عن التكرار

نظرية (التجربة والخطأ) أو (النظرية الارتباطية) هي إحدى نظريات علم النفس السلوكي، وخلاصتها أن عملية التعلم هي حاصل الربط بين (المثير) و(الاستجابة) وتقوى أو تضعف بمدى قوة هذا الترابط، بمعني أن التمرين المستمر لنفس العمل يؤدي لتقوية ارتباط المثير بالاستجابة أي أن الإنسان أو الحيوان لا يتعلم إلا بالتَّكرار المستمر.

في عام 1898م وضع عالم النفس التربوي (إدوارد ثورندايك) أسس تلك النظرية بعد تجربته الشهيرة التي أجراها على قطة جائعة وضعها داخل صندوق لا يُفتح إلا عن طريق سحابة، وعلى القطة أن تسحبها ليُفتح لها الباب حتى تتمكن من الخروج، ووضع طعاماً ذا رائحة نفاذة بجانب الصندوق، فكان من المستحيل على القطة الوصول إلى ذلك الطعام إلا إذا كان بإمكانها فتح الباب والخروج منه.

في البداية تحركت القطة بشكل عشوائي داخل الصندوق ثم أخذت تعض في القضبان وتدفع أقدامها محاولةً الضغط على جدار الصندوق، لكن بعد ساعات من تجربة هذه الاستجابات غير الفعالة، قامت القطة بشد السحابة عن طريق الخطأ فوصلت إلى الاستجابة الصحيحة وفُتح باب الصندوق وتمكنت القطة من الخروج والحصول على الطعام الموضوع بجانب الصندوق.

وضع (ثورندايك) القطة داخل الصندوق مرة أخرى لكنها في هذه المرة استغرقت وقتاً أقل لشد السحابة، وفي كل مرة يكرر فيها التجربة تتقلص المدة الزمنية التي تستغرقها القطة لفتح الصندوق حتى إنها بعد عدة محاولات على مدى أسبوع استطاعت فتح الصندوق في دقيقة واحدة، وهو ما يعني انخفاض زمن الاستجابة، وأن القطة تعلمت الخدعة أخيرًا، ثم أصبحت تشد السحابة بمجرد وضعها في الصندوق، ومن هنا وُضع مصطلح (التعلم من التجربة والخطأ)؛ لأن عدد التجارب أدى إلى انخفاض عدد الأخطاء.

وبذلك وجد أن التمرين والممارسة المستمرة لنفس العمل يؤدي لتقوية ارتباط المثير بالاستجابة، و(المثير) بالتجربة طبعاً هو (الطعام)، و(الاستجابة) هي (فتح الصندوق)، أي أن القطة ستتعلم بالتكرار المستمر، ثم أجرى نفس التجربة على عدد كبير من القطط وخرج بنفس النتيجة.

وبهذا التكرار تحصل المَلَكَة في العلم والأدب وتتكون الذائقة وتتشكل اللغات، والمَلَكَةُ هي الصفة الراسخة التي تكتسبها النفس بالتكرار والممارسة، والتي تقود إلى الحفظ والفهم وسائر الأعمال الفكرية والجسدية بسرعة وسهولة، وإن كل الأفعال التي يمارسها الإنسان لا بُدَّ وأن تعود آثارها على نفسه حتى تثبت في لحظةٍ ما بقوة التكرار وبتنمية الملكة والمهارة.

أخبرني صديقي طبيب النسا والتوليد في بداية عمله أن حالة الولادة القيصرية تستغرق ما يزيد عن ساعة ونصف، وقد وصل بعد الحالة التسعين إلى ثلث ساعة تقريباً، ويصعب أن يقل الوقت عن ذلك لا لقلة مهارته لكن لسبب طبي يتعلق بالتأثير على الأنسجة وغيرها.

ودائماً ما أشدد على أهمية التكرار، ولا أحب لنفسي أو لغيري الاستسلام من المرات الأولى لاكتساب مهارة أو تعلم شيء جديد؛ لأنه لا سبيل لتعلُّم العزف على البيانو إلا بتكرار اللعب المستمر على مفاتيح البيانو، هذا هو السبيل وتلك هي المسألة الموصلة للتعلم والإتقان.. فواصل العزف.

اليومَ شيءٌ وغدًا مثلُهُ 

من نُخبِ العلمِ التي تُلتَقَطْ

يُحصِّلُ المَرء بها حكمةً 

وإنما السيلُ اجتماعُ النقطْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *