اللغة العربية بين المثاقفة والبناء الحضاري
لا يكاد يمر يوم دون أن نتواصل فيما بيننا بترسانة من الكلمات المختلفة، بعضها نابع من الموروث اللغوي الأصلي الفصيح، والبعض الآخر ناتج عن تداخل واقتراض لغوي من ألسن ثقافات الآخرين، تتدخل فيه اعتبارات سياسية واقتصادية وثقافية أيضا.
وحتى يكون كلامنا متساوقا مع الإطار اللسني و الحضاري العام، لابد أن نتفق أن اللغات تعرف لحظات وهن وانحصار وتقوقع على ذاتها في فترة ما، نتيجة عدم القدرة على تطعيمها بالإنتاج الفكري والعلمي اللازم الذي يساهم في إحيائها وفي استمراريتها، وقد يلقي بها في أتون التلاشي والانقراض كما وقع للغات القديمة في بلاد الرافدين والهلال الخصيب.
فليست اللغة هاهنا ضعيفة تركيبيا أو دلاليا، أو هي غير صالحة للبحث العلمي كما يدعي البعض، وليست قاصرة البتة في أداء الرسالة التواصلية والتثقيفية العامة، لكن فهمنا القاصر وضعفنا وانتكاستنا العلمية وتكريس التبعية للآخرين هو ما يساهم في تلاشي اللغة وتراجع وظيفتها الحياتية، معتقدين بذلك أن هناك مفاضلة بين اللغات وأن هناك لغات عقيمة لا تصلح لشيء كما يروج لذلك أذناب المستعمر وأزلامه المستفيدون من مواقع التبعية والرسو في ميناء المصالح الذاتوية الانتهازية.
وإذا تأملنا بقدرة يسيرة اللغات الأجنبية من قبيل الفرنسية والانجليزية والاسبانية نجدها تبحر فوق بساط من المفردات العربية الفصيحة التي استدمجتها وحولت قوالبها اللسانية لتلائم الخصوصية العجمية لهذه اللغات، لما كانت العربية في قمة توهجها خلال القرون الوسطى.
فكلمة كاميرا مثلا التي نستعملها وفق نسقها التعريبي محافظين على قالبها اللاتيني ومعتقدين أنها كلمة أجنبية، ما هي في الحقيقة سوى تحريف لكلمة ”قمرة”، لأن الأوربيين أخذوا الكلمة في أصلها من ابن الهيثم رائد علم التصوير والغرفة المظلمة في القرون الوسطى، فحولوها من “قمرة” الى “كاميرا” لعدم وجود حرف القاف ضمن النسق اللغوي اللاتيني، لنقوم نحن في ظل تخلفنا العلمي والتكنولوجي والاقتصادي خلال القرن العشرين بالاكتفاء بالكلمة اللاتينية التي عربنا حروفها فقط دون النبش في تفاصيلها الايتيمولوجية، وقس على ذلك عشرات الكلمات التي تبصم على الحضور العربي الفصيح في المدونة اللسانية العالمية.
وإذا انتقلنا من هذا السياق الذي قد يربطه البعض بالاقتراض اللغوي الطبيعي بين اللغات لأسباب أهمها المثاقفة والاحتكاك بالثقافات الأجنبية، وإذا تأملنا مثلا دولة مالطا الأوروبية التي تقع في عرض البحر الأبيض المتوسط بين تونس وايطاليا، نلفي أنها تزخر بلغة ثلث مفرداتها عربية لاسيما ضمن المجال اليومي المعتمد والذي يؤكد حضورا طاغيا للعربية في اللغة المالطية منذ قرون خلت.
أخيرا، إن تقوية الجبهة اللغوية للعربية الفصحى رهينة بالنهوض بقطاع البحث العلمي والتنمية الثقافية الحقيقية، والمنطقة العربية برمتها في حاجة لتضافر جهود المؤسسات والفاعلين بغية تنزيل نهضة لغوية تقوي جبهة لغة القرآن الكريم، وتزيد من مساحة حضورها اليومي في حياتنا بدل الاقتصار عليها في قطاعات مدرسية وإدارية رسمية مناسباتية.