم، 2002م .
- عثمان، أكرم. التميز في فهم النفسيات. بيروت، لبنان: دار ابن حزم، 2006 م.
منظمة الصحة العالمية ، 29/5/2019 تم الاسترجاع من الرابط:
- https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/tobacco
- حوامدة، وآخرون.وسائل الإعلام والطفولة، عمان: دار جرير،2020م.
- الصوافي، عبدالحكيم بن عبدالله بن راشد. استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لدى طلبة الحلقة الثانية من التعليم الأساسي في محافظة شمال الشرقية بسلطنة عمان وعلاقته ببعض المتغيرات، رسالة ماجسيتر غير منشورة، عمان: جامعة نزوى، 2015م.
- الحسين، بدر. الحوار مع الطفل. بيروت ، لبنان: دار الفكر، 2014م .
- باشا، حسان شمسي. كيف تربي أبناءك في هذا الزمان؟. دمشق: دار القلم، 2016م .
- الخليفة، حسن جعفر. دراسة تحليلية للمضامين الأخلاقية في كتب اللغة العربية بالصفوف الثلاثة الأولى من المرحلة الابتدائية بدول الخليج العربية ، رسالة ماجستير غير منشورة، الرياض :كلية التربية. 2000 م.
- Love, Beverly, Joyce. The Inclusion of Bloom’s Taxonomy in State Learning Standards: A content Analysis. United States of America. South Carolina : Southern Illinois University,2009.
- Mukhongo, Anna, Nabuayay. Citizenship Education in Kenya: A content Analysis of State-Sponsored Social Studies Instructional Materials. United States of America . South Kalorena : Clemson University .2010.
- أرسلان، شكيب. لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟. القاهرة: دار البشير للطباعة والنشر، مصر. 2000م.
- وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، مملكة البحرين، 28/2/2020 تم الاسترجاع من الرابط: https://www.islam.gov.bh
- سالم، محمد عدنان. القراءة أولا. دمشق، سوريا: دار الفكر، 2015م .
- أحمد، جمال عبدالعزيز ، اللغة والأخلاق، مسقط : صحيفة الوطن، 2018م.
(خالد بن محمد بن سعيد الشبيبي ( سلطنة عمان)باحث دكتوراة بأكاديمية الحضارة الإسلامية في جامعة التكنولوجيا الماليزية)