في محطّة الأخير من كانون الأول

الأيام هي الأيام، الشروق والغروب، البزوغ والأفول. لا تعترف النهارات بالأرقام. الأيام تمضي، والشمس تشرق وتغرب كل يوم. المعركة بدواخلنا نحن، فالشتاء وحده كما كل مرة من ينهي السنة. الخريف يمكث في قلوبنا فقط، وكذوب هو العقل حينما تمحى آخر كل سنة من ذاكرتنا الأفراح والنعم. ليست النعم مرادفًا للأفراح، لكنها أكثر منها في حياة الفرد. تتبخر ذاكرة الضحك وتتجلى كل الأحزان، لكي توسم السنة بالحزن وحده. وكذوب هو القلب حينما يوهمك بنشوة غرور كاذبة أن السنة كانت سنة إنجازات فقط، حينما يطمس إحساس الاتزان الذي ينبع من تجربة الإخفاق والإحباط والنجاح والإنجاز، أو كذبهما معًا، حيث يخيطان الوهم فيختلط علينا مكان العقدة الأولى.

الأيام هي الأيام، دول كما قيل. لا تمنحنا سلامًا دائمًا، لا ريب ولا يقين. حتى أهل غزة، وهم من يحق لهم بتسمية عامهم هذا “عام الحزن”، حينما تسأل بعضهم سيذكر لك حتمًا أيامًا تجدد فيها الأمل، وانقشع فيها الظلام. سيذكر لك ضحكة يتيمة سقطت من طفل صغير فتلقفها وضحك، سيذكر لك السمر في ليالٍ لا يعرف فيها على من الدور في التحاف البطانية، لكنه كان سعيدًا باحتساء القهوة ودفء النار. سيحدثك عن الألفة والأعراس، وعن أعياد الميلاد، وحمام سبوع وليد جديد. الأيام هي الأيام حتى في الحرب. ولا عجب أيضًا في من يحن إلى أيام الكوفيد، سنة الخوف والقلق والترقب بامتياز. لكن الأيام بسلطتها فرضت ذكرى تستحق أن توهب مشاعر الحنين، ولو أن يتمثل في افتقاد اجتماع العائلة والالتفاف حول الشاشة في انتظار نبرة رجل الجائحة محمد اليوبي مساء، الحنين لشمس أمل دافئة حينما كان يلامس القلوب عند سماع عدد المتعافين، الأمل الكبير الذي صغر، ونحن ننتظر جميعًا خبر العثور على اللقاح. حتى غابت شمسه ونسينا عد الأيام، إلى أن عاود الرجوع مشرقًا، في أيام لم نكن نعدها، فتخلصنا أخيرًا من لعنة الأقنعة الطبية، هو عناد الأيام، وكذلك الأمر بالنسبة لتذكر السنوات التي نطلق عليها لقب السنوات الذهبية، الأعوام الهادئة. سوف تطفو صورة الجمال والهدوء في ذاكرتك وأنت تسترجع شريط حياتك، لكن لا بد لذكرى أليمة أن تقفز وتلوح لك. ستتربص بك الذاكرة وتفسد روعة التخيل بموقف محرج مثلاً حدث معك، لأنها الأيام. أعرف أن الحساب الذي يعتمده الناس، وهو أمر طبيعي جدًا في الحكم على السنة، يكون بمقدار الأيام الجيدة أو السيئة. لهذا تجد من يخرج بتصريح جريء: “كانت سنة سعيدة”، وآخر ينكر ذلك بقوله: “كانت سنة حزينة”. هي المشاعر حينما تتأرجح بين الهناءة والأسى، حينما تسبح في الكون بخفة فتجعله فسيحًا، أو حينما ترمي ثقلها في حلق الأيام فتضيق عليك ما كان رحبًا.

لكن، أوَ نسقط ذنب فعل المشاعر بنا على الأيام؟ أم هل نسقط فعل أنفسنا نحن على المشاعر، ثم الأيام ثم السنوات؟ فالسنة رداء، الغطاء الذي يستر جحودنا ونكراننا للنعم. فما من أيام مرت وكان ملؤها الابتئاس والشجن تباعًا، إلا وانبثقت منها النعم باسقة، لا تقدر حتى أعتى الأحزان أن تخفيها. وحسبك منها المقدرة على القول: “كانت سنة مريرة أو قاسية”. إننا دائمًا نقدر على الخروج من السنوات والأيام، ونحن نحمل دمعة، أو بسمة، أو أملًا ما، محملين بأشياء دون أشياء. لكن ما من أحد يخرج من أي سنة ورصيده من النعم الصفر.