رئيس بن رفيق ✍
الغريب
……………………
تندب النائحات “وا أباه”، دموع مترقرقة تنتهي إلى البحار. أرى فيها صورة الأشجان وملامحها، قطرة قطرة، كأنّما رسمها الفنّان في لوحته.
تقف الأمّ وحيدة طريدة، تبرّدت رجلاها ويداها الناعمتان، كأنّما اقتلعت من الثّلّاجة. ويلتهب فؤادها وقلبها لفراق الأب الشّفيق، حتى كاد أن يحترق، ويبعث بنانها شعرا في ناصية أخي الصغير الذي صار يتيما ولطيما.
الشّمس تبثّ أشعتها الأخيرة على كوخنا الصّغير، حتى رمت بنفسها في لجّ البحر العميق، وهي تملأ ألم الوداع والفراق. نعيت بوفاته حينما كانت عيني تسرح في الكتاب في مدرستي، ببعد من خمس كلومتر من كوخنا، وترنّ فيها أصوات صديقي كالصّدى الرّنان، وهو يقرأ بأعلى صوته قصّة الموت.
كان أبي ظلّا ظليلا وآرفا كالدوحة وقدّمت إليّ أقربائي بالعزاء والسلوان، حتى وجدت بردة الراحة في صدري.
شيّعت الجنازة بين من يمرّ ويركب، أقلعت رجلي على حين، وأخطو خطوة يسيرة لكي لا تتألّم الأرض التى ستعانق أشعرها من أبي كأنّما أعرض أبي ضمّتي إلى ضمّة الأرض.
قلّبت صفحات ذاكرتي ورقة ورقة، حتى وجدت ورقة أبي الذي يمسك يدي في كلّ مصيبات، وورقة يحسن فيها أبي إليّ، حتى أكون في غمّ عميق وجرّعت علقم النّدم وتعب خدّي بالدّموع وجريت إلى غرفة أبي مخبوءا وجهي، ورأيت مذكّرته القديمة وقلّبت أوّل ورقة. فلمّا اطّلعت على السطر الأوّل، اختطفت عيني بسائر الهموم والكآبة وخررت على الأرض مغشيّا عليّ.
في ليلة ليلاء، ذاهلة النجم ما بين الطرفين، وفي هجدة طويلة وفي رقاد عميق، أتت ملائكة الأحلام بأبي. وألقيت عليه السّلام وهو يسكت فأعدت عليه السّلام، فعاد الصّمت مرّة أخرى. وقلت بصوت مرتعش:
– يا أبي…هل أنت.. تكرهني…؟
رأيت أنّ لسانه يتحرّك ببطء، ولكن لم أسمع صوته. تنقش أغاريد الطّيور من وراء البحر.
فجأة، انطلق صوت لم يتوقّعه أحد، من فم أبيه:
– يا بنيّ هل سمعت قصّة الإبداع عن الشّجعان؟
– لا.. اسمع لي قصّة الشّجعان … من فضلك
نبس بنت شفتيه أن تقصّ:
تساقطت حبّات النّدى على الورود النّديّة، وأشرق الصّبح بنسيماته العذبة. لمّا دفّق الله روح والد شامل، كان شامل يلعب في الميدان، فصرخ أصدقاؤه بخبر وفاته، هرول إلى بيته بخدّ قد استولت عليها دموع مترقرقة.
يئنّ أنين الوالهة الثكلى في الفراش، وسقط على الكرسيّ باكيا منتحبا، قد زحف في قلبه همّ وحزن، وبقي في باله طوال الدّهر. ولكن اندرأت في قلبه فكرة محمّد ﷺ وتنوّر قلبه بالهداية المجيدة.
فجأة، استيقظت من حلمي، وأطفأت دموعي التي جفّت على خدّي، وزال حزني الذي رسم على صميم جلدي، حتى أطلقت من شبّاك داري نظرة مختلسة إلى البدور التي تسبح في نهار السّماء، والقراقد ترقص بضياء العالم. ذهبت قرب البدور، وسمعت أذناي غنّة العصافير التي تجلس على أغصان الأشجار وهي تنشد وتغنّى:
ليس الغريب غريب الشّام واليمن
إنّ الغريب غريب اللّحد والكفن
فتأمّلت سطور مذكّرة أبي “اللهمّ اغفر لابني وزوجتي، لانّهما شقيقتان في حياتي وامنح لهما الجنّة والمقام العالي، ولو أُلقيت في نار جهنّم الأليم”. امتلأ قلبي بعبرة قصّة الشّجعان. ومررت من عالم الكآبة إلى عالم الشّجاعة حتى لقيت ملك عزرائيل.