المرض النفسي بين الاختزال والابتذال
محمود مصطفى
أحد أشهر الأجوبة عن سؤال (ما هو المرض النفسي؟) أنه مرض بيولوچي، فالاكتئاب مثلاً كالسكر، وتشبيه الاكتئاب بالسكر تشبيه يكثر تداوله في الأوساط العلمية والشعبية على حد سواء، ولعلّ في اختيار مرض السكر بشكل خاص إشارةً إلى أن المصاب بمرض السكر معرضٌ للإصابة بالاكتئاب بسبب الضغط النفسي الذي يُشكِّله مرض السكر فيؤدي إلى ظهور أعراض الاكتئاب، ويمكن أن يتسبب مرض السكر أيضًا في حدوث مضاعفات ومشكلات صحية جديدة تُفاقم أعراض الاكتئاب، والعكس صحيح.. فإن المصاب بالاكتئاب معرضٌ للإصابة بمرض السكر بسبب اتخاذ قرارات ضارّة متعلقة بأسلوب الحياة (ومنها الأكل غير الصحي والتدخين وقلة الحركة)، ومن المبشِّرات في هذا الأمر أن السيطرة على أحدهما تساعد في السيطرة على الآخر بشكل فعّال وملحوظ من خلال برامج السيطرة على مرض السكر والأدوية والعلاج النفسي.
لكن الاقتصار على تعريف أن المرض النفسي هو مرض بيولوچي فقط فيه اختزال (رغم أن التأكيد على كونه مرضًا بيولوچيًا فقط أمر مفهوم ونابع من نية طيبة لأسباب سيرد ذكرها).
أمَّا إشكالية التعريف في الاقتصار على السبب البيولوچي فتخيل أن رجلاً كانت حياته مستقرة هادئة ثم فُصِل من عمله فأٌصيب باكتئاب أو قلق، أو امرأة رأتْ خيانة زوجها بعينيها، أو مظلوم تعرض للاضطهاد والسجن، أو فتاة تحرّش بها أحد أعمامها.. وغيرهم، ثم تأتي لهؤلاء قائلاً إن علاج ألمكم هو علاج بيولوچي فقط! وأن مشكلتكم في الأساس هي مشكلة بيولوچية وعلاجها الأوحد هو علاج بيولوچي، وبالتالي -في العلاج- تغفل الجلسات النفسية والعلاج الجدلي السلوكي والعلاج المعرفي السلوكي والعلاج النفسي الداعم وغير ذلك.
وأمَّا أن هذا التعريف نابع من نية طيبة فربما كان بسبب انتشار الأفكار المهيمنة على المجتمع بادعاء أن المرض النفسي سببه الابتعاد عن الله، وأنه في الأساس نابع من مشكلة روحية و(لو صليت كتير هتبقى كويس) وهذا بالطبع غير صحيح بل إن هذا الكلام مما يزيد المريض مرضًا والأمرَ سوءًا، ويُسهم في زيادة الوصمة التي يشعر بها المريض، ويضاعف من إحساسه بالاغتراب وتعزيز الخوف والذنب والخزي بداخله في معظم الأحيان.
سمعنا ورأينا ألف إنسان وإنسان يعاني من الاكتئاب فيلجأ في الغالب إلى أحد أصدقائه ليخبره بما يشعر ويفكر، فينصحه صديقه بالقرب من الله وأن مشكلته مشكلة روحية! فيذهب المتألم للصلاة والصيام ليجدَ أن مشكلته لم تُحَل وأنه ما زال يعاني، فيلجأ إلى أهله فينصحوه بما نصحه به صديقه، ويستمر على تلك الحال مع الأقارب والجيران وشيخ المسجد وخادم الكنيسة حتى يجد نفسه وحيدًا يشعر بالغربة، لا يفهمه أحد ولا يشعر به غير نفسه التي يريد الخلاصَ منها في أقرب ساعة؛ لأنه لم يَعُدْ يطيقُ الألمَ الجاثمَ على صدره والذي ازداد مؤخرًا باكتشافه أنه غير مقبول من الله وأن صلاته وصيامه وأعماله الصالحة لعلاج مشكلته الروحية تلك قد ذهبت هباءً.. فماذا يصنع؟! يمر الوقت والألم النفسي يزيد ولا يشعر بشيء من طعم الحياة، لا أكل ولا نوم ولا أمل! فانظر إلى آثار قسوة الناس وأحكامهم على بعضهم.
لا يمكن هنا للطبيب أن يسير مع هؤلاء على نفس الدرب بل يجد نفسه مضطرًا لاتخاذ سبيل آخر، ربما يراه أحيانًا هو السبيل الوحيد وربما لا يراه، إذ لا يمكن أن يكرر نفس الكلام الذي سمعه المريض من قبل وضاعف ألمه، بل يخبره أن مرضه كسائر الأمراض = يحتاج إلى علاج دوائي.
ومن الأسباب التي يلجأ إليها بعض الأطباء في قَصْر المرض النفسي وحَصْره على السبب البيولوچي هو محاربة الوصمة، الوصمة التي يوصم بها كل شاكٍ تقريبًا من ألم نفسي لمدة طويلة ولغة مكثفة من التشاؤم والحزن – رغم صدقها عن التعبير عما في نفسه – إلا أنها تكون سببًا في وصمه بضعف الشخصية أو قلة التدين، تلك الوصمة تؤذي وتقتل وتحرم المريض من أهم عوامل الصمود ألا وهو الدعم المجتمعي، فيلجأ الطبيب إلى منحىً مختلفٍ تمامًا لرفع الوصمة ودحض الابتذال في أن سبب المرض ليس ضعفًا في شخصية المريض أو نقصًا في تدينه وعلاقته بربه.
وفي معظم الأحيان عند طرح العلاقة بين المرض النفسي والتدين فإن الحديث يكون فقط عن القلق والاكتئاب حيث يعز على المتدينين – القائلين بهذا الرأي – أن يعتبروا للقلق والاكتئاب أسبابًا أخرى غير ضعف التدين، في حين أنه لا يعزُّ عليهم أن يعتبروا الفصام أو الاضطراب ثنائي القطب أو الذهان أمراضًا غير مرتبطة بالتدين، وهذا مفهوم باعتبار أن الطمأنينة والسكينة لها امتداد واسع وتأثير واضح بالعلاقة الروحية والتدين، هذا وإن كان فيه قدرٌ من الصحة والوجاهة إلا أن تناوله على سبيل الحصر والقصر خطأ محض، وقد جاءت معظم الدراسات التي أٌجريت على علاقة المرض النفسي – خاصةً الاكتئاب – بالتدين، إيجابيةً في علاج الاكتئاب من ناحية أن المتدين أقل اكتئابًا وأسرع تعافيًا وأقدر على التعامل مع نوباته (ومن أهم تلك الدراسات دراسة رفائيل بونيللي وزملائه) لكن يبقى السؤال: هل العلاقة الروحية وممارسة الشعائر هي العامل الأوحد المسيطر على صحة الإنسان النفسية ومرضه أم أنها عامل من العوامل يقل أثرها حينًا ويكثر أحيانًا؟ هذا هو السؤال.
أحد التفسيرات القديمة نسبيًا للمرض النفسي هو (التفسير الاجتماعي) باعتبار أن منظومة الطب النفسي أُنشئتْ لاحتواء غير المنسجمين داخل البنية الاجتماعية بتنوعاتها، وأنها ناتجة عن الشعور بالظلم الاجتماعي والتمييز العنصري أو الطائفي، وكان استبعادهم الفيزيائي – بالسجن وتقييد الحركة – هو الحل المطروح لضبط المنظومة الاجتماعية بحيث يسهل السيطرة عليهم بحصرهم في مكان معلوم، وقد شهدت ألمانيا تطبيقًا واسعًا لهذا المفهوم خاصةً مع المختلفين عرقيًا.
لذلك أقول: إن تعريف المرض النفسي -مع اختلاف وجهة النظر إليه- يمكن أن نعتبره (المشكلة التي ليس لها سبب طبي واضح تعوق حياة الفرد أو حياة المحيطين به، ويتعامل معه الطبيب النفسي والمعالج النفسي)، وإن أسباب المرض النفسي تتعدد كما تتعدد أساليب العلاج، وليس من الصواب أن نختزل لطالب العلاجِ أسباب مرضه أو أساليب علاجه في عامل واحد دون غيره، وأسوأ من ذلك أن نتغاضى عن (كليشيهات) الاتهام بقلة الدين أو ضعف الشخصية.
ومما ثبت مؤخرًا أنه عند التصوير الطبقي للدماغ باستخدام (PET Scan) فإن التغيرات التي تحدث بسبب الاكتئاب نراها قد تتغير بسبب بيولوچي عند استخدام الأدوية، وبسبب اجتماعي عند تحسن الأوضاع المعيشية وتحقيق العدالة، وبسبب الجلسات النفسية المعتمدة على الكلام ومناقشة تعديل السلوك والأفكار وتنظيم المشاعر، وبسبب العلاقات الصحية والروحية وتوافر دوائر الدعم، فلماذا انحصر السبب والعلاج في البيولوچيا أو الوراثة أو النظام الاجتماعي أو المشكلات الروحية؟!
لذلك كله نتساءل: إذا كانت الظروف المتعلقة بالاستقرار المادي والعاطفي والروحي والاجتماعي والعيش بعيدًا عن وطأة الظلم والاحتلال والاستبداد.. إذا كانت هذه الظروف لا بدّ وأن تتحد (أو على الأقل يوجد الحد الأدنى منها) لكي يكون الشعور العام والخاص جيدًا بمعنى أن يكون التفكير في أسباب الصحة النفسية تفكيراً مركباً، فلماذا لا يكون التفكير في أسباب المرض مركبًا أيضًا؟ ولماذا لا يكون التفكير في العلاج بنفس الطريقة؟ لماذا يصر بعض الناس على أحادية النظرة ووحدانية السبب والاعتماد على عامل واحد في تفسير المرض النفسي وحلوله بدلاً من إدماج العوامل البيولوجية والوراثية والروحية والاجتماعية وغيرها في السبب والعلاج معًا؟!