الشعراء ومدى تأثيرهم على المجتمع
حمدا لله حمدا يليق بكماله, والشكر له على كل حال, الذي جعل الشعر ديوان العرب و عنوان الأدب, و جعل الشعراء قليل العدد في زمرة العباد , كأنهم جمرة في الرماد, مصليا على خير الأنام , الذي أوتي مجامع الكلام, و على آله وصحبه الكرام.
إننا لو رجعنا إلى صفحات التاريخ عن الشعراء عامة و عن شعراء العربية خاصة سنجد انهم كانوا جزءا مهما في المجتمع , و كانوا بمثابة الإعلاميين في أوقات السلم و السلام , و السفراء في حال الحروب و الأحداث . فضلا عما تنبع من أفواههم من الحكم وقيمة الأخلاقية.
فذاع نفوذهم في البلاد وانتشر أخبارهم بين الأقطار وقد أكد هذا المعني المتنبي وهو يصف نفسه معترفا بقوة تأثير قصائده و يقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر له منشدا
فسار به من لا يسير مشمّرا وغنّى به من لا يغني مغردا.
يقول زهير بن أبي سلمى:
سترحل بالمطيّ قصائدي حتى تحل على بني ورقاء
مدحا لهم يتوارثون ثنائها رهن لآخرهم بطول بقاء.
فهذه دلالة واضحة تشير إلى مدى تأثيرهم على المجتمع, و لا يكلفهم في ذلك سوى أن ينفثوا في عقد القوافي ليسحروا كل سامع , ثم ليتركوا مهمة التغريد للرواة حتى تناقلتها الأيام إلى أقصى نقطة في البلاد.
و كانوا ينشدون السلام, و يرغّبون في ذلك , بطريقتهم الخاصة , ليتركوا في النفوس ما يميلها إلى ميدان الصفح و التسامح .
و من الشعراء الذين برزوا في هذا المضمار زهير بن أبي سلمى و ذلك لما وقعت حرب داحس و غبراء, التي أدت إلى أن ضاع تحت السيف خلق كثير , حتى قام السيدان و هما : الحارث بن عوف المري وهرم بن سنان المري بالصلح بين الطرفين و حقنا الدماء حيث قاما بدفع الدية لكل من الطرفين , فقال فيهما زهير و هو يثني عليهما و يحذّر القوم من عدم الوقوع في مثل هذا المعزق, و ضم ذلك في معلقته الشهيرة:
أم أمّ أوفي دمنة لم تكلم بحومانة الدراع فالمتلثم.
إلى قوله:
يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم.
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم.
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من الأمر نسلم.
فأصبحتما منها على خير موطن بعيدين فيها من عقوق ومأثم.
وكانوا منهم أي الشعراء أرباب الحكم و أولوا القيم, و العبارات المطرزة بالشجاعة و المروءة و الكرم و حسن الضيافة فكانت لها تأثير إلى حد بعيد في أعماق النفوس . فهذا شنفري و هو يظهر عزمه و شجاعته و يبدي قوة صبره و تحمّله الأذى. يقول في لاميته:
أَقِيْمُوا بني أُمي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ فإني إلى قَوْمٍ سِوَاكُمْ لأَمْيَلُ
إلى أن قال:
وأسْتَفُّ تُرْبَ الأرضِ كيْ لا يَرَى لَهْ عَلَيَّ من الطَّوْلِ امْرُؤٌ مُتَطَوِّلُ
فإنّي لَمَوْلَى الصَّبْرِ أَجْتابُ بَزَّهُ على مِثْلِ قَلْبِ السِّمْعِ والحَزْمَ أَفْعَلُ.
و كذلك المتأمل في قصائد عروة بن الورد و عنترة بن شداد, و جملة الصعاليك عامة , فإنك ترى فيهم الشخصية الشجاع الكرم و غيرها من الشخصيات , و الناس بطبيعتهم يعجبهم هذا الجنس من البشر.
و مضت هذه السنة عليهم حتى عند ظهور الإسلام.
فنرى النابغة الجعدي و هو من المعمرين و هو يمدح النبي و الصحابة الكرام في قصيدة طويلة و يقول فيها:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا.
فقال النبي سائلا له: (أين المظهر يا أبا ليلى). فقال (الجنة) فقال النبي: (أجل إن شاء الله)(2).
و كذلك حسان بن ثابت حين أمره النبي بهجاء المشركين فقال: (اهجهم – أو هاجهم – و جبريل معك)(3) و ذلك يوم قريظة عندما خانوا العهد.
و كعب بن زهير صاحب البردة و صاحب القصيدة المشهورة:
بنات سعاد فقلبي اليوم متبول متيّم إرثها لم يجز مكبول.
إلى أن قال:
إنّ الرسول لسيف يستضاء به مهنّد من سيوف الله مسلول.
في عصبة من قريش قال قائلهم ببطن مكّة لمّا أسلوا زولوا.
هذا ومع كونهم ظرفاء و خفة دمهم و طرافتهم , تتيح لهم فرصة تعلق المجتمع بهم , بما فيها من تسلية للقلوب , و انسيابها مع الذاكرة .
و روي أن بشار بن برد حكى بعدما مات حماره و يقول: رأيت حماري البارحة في النوم, فقلت له: ويلك لم متَّ ؟ فقال الحمار: أنسيت أنك ركبتني يوم كذا و كذا و أنك مررت بي على باب الأصفهاني فرأيت أتانا ( أنثي حمار ) عبد بابه فعشقتها, حتى متُّ بها كمدا.
ثم أنشدني الحمار:
سيّدي مل بعناني نحو باب الأصفهاني إن بالباب أتانا فضلت كلّ أتان.
تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان و بغنج و دلال سل جسمي و براني.
ولها خد أسيل مثل خدّ الشيفران فبها متّ و لو عشت إذاً طال هواني.(4)
فقال رجل من القوم …. و ما الشيفران يا أبا معاذ؟ فقال بشار: هذا من غريب الحمار, فإذا لقيته مرّة ثانية سألته!!
و من ذلك ما حكي أن الشاعر ربيعة بن عامر المقلب بالدارمي, أنه حضر إليه أحد التجار و هو يشكو نفاذ كل الخمارات التي يبيعها عدا السوداء بل لم يشتريها أحد.
فنظم الشاعر قصيدة ليتغنى بها أحد الشعراء في المدينة فقال فيها:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد.
قد كان شمّر للصلاة ثيابه حتى وقفته له بباب المسجد.
ردي عليه صلاته و صيامه فلا تقتليه بحق دين محمد(4).
فلم يلبث إلا برهة بعد انتشار القصيدة و نفذت الخمارات لدى التاجر.
فكل هذه المواقف إشارات لما يملكه الشعراء من قوة تأثير على أهل زمانهم و ناهيك عن قوة الإجادة و الإبداع , فقد ملكوا زمامهما , و سبقوا كل منافس عليهما. فخرجوا بهما من زحمة العيّ إلى فسحة الفصاحة. وعلى رأسهم سيد الشعراء أبو الطيب المتنبي و أبوا العلاء المعري و أبوا فراس الحمداني و أبو نواس صاحي الخمريات و أبو التمام صاحب التمائم الشعرية و الحلاج صاحب العشقيات الإلهية و غيرهم.
فالقارئ عن هؤلاء يدرك تماما ما يحتوي ذاكرتهم من سحر الحلال. فلا تسع المقام بهم هنا , فهذه نبذة ميسرة مختصرة جدا عن هؤلاء الكائنات المتأثرة على الكوكب الجميل إطلالا من بابه الآخر.
قد يطول إن أردنا ذكر موافق التي أظهرت الشعراء فيها قوة تأثيرهم , و المتألم يدرك ذلك , و الإشارة تكفي اللبيب . و كما أن هذه المواقف توحي لنا بالاهتمام بهذا الفن و أهله , وذلك أن الشعراء حرّاس ثقافة اللغوية و حمّال رايتها , و ملقّحي بذرتها , فهذه توفي لهم شرف المهنة.
هوامش:
1 مكانة الشعر عند العرب نقلا عن موضوع كم\ بتصرف
2 البداية و النهاية لابن كثير ج\ 6 ص\ 187 و كذلك في الكشاف للزمخشري
3 صحيح البخاري م\ 4 ص\ 112 ك\ بدء الخلق ب\ ذكر الملائكة.
4 كتاب تزيين الأسواق في أخبار العشاق لداود الأنطاكي ص\ 150
المرجع والمصادر:
_ طرائف الشعراء و مجالس الأدباء لنجيب البعيني دار المناهل للطباعة و النشر ط\ الأولى.
_الشعر و الشعراء لابن قتيبة لأحمد محمد شاكر.
_ كتاب صحيح للبخاري